ترجمة وتحرير نون بوست
من خلال رحلاتي العديدة التي زرت فيها أكثر من 160 دولة حول العالم، لم أرَ بلدًا أروع من اليمن، حيث العنف يصوغ جمالها الرائع ويكتنف غموض سكانها.
في الوقت الذي كانت تحط فيه طائرتي في مطار اليمن الدولي، كنت قد انتهيت للتو من قراءة الصحيفة الناطقة باللغة الإنجليزية في البلاد، وشد انتباهي حينها مقالة صغيرة حول سائح هولندي كان قد تم اختطافه في الآونة الأخيرة من قِبل قبائل الجبال، وأُفرج عنه بعد أسبوعين من المفاوضات، هذا الخبر لم يكن ممتعًا ولا جميلًا، أو على الأقل هكذا كنت أعتقد، ولكن عندما تابعت قراءة المقال، شُدهت من تعليق الصحفي الهولندي على حادثة أسره، التي وصفها بأنها كانت تجربة رائعة، وأن رجال القبائل عاملوه كأنه ضيف شرف، وأروه أجزاءً من البلاد التي لم يكن له أن يراها لولا تم اختطافه، وكما قال الصحفي الهولندي في المقال “لقد كان الاختطاف أفضل جزء من رحلتي”.
كان هذا في عام 1998، وحينها كان من الشائع بالنسبة لسكان الجبال المحرومين من حقوقهم إحراج الحكومة المركزية من خلال احتجاز السياح ومن ثم المساومة للإفراج عنهم مقابل ضخ الحكومة للاستثمارات اللازمة في تلك المناطق، كتعبيد الطرقات وافتتاح المدارس والمستشفيات، وبمعنى آخر، هذه الاختطافات لم تكن تهدف إيذاء أي شخص.
ولكن للأسف، في كثير من الحالات، تم استبدال هذا التكتيك من الاحتجاج غير العنيف بشكل أشد شراسة من الهجوم على السياح الغربيين من قِبل قبائل الجبال، وحصل ذلك بدافع من التطرف الديني، أو نتيجة للمعارضة السياسية، أو للنفوذ والتأثيرات الخارجية العازمة على زعزعة استقرار الحكومة.
قبل 17 عامًا، عندما سافرت في جميع أنحاء اليمن مع سائقي ودليلي المحلي، سالي، وزوجين فرنسيين التقيتهما في العاصمة صنعاء، كانت اليمن بلدًا آمنًا، ولكن رغم ذلك، كانت الحكومة تصر على مرافقة الحراس المسلحين لنا ضمن الفان الذي يقوده سالي، وأحيانًا كانت تتبعنا شاحنة صغيرة تم تركيب منصة لإطلاق الصواريخ عليها، بغية تأميننا والحول دون تعرضنا لأي أخطار أمنية، ولكن حتى الجنود الذين حُشروا في المقعد الخلفي لسيارة سالي، كانوا يدركون بأن هذه الإجراءات كانت استجابة مفرطة؛ هدفها توفير العمل للرجال اليمنيين العاطلين عن العمل الذين يكسبون بعض المال مقابل توفير هذه الحماية غير الضرورية.
بجميع الأحوال، وحتى ذلك الوقت، كان سكان اليمن ملتزمين بالعرف العربي القديم الذي يوجب حسن ضيافة الضيف واستقباله بحفاوة ربما تفوق الحفاوة التي يستقبلون بها عائلاتهم الخاصة، وفعلًا، وبغض النظر عن بعض النظرات المريبة التي رمقنا بها الشبان المتموضعون على قمة الجبل، كنت أشعر بأنني محل ترحيب وأنني لم أكن عرضة لأي خطر.
المناطق الجبلية الشمالية من اليمن تفيض بعشرات القرى الحجرية الجاثمة بشكل غير مستقر على حافة الجبال، والوصول إليها في بعض الأحيان لا يكون ممكنًا إلا من خلال طرقات حصوية ضيقة وملتوية تسلكها سيارات الدفع الرباعي، وبخلاف ذلك، لا يمكن الوصول إليها إلا من خلال السير على الأقدام.
أحد المناطق الخلابة الأكثر شهرة في جبال اليمن الشمالية هي شهارة، التي تقع على ارتفاع حوالي 8000 قدم، ويصل ما بين جانبيها، الذي يتوسطهما وادٍ بعمق 1000 قدم، جسر مقوس من الحجر الجيري تم بناؤه في عام 1600 للميلاد.
في شهارة، قضيت ليلة وضحاها، ونمت على حصير في غرفة جدرانها حجرية غير مزخرفة أو متكلفة، ضمن منزل إحدى الأسر المحلية، وفي صباح اليوم التالي، استمتعت بإفطار بسيط ولذيذ مؤلف من خبز مقرمش، شاي، بعض من التمور، وعسل، تم دسه لي بصمت ضمن صينية من قِبل ابنة مضيفي الشابة.
ولكن التجربة المختلفة تمامًا كانت تنتظرني عندما زرت إحدى الأسر اليهودية القليلة الباقية في اليمن؛ فتاريخيًا، عاش اليهود في اليمن لمدة لا تقل عن ثلاث ألفيات، ووفقًا للأسطورة، دعت حاكمة اليمن، ملكة سبأ، ملك إسرائيل، سليمان، لإرسال تجار الذهب والفضة اليهود، وفيما بعد تذكر الروايات بأن ابن ملكة سبأ والملك سليمان، منليك، قام بتهريب الكأس المقدسة إلى إثيوبيا.
