ترجمة وتحرير نون بوست
عندما بسطت قوات ابن سعود سيطرتها على مكة المكرمة في عام 1924، أصدر ابن سعود إعلانًا مدويًا تعهد فيه بتوفير الرعاية الملائمة للأماكن المقدسة وتحسين ظروف الحجاج، وهي الظروف التي تدهورت في ظل وصاية الحكام الهاشميين الأردنيين في السابق، وهذا الواجب الذي افترضه ورتبه ابن سعود على نفسه، لم يلقَ قبولًا تامًا أو واضحًا في جميع أنحاء العالم الإسلامي، رغم جميع المؤتمرات التي انتزعت القبول المتردد من ممثلي بعض البلدان، ورغم ذلك، أصبحت رعاية السعودية للأماكن المقدسة، ولا تزال، أهم مصدرًا لشرعية الدولة السعودية التي تعصف بها داخليًا الانقسامات السياسية والدينية، والتي لا تتمتع بأي شعبية في المنطقة، حيث تحوز معظم الأنظمة فيها وجهات نظر متباينة للغاية عن وجهة النظر السائدة في الرياض، ولكن على أرض الواقع، أصبحت الوصاية الفعلية على الأماكن المقدسة إحدى الركيزتين الأساسيتين اللتين حافظتا على تماسك الدولة السعودية غير المعهودة في الظروف التي تكتنفها وتحيط بها، حيث تمثلت الركيزة الثانية باحتياطيات النفط الهائلة التي تم اكتشافها ضمن أراضي المملكة بعد فترة وجيزة.
لهذا السبب كارثة الأسبوع الماضي التي حصلت في وادي منى بالقرب من مكة المكرمة، والتي راح ضحيتها حوالي الـ1000 حاج، تعتبر أكثر من مأساة بالنسبة للمملكة السعودية، فضلًا عن كونها تمثل بالتأكيد حدثًا سياسيًا قد يكون له تداعيات هائلة، كما أن هذه الكارثة هي ليست الأولى من نوعها، حيث حصل حادث مشابه، ولكن على نطاق أصغر، في عام 2006، كما حصلت حادثة أسوأ في عام 1990.
حادث هذا العام المروع جاء في أعقاب حادث آخر وقع في وقت سابق من الشهر الحالي، عندما سقطت رافعة على المصلين في المسجد الحرام، مودية بحياة أكثر من 70 شخصًا؛ لذا فإن هذه المأساة سوف تؤدي إلى إثارة البعض لمسألة ما إذا كانت المملكة العربية السعودية، بالمعنى التقني، دولة حديثة قادرة على استخدام ثروتها لضمان سلامة وكفاءة مراسم الحج، أو ما إذا كان الاختلال الوظيفي الذي تعاني منه هائل لدرجة يصبح معها الخطأ وسوء التقدير أمران لا مفر منهما، وهذا هو بالتأكيد الاتهام الذي توجهه المنافس الرئيسي، إيران، للمملكة العربية السعودية.
وفي هذا السياق، طالب القائد الأعلى في إيران، آية الله علي خامنئي، المملكة العربية السعودية بإصدار اعتذار رسمي عن الوفيات الحاصلة في حادثة التدافع، وذلك إبان خطاب الرئيس حسن روحاني في الأمم المتحدة الذي دعا فيه لإجراء تحقيق واسع النطاق بالحادثة، ورغم تعهد السلطات السعودية بفتح تحقيق بالموضوع، ولكن من المرجح أن يرفض الإيرانيون نتائج هذه التحقيقات بشكل تام بشبهة احتمالات التحيز التي قد تشوبها.
الغضب الإيراني حول حادثة التدافع قد يكون مفهومًا، خاصة في ظل فقدانها لحوالي 140 مواطنًا على الأقل ضمن الحادثة، ولكن الأمر المثير للاهتمام، هو استغلال طهران لهذه المأساة كوسيلة لتقويض منافستها الإقليمية؛ فالسعودية وإيران كانتا على خلاف منذ سنوات، والحرب الأهلية السورية، بالإضافة إلى التدخل السعودي في اليمن، ساعدتا على صقل هذه المواجهة وتصعيدها، رغم وجود بعض العلامات العرضية على إعادة النظر في العلاقات بين طهران والرياض، متمثلة ببعض الاتصالات الدبلوماسية التي طفقت بين مد وجزر في الشهر الماضي، ولكن بشكل عام، لم يتغير النمط الأساسي لتوتر هذه العلاقة.
