بعد تقاذف الأقاويل المختلفة منذ أكثر من شهر في وسائل الإعلام حول دور “توني بلير” مبعوث اللجنة الرباعية الدولية السابق في مفاوضات تجري بين حركة المقاومة الإسلامية حماس الحاكمة لقطاع غزة من جهة، و بين دولة الاحتلال الإسرائيلي من جهة أخرى، وذلك بهدف عقد هدنة طويلة بين الجانبين مقابل إنهاء الحصار عن قطاع غزة، حيث تم تبادل النفي والإثبات بين أطراف المفاوضات.
خرجت مؤخرًا إلى وسائل الإعلام حقيقة هذه المفاوضات ومصيرها بعد أن اعترفت حماس في السابق بوجود لقاءات مشتركة بين ممثلين للحركة وأطراف أوروبية بغية إتمام اتفاق هدنة طويل الأمد، وعلى النقيض كان الاحتلال الإسرائيلي يرفض التعليق على مثل هذه الأخبار، ولكن مؤخرًا أكدت مصادر إسرائيلية أن هذه الوساطة فشلت بدون إبداء أسباب.
أما عن الجانب الحمساوي فقد خرج زياد الظاظا، عضو المكتب السياسي لحركة “حماس” ليتحدث عن أسباب فشل هذه المفاوضات لأول مرة صراحةً في تصريحات خاصة أدلى بها لموقع “الخليج أونلاين” قال فيها أن: “بلير لم يقدم لحركة حماس أي إجابات واضحة من قبل الجهات المعنية، حول مطالب وشروط حركة حماس التي وضعتها مقابل الموافقة على تهدئة تكون ضمن فترة زمنية محددة في قطاع غزة”.
كما ذكر الظاظا أن الحركة طالبت رسميًا بلير بتقديم تعهدات “مكتوبة” من قبل الجانب الإسرائيلي والإدارة الأمريكية والوسيط بملف التهدئة، تتضمن عملية رفع الحصار الكامل عن قطاع غزة، والمتطلبات كافة بما فيها المعابر والميناء والمطار، إلا أن بلير آثر تقديم تعهدات شفوية بهذا الجانب وهو ما رفضته الحركة رفضًا باتًا، وهو ما أدى إلى فشل كل محاولات بلير التي استمرت طوال الشهور الماضية.
مطالبات حماس هذه بالتوقيع على اتفاق مكتوب جاء خشية أن تكون هذه التهدئة تكرارًا لمأساة أسلو، بحيث تكون الاتفاقية مجرد دعاية ولقاءات مصورة دون أن يوجد أي إلزام للطرف الإسرائيلي بتنفيذ بنود التهدئة، وهو السر وراء تمسك حماس بهذا الشرط الذي رُفض من الجانب الإسرائيلي.
ليس هذا هو السبب الوحيد وراء فشل وساطة بلير ولكنه الذي ذكرته حركة حماس فحسب، ولكن ثمة أسباب إسرائيلية نشرتها بعض الصحف العبرية مؤخرًا، فتبعًا للتقارير المنشورة عن فشل المفاوضات خشى الجانب الإسرائيلي من الاعتراف الأوروبي بحماس إذا تمت هذه الصفقة، حيث لاحظت الحكومة الإسرائيلية أن مجرد الدخول في مفاوضات أدى إلى اتصالات أوروبية-حمساوية مباشرة، ومع توقيع اتفاق من الممكن جدًا أن ينتهي باعتراف أوروبي بحماس وليس بالتعامل معها كحركة إرهابية.
كذلك لم ترد إسرائيل خسارة حليفها في السلطة الفسلطينية محمود عباس الذي أبدى امتعاضه من هذه المفاوضات من الأساس بسبب استبعاد سلطته منها واقتصارها على حماس ودولة الاحتلال فقط، فقد تخوفت إسرائيل من تغليب حركة حماس بهذا الاتفاق على غريمتها حركة فتح، إذ اعتبرت أن عقد اتفاق تهدئة سيقضي على المستقبل السياسي لمحمود عباس، لذلك آثرت دولة الاحتلال أن ترفض متعمدة شروط حركة حماس بوصفها شروط خيالية لا يمكن أن تقبلها إسرائيل.