مع ظهور الإسلام في القرن السابع الميلادي، خضع وضع اليهود السياسي لتغيير جذري نحو الأسوأ، حيث تم الحط من قيمتهم ليصبحوا مواطنين من الدرجة الثانية، واستمرت هذه المعاملة بين مد وجزر حتى أواسط القرن العشرين، وفي عامي 1949 و1950، تم نقل كامل الجالية اليهودية اليمنية، المؤلفة من حوالي 50.000 شخص، إلى إسرائيل من خلال جسر جوي في عملية تمت تسميتها بالبساط السحري.
كنت قد سمعت عن عدد قليل من العائلات اليهودية الذين بقوا بثبات في قرية ريدة في شمال اليمن، وبعد بعض الاستفسارات التي استحصل عليها سائقي ودليلي، أخذني إلى مجمع بعيد في إحدى الأمسيات، وهناك تجمعت نحو ثماني عائلات يهودية ضمن منازل تقليدية متعددة الطوابق مبنية من الطوب الطيني، يقطن في كل منزل منها عدة أجيال وبعض الأقارب البعيدين.
ونتيجة لاتباعهم المذهب الأورثوذكسي اليهودي الصارم، وحذرهم بعض الشيء من لقاء الرجال الغرباء، التقيت مع بعض رجال الطائفة اليهودية هناك، وجلسنا على السجاد المنضد بعناية، وقدّم لنا الأطفال الشاي، والنساء بقين بعيدًا عن أنظارنا، ومن خلال مترجم، أدركت بأن اليهود في ريدة استطاعوا الاستمرار عبر الأجيال من خلال ممارسة المهن التقليدية والحرفية في صناعة الفضة والمجوهرات، وأنهم كانوا يعيشون حياة منعزلة للغاية ولكنهم تشبثوا ببقائهم في اليمن، لأن اليمن، كما يقولون، ستكون دائمًا وطنهم ومستقرهم.
في السنوات الأخيرة، وبالتزامن مع التمرد المستمر في اليمن، تعرض اليهود للاضطهاد المستمر، حيث غادرت بعض الأسر البلاد، وفر آخرون إلى صنعاء، حيث يعيشون تحت الإقامة الجبرية في مجمع سكني مسوّر مخصص للعمال الأجانب، والعدد القليل من اليهود الذين لا يزالون في ريدة، يعيشون اليوم وراء الجدران المغلقة في منطقة آمنة خارج المدينة، ومن المرجح أن يختفي هذا المجتمع اليهودي تمامًا بحلول الجيل القادم.
اليمن هي واحدة من أقدم المراكز الحضرية في العالم بأسره، وتوجد في زاوية شبه الجزيرة العربية على امتداد البحر الأحمر وخليج عدن، وكثير من مدنها كانت مزدهرة بالفعل وتعمل في تجارة التوابل والبخور، عندما صور الجغرافي اليوناني بطليموس اليمن على خرائطه قبل 2000 سنة، وحينها كانت تسمى ببلاد العرب السعيدة، لأرضها الخصبة وأمطارها الكافية.
لقد سافرت إلى أكثر من 160 دولة، ولكن اليمن هي البلد المفضلة لدي، وصنعاء هي جوهرة البلاد، ووفقًا للأساطير، تأسست هذه المدينة القديمة على يد سام، نجل النبي نوح صاحب السفينة، وتقريبًا كامل مدينة صنعاء القديمة تفيض بالمنازل متعددة الطوابق “المنازل البرجية” المصنوعة من الطوب، والتي تم تعيينها كموقع للتراث العالمي من قِبل منظمة اليونسكو، ولكن العديد من هذه البيوت القديمة والجليلة أصبحت آيلة للسقوط اليوم مع تقدمها في العمر، حيث تميل على بعضها البعض كأزواج مسنين تتضرع للدعم والإغاثة، بجدرانها الملونة بلون الرمال من الخارج، والتصاميم الفنية المذهلة المنقوشة على الجص، وبالحياة التي تضج بها من خلال نوافذها الملونة الجاذبة للضوء، هذه المنازل الرائعة التي تفيض مدينة صنعاء بآلاف منها، اكتسبت عن جدارة لقب أول ناطحات سحاب في العالم.
خلال رحلاتي الطويلة حول اليمن، كثيرًا ما لهثت في ذهول أثناء مصادفتي لمشاهد اجتذبتني وأسرتني في العصور الوسطى؛ ففي أقصى شرق البلاد، وتحديدًا في وادي حضرموت، تقع واحة شبام حضرموت، المأهولة منذ أكثر من 1700 عامًا، وهي بلدة تحتوي على أكثر من 500 منزل من منازل ناطحات السحاب المشيدة من رمال الصحراء والمحاطة بسور ترابي واقٍ، والتي تسمى، عن استحقاق، بمانهاتن الصحراء.
ولكن للأسف، القتال بين الحكومة اليمنية والمتمردين يعني أن هذه المناطق وغيرها من الأماكن الفريدة التي تضمها البلاد، أصبحت الآن بعيدًا عن متناول المسافرين الجريئين، والأمر الأكثر إحباطًا اليوم، يتمثل باستهداف المناطق التاريخية التي كانت محمية غير ما مرة؛ فالضربات الجوية الأخيرة لمدينة صنعاء القديمة أحالت في لحظة واحدة حضارة المنازل المتعدد الطوابق القديمة إلى ركام.
المصدر: ذا ديلي بيست