نظرة موضوعية لكلا البلدين، قادرة على أن توضح بأن كلًا من السعودية وإيران لا تمتلكان الوسائل ولا المؤهلات اللازمة للهيمنة على المنطقة؛ فمنبع عدم القدرة الإيرانية يتأتى من كونها شيعية، مما يعني اختلافها العرقي والمذهبي والديني عن الأغلبية العربية السنية التي تقطن الجزء الأوسط من منطقة الشرق الأوسط، أما عدم القدرة السعودية فتنبع من مواقفها الهامشية وقلة عدد سكانها، وبعبارة أخرى، الجائزة التي يتنازع الطرفان لاغتنامها بعيدة عن متناول كليهما، ومع ذلك لا يبدو أن هذا الأمر يردعهما عن المحاولة.
من هذا المنطلق، يمكن رؤية هذا النزاع على أنه الملاذ الأخير لبقاء كلا النظامين على المدى الطويل؛ فإيران لديها بالتأكيد نقاط ضعفها، ولكنها تتمتع بقدر معين من الاستقرار الداخلي، كما أنها وفي عهد الرئيس المعتدل نسبيًا، روحاني، كانت أكثر نجاحًا في سورية من المملكة العربية السعودية، فضلًا عن أن الاتفاق النووي الأخير عزز من موقفها.
أما بالنسبة للسعودية، فإنها تعاني من مشاكل أعمق؛ فهبوط أسعار النفط يصعّب من مهمتها في استمالة وشراء ذمم السخط والتبرم السياسي، كما أن الطبقة الأميرية ترامت أطرافها وأصبحت كبيرة للغاية بشكل لم يعد من الممكن معه إدارتها والمحافظة عليها بذات الطرق والأساليب المعتادة، فضلًا عن أن الطبقات المتوسطة والفقيرة لم يعد من الممكن استرضائها إلى أجل غير مسمى بمزيد من الدعم من دولة الرفاه، زد على ذلك بأن التدخل السعودي في اليمن كان تصرفًا يفتقر إلى الحكمة وبعد النظر السياسي، حيث تشير الأدلة إلى أنه على الرغم من أن اتهامات ارتكاب جرائم حرب في اليمن يصعب إثباتها حتى الآن رسميًا، ولكن من المثبت وجود استهتار سعودي واضح بسقوط ضحايا من المدنيين في الحرب، وحتى في حال نجاح التدخل السعودي في نهاية المطاف، فإن هذا النجاح سيثقل كاهل الرياض بمهمة إدارة اليمن وإعادة إعمارها المكلفة، والتي قد تطول وتمتد لسنوات كثيرة مقبلة.
تبعًا لما تقدم، تصبح كفاءة الرجال المكلفين بإدارة المناصب العليا في الدولة السعودية مسألة حاسمة، ففي ظل الشائعات التي تتحدث عن عجز ومرض الملك سلمان، وضعف موقف ولي العهد، الأمير محمد بن نايف، إبان حادثة التدافع بمنى، كونه كان مسؤولًا عن سلامة مراسم الحج، فضلًا عن طموحات وأسلوب الأمير محمد بن سلمان، ولي ولي العهد، والمحرك الرئيسي لمغامرة اليمن، كل ذلك أدى، حسب بعض التقارير، إلى اندلاع انتقادات داخل العائلة المالكة، وتحرك الشكوك حول ترتيب خلافة العهد، وهو الأمر الذي يجب أن يكون مضمونًا نتيجة لتطلب توافق الآراء حول خلافة العهد ضمن العائلة المالكة.
أخيرًا، مدى الضغط الذي يخضع له النظام السعودي نتيجة للحادثة الأخيرة يبقى أمرًا يصعب تخمينه، نظرًا للغموض الذي يكتنف هذا النظام، ولكن الأمر المؤكد هو أن وقوع حادث من هذا النوع، في سياق الصعوبات الأخرى التي ترزح تحت وطأتها البلاد، يجب أن يجلب معه بعض الأسئلة والتساؤلات الخطيرة للغاية.
المصدر: الجارديان