لم يخلُ الأمر من الحديث عن تراجع حمساوي في النهاية بعد أن حذرتها بعض الأطراف من المضي إلى فخ إسرائيلي لفصل قطاع غزة عن الضفة بهذه الخطوات عن طريق بعض التسهيلات التي ستزيد الحصار تدريجيًا، وهو إخراج لقطاع غزة من دائرة الصراع الإسرائيلي الفسلطيني عبر تحييدها وإعطاء قضيتها روح الاستقلال، وفي النهاية رفضت الحركة استدراجها إلى اتفاق مماثل لأوسلو الذي عارضته الحركة قبل ذلك.
فيما ذكرت الصحف الإسرائيلية سببًا آخر غير متوقع في وجهة نظر البعض لفشل وساطة بلير، هو رفض الجانب المصري لمبدأ هذه الهدنة من الأساس، حيث صرحت صحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية أن مصر مارست ضغوطًا على الجانب الإسرائيلي لحمله على عدم التعاطي مع مبادرة بلير، حيث تنظر السلطة في مصر الآن إلى حركة حماس بعين العداء باعتبارها امتداد إقليمي لجماعة الإخوان المسلمين، لذلك ترفض إعطائها أي شرعية دولية بهذه التهدئة وتواصل عملية خنق قطاع غزة وحصاره بإجراءات أكثر صرامة من تلك التي تتخذها دولة الاحتلال لحصار القطاع.
وسيط جديد
بعد فشل وساطة بلير الأخيرة بين الحركة والجانب الإسرائيلي، أكدت حركة حماس وجود وساطات عدة من جهات عربية ودولية للمضي قدمًا في ملف التهدئة وإعمار قطاع غزة، في حين تؤكد الحركة دائمًا أنها لا تجري أي مباحثات مباشرة مع الجانب الإسرائيلي ولكن الاحتلال الإسرائيلي هو من يرسل الوفود تلو الوفود من أجل إجراء المشاورات معهم.
ومن ضمن الوسطاء الجدد التي أعلنت عنهم الحركة شخصية “نيكولاي ميلادينوف” وزير الخارجية البلغاري السابق، وهو سياسي بلغاري كان عضوًا في البرلمان الأوروبي فترة 2007-2009، وقد عينته الأمم المتحدة ممثلًا لها في العراق ورئيسًا لبعثتها “يونامي” لمساعدة العراق، كما تفيد التقارير أنه يحظى باحترام لدى حركة حماس.
في حين يسعى الوسيط الجديد ميلادينوف في عدة ملفات أبرزها التهدئة والموظفون ورفع الحصار عن القطاع، وفتح المعابر الحدودية والمصالحة الداخلية بين حركتي فتح وحماس، وإعادة إعمار غزة.
وقد حاول المبعوث الدولي الجديد الظهور لدى قادة حركة حماس بمظهر جديد لكسب ثقتهم من خلال طرح غير تقليدي لقضايا التهدئة الخلافية، وقد برز ذلك في زيارته الأخيرة لقطاع غزة والتي التقى فيها بإسماعيل هنية قائد الحركة في غزة ونائب رئيس المكتب السياسي للحركة، وهو ما يوضح أن ميلادينوف يريد أن يظهر بأداء مغاير لبلير، حيث تخطى في زيارته تلك موسى أبو مرزوق المكلف بمتابعة ملفات الحركة مع الجهات الدولية، وذهب إلى غزة مباشرة للقاء قادة الحركة هناك.
كما آثر ملادينوف تغيير سياسة الحديث عن الهدنة طويلة الأمد إلى سياسة البدء بتحسين الوضع المعيشي في قطاع غزة، وهو نوع من اللعب على أوتار حساسة لدى حركة حماس بسبب تأزم الوضع المعيشي في القطاع جراء الحصار الإسرائيلي المصري الخانق على غزة.
ولكن حتى الآن تشير مصادر داخلية في الحركة أن التعاطي هذه المرة سيكون حذرًا للغاية مع طرح ملادينوف بعد فشل المفاوضات مع بلير التي أثارت بلبلة داخل صفوف الحركة مع ترويج شائعات بقرب عقد تهدئة طويلة الأمد بالرغم من فشل المفاوضات في النهاية، تلك المفاوضات التي لم تنل الحركة منها سوى مزيدات داخلية وخارجية.