لا شك أن المسألة السورية تُعد اليوم من أعقد القضايا التي تشهدها الدبلوماسية الدولية والتي تتباين بخصوصها الآراء وتتمايز فيها التحليلات والتوقعات حد التناقض، أكثر من أربع سنوات مرت على اندلاع الحراك الشعبي في سوريا ليتحول بسرعة إلى رقعة شطرنج لاعبوها كثر، ولكل منهم أجندته وحساباته التي تواصل تثبيتها فوق هضاب الجماجم وأنهار الدماء.
ومما لا شك فيه أيضًا هو أن ظهور داعش قلب العديد من الموازين وأربك كثيرًا من الحسابات، وبعد أن جمعت داخل “تنظيمها” عديد التناقضات من عرب وعجم ومدنيين وعسكريين ونساء ورجال، هاهي اليوم تدفع تناقضات المجتمع الدولي للالتقاء باحثين عن مخرج لهذه الأزمة التي لم تجد ظهيرًا جديًا قادرًا على حسمها في هذا الاتجاه أو ذاك، والتي خرجت منها داعش فائزة مع نجاحها في عملية استيطان سيخلدها التاريخ وسيسكب كثير من الحبر بغية سبر أغوارها وفهم تفاصيلها، كسبت بها مساحات هامة بين العراق والشام ،معلنة عزمها استجماع شروط تشكيل الدولة الحلم.
أبرز مؤشرات التقارب الدولي بخصوص سوريا تجلت من خلال ما أعلنه وزير الخارجية الأمريكي، جون كيري، خلال مؤتمر صحفي مع نظيره البريطاني فيليب هاموند منذ عشرة أيام، من أن موعد رحيل الرئيس السوري بشار الأسد عن السلطة يتم تقريره على طاولة المفاوضات، حيث اعتبر أن رحيل الأسد أمر لا نقاش فيه لدى إدارة الرئيس أوباما لكن المدة والطريقة يجب أن تتخذ في إطار عملية جنيف والتفاوض، مضيفًا أنه ليس بالضرورة أن يكون من اليوم الأول أو الشهر الأول، باعتبار أن هناك عملية يجب أن تجتمع فيها كل الأطراف للتوصل إلى تفاهم بشأن كيفية تحقيق ذلك على أفضل وجه، وجاءت تصريحات كيري في وقت تجري بلاده وروسيا اتصالات بهدف التوصل لحل للأزمة السورية، فقد أعلن البنتاغون قبل ذلك أن وزيري دفاع الولايات المتحدة وروسيا جددا الاتصالات عالية المستوى بينهما لبحث النزاع في سوريا.
وفي الإطار ذاته، شهدت مواقف العواصم الأوروبية مؤخرًا تغيرًا جوهريًا في مواقفها، خاصة مع ما مضت فيه روسيا من سياسة الأمر الواقع بالتدخل العيني في الشأن السوري من خلال التصريح ثم التنفيذ، بالإضافة إلى حالة الفزع التي انتابتها جراء سيول اللاجئين السوريين، حيث دعا وزير الخارجية الألماني فرانك فالتر شتاينماير إلى تشكيل حكومة انتقالية في سوريا للخروج من المأزق الحالي، بالتزامن مع دعوة رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون لإجراء محادثات حول مرحلة انتقالية من غير الضروري أن يتنحى فيها بشار الأسد فورًا عن السلطة، وهو ما مثل نقلة نوعية في التصريحات الأوروبية التي لم تعد تقبل ضمنيًا بقاء الأسد فقط، بل أصبحت تنادي بتوفير الظروف الملائمة لتحقيق تسوية يكون الأسد طرفًا فيها.
وإذا ما استثنينا الموقف الفرنسي الذي حافظ على راديكاليته تجاه الأسد مع بعض التعديل الذي تم استنتاجه من تصريح وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس بأن “الأسد لا يمكن أن يحكم سوريا إلى الأبد”، يمكن أن نستنتج أن الأوروبيين وصلوا إلى قناعة مفادها أن محاربة تنظيم “داعش” بات يتطلب حضورًا عسكريًا على الأرض بعكس التوجهات الأمريكية التي ترفض أي تدخل عسكري بري في سوريا، ولما كانت الدول الأوروبية الكبرى غير قادرة على القيام بعمليات عسكرية برية خارج حدودها من دون غطاء أمريكي، يبدو أنها وجدت في التدخل العسكري الروسي فرصة لإلحاق هزيمة بـ “داعش” بعدما فشل التحالف الدولي طوال عام في تحقيق إنجازًا عسكريًا يذكر.
يضاف إلى ما سبق ما اعتبره محللون تغيرًا في موقف إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما بشأن الدور الإيراني في سوريا، حيث تحدثت صحيفة نييورك تايمز الأمريكية عن سعي الإدارة الآن لضم طهران إلى جهود إنهاء الصراع هناك، حيث أشارت إلى جهود يبذلها وزير الخارجية الأمريكي جون كيري لإدخال إيران إلى جهود البحث عن حل سياسي للصراع في سوريا خلال اجتماع جمعه بجواد ظريف أواخر الأسبوع الماضي في مقر الأمم المتحدة، وهو ما يناقض ما قامت به الإدارة الأمريكية مطلع العام الماضي عندما منعت إيران من حضور مؤتمر للسلام بشأن سوريا، على خلفية وجود فيلق القدس الإيراني التابع للحرس الثوري ضمن المشاركين في الصراع داخل سوريا، فضلاً عن عدم قبول المسؤولين الإيرانيين بهدف المحادثات المتمثل في تشكيل إدارة انتقالية سورية بالتوافق بين المعارضة والحكومة.
هذا التقارب الدولي عنوانه الأبرز محاربة داعش التي يبدو أنها أوجعت كل المتدخلين في الشرق الأوسط لدرجة التراجع عن مواقف سابقة بل حتى مناقضتها، وهو ما يدل على أن داعش لن تواجه حلف الشمال الأطلسي الذي أمضى أشهرًا يقصف هنا وهناك، بل ستشهد قريبًا حرب العالم كله ضدها.
وبالرجوع إلى خارطة امتداد جيوب هذا التنظيم، نجد أنها تتركز أساسًا في القارة السمراء بالإضافة إلى تمركزها الأكبر بين العراق وسوريا، والقضاء عليه سيمر ضرورة عبر تحجيم هذا الامتداد واختزاله في منطقة تجمع هذه الجيوب بطريقة تسهل مراقبتها ومحاربتها، ولئن كانت منطقة الشرق الأوسط ساخنة بطبعها لأهمية الثروات التي تحتوي ولكثافة الحسابات السياسية الدولية فيها، تبدو منطقة شمال أفريقيا أقل أهمية إستراتجيًا بالنسبة لأصحاب المصالح الكبرى، وهو ما يفسر غياب العزم الحقيقي على فرض تسوية ليبية – ليبية مثلاً مقارنة مع تركيز أكبر مع باقي المناطق الساخنة، ما قد يدفع أصحاب القرار الدولي لفتح بوابة عبور خلفية لدواعش العراق وسوريا نحو ليبيا التي لازالت تحوي تلك المقومات التي تسيل لعاب داعش من انتشار للفوضى وغياب للدولة وتواصل التحارب الداخلي، اعتمادًا على تكتيك الكماشة الذي لم ينجح في الموصل والذي لا يزال بعض الإستراتيجيين يقولون بإمكانيات نجاحه في فترة ما بعد تطهير الشرق الأوسط من التمركز المكثف لأتباع البغدادي.