من أسباب تخلف الأمة الإسلامية، أنها أمة تجهل تاريخها وتجهل أمجادها وبطولاتها وتجهل عظماءها، وعلينا جميعًا أن ندرك أن الأمم الحية فقط هي من تعتني بحياة عظمائها وكبارها، وتستقي من علمهم وعملهم وسيرهم النور الذي يقودهم في ظلمات وأنفاق الجهل والتخلف والغلو والأمية “الثقافية والدينية”، وكلما يكتب الإنسان عن هذه الشخصيات المجهولة لدى الغالبية العظمى من المسلمين، كلما يدرك في الوقت عينه أسباب تخلفهم.
ومن هؤلاء الذين يجب على الأمة أن تدرس حياتهم وتبحث عن آثارهم، وتنقب عن علومهم وأفكارهم وأبحاثهم ومؤلفاتهم، الدكتور والمفكر الجزائري “مالك بن نبي” أحد رواد النهضة الفكرية الإسلامية فى القرن العشرين ويعتبره المفكرون والباحثون امتدادًا للعلامة ابن خلدون، ويعتبر مالك بن نبي ومدرسته من أكثر المدارس الفكرية التي كان لها أثر واضح في تحديد وصنع ملامح الفكر الإسلامي الحديث، خاصة أن هذه المدرسة اهتمت أكثر من غيرها من المدارس الأخرى بدراسة مشكلات الأمة الإسلامية، انطلاقًا من رؤية حضارية شاملة ومتكاملة، وهو أول من حدد قواعد الإصلاح بالاعتماد على علم النفس وعلم الاجتماع والتاريخ، وقد أظهر أمراض الأمة مع وصف أسباب نهضة المجتمعات، ووضع الاستعمار تحت المجهر؛ فحلَّل نفسيته، ورصد أساليبه في السيطرة على الأمم المستضعفة، وخاصة المسلمين، ووضع لهم معادلات وقوانين “الإقلاع الحضاري”.
نشأته
هو مالك بن عمر بن الخضر بن مصطفى بن نبي، وُلِدَ في مدينة “تبسة” التابعة لولاية قسنطينة شرقي الجزائر في (ذي القعدة 1322هـ = يناير 1905م) زمن الاحتلال الفرنسي لها، كانت تبسة التي قضى فيها معظم طفولته أقرب إلى البداوة وذات حضور فرنسي ضعيف؛ فاستمرَّ في تلقي الدروس في المساجد مع التحاقه بمدرسة فرنسية، حيث أصبحت لغة المستعمر أداة التعبير في مؤلفاته لأمد طويل، وقد تأثَّر بصديقٍ له دائم الاستشهاد بآيات القرآن وتفسيرها تفسيرًا اجتماعيًّا، كما تأثر بأبناء مدينته المعتصمين بالإسلام والعربية حتى لا تذوب هويتهم في هوية المستعمر، كما تأثر بمجلة “الشهاب” التي تصدرها جمعية العلماء المسلمين، برئاسة عبد الحميد بن باديس.
في عام 1930 سافر بن نبي إلى باريس لمواصلة تعليمه في معهد الدراسات الشرقية، لكن إدارة المعهد لم تقبله بحجة أنه “مسلم جزائري”، وكتب بن نبي عن هذه الواقعة “لم يتم قبولي بالمعهد، لأن الانتساب للمعهد بالنسبة لمسلم جزائري لا يخضع لمقياس علمي، وإنما لمقياس سياسي”، فاضطّر للتعديل في أهدافه وغاياته، فالتحق بمدرسة “اللاسلكي” للتخرج كمساعد مهندس، ولكن مالك بن نبي لم يخضع لعنصرية فرنسا، وإنما نفذ ما أراده في الدراسة وفي الحياة الفكرية، واختار الإقامة في فرنسا وخاض حينها نقاشاتٍ كثيرة في العقائد مع المسيحيين، وتزوج من فرنسية أسملت على يديه، واستطاع مالك أن يوسع شبكة علاقاته الفكرية والثقافية في باريس، فالتقى هناك شكيب أرسلان وغاندي، وصار له حضور متميز في أوساط المغاربة والجزائريين، حتى لُقِّب بزعيم الوحدة المغربية.
تراثه العلمي
قدم المفكر الجزائري مالك بن نبي للمكتبة الإسلامية خلفه ثروة فكرية تعتبر بصمة في الفكر الإسلامي المعاصر، يزيد عددها عن ثلاثين كتابًا، وهي مؤلفات وصفت أمراض الأمة الإسلامية وطرق علاجها وشروط النهضة، فأصدر كتابه الظاهرة القرآنية في سنة 1946 ثم شروط النهضة في 1948، الذي طرح فيه مفهوم القابلية للاستعمار ووجهة العالم الإسلامي 1954،
انتقل إلى القاهرة بعد إعلان الثورة المسلحة في الجزائر سنة 1954م وهناك حظي باحترام كبير، وتعتبر هذه المرحلة الأخصب في حياته كلها، فقد أنتج مجموعة مؤلفات أهمها “مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي” (أهم ما كتبه بالعربية في القرن العشرين) وكتب “الفكرة الأفريقية الأسيوية” 1956، وما ميز هذه المرحلة هو ترجمة بعض مؤلفاته للغة العربية، بعدما اكتشف المثقفون المشارقة في مصر ولبنان والعراق أهمية أفكار هذا المفكر الجزائري، وتوالت أعماله الجادة ومنها آفاق جزائرية (1964)، الإسلام والديمقراطية (1968)، المسلم في علم الاقتصاد (1972)، كذلك كتب “فكرة كومنولث إسلامي”، “مشكلة الثقافة”، “بين الرشاد والتيه”، “دولة مجتمع إسلامي”، “المشكلة اليهودية”، “نموذج المنهج الثوري”.
وبعد استقلال الجزائر عاد إلى بلاده، فعين مديرًا للتعليم العالي الذي كان محصورًا في جامعة الجزائر المركزية، حتى استقال سنة 1967 متفرغًا للكتابة، بادئًا هذه المرحلة بكتابة مذكراته، بعنوان عام مذكرات شاهد القرن.
مذكرات شاهد القرن
نقل مالك بن نبي في مذكراته صورة من نضاله الشخصي في طلب العلم والمعرفة أولًا، والبحث في أسباب الهيمنة الأوروبية ونتائجها السلبية المختلفة وسياسة الاحتلال الفرنسي في الجزائر وآثاره، ممّا عكس صورة حية لسلوك المحتلين الفرنسيين أنفسهم في (الجزائر) ونتائج سياستهم، ووجوهها وآثارها المختلفة.
ويعتبر الكثير من المفكرين أن مالك بن نبي هو ابنَ خلدون العصر الحديث، وأنه أبرز مفكر عربي عُنِيَ بالفكر الحضاري منذ ابن خلدون، ومالك نفسه لا يخفي تأثره بفكر ابن خلدون ونظرياته حول العمران البشري، بل أشار إلى ذلك في مواضع شتَّى من كتبه، كما ذكر ذلك في مذكرات حياته “شاهد القرن”.
شروط النهضة لدى ابن نبي
يقول الدكتور عليش لعموري، أستاذ الفلسفة في المدرسة العليا للأساتذة عن شروط النهضة لدى “بن نبي”: إن إجهاض النهضة تسبب في أزمة سياسية دائمة عند العرب والمسلمين، وأضاف “لقد نبه بن نبي النخبة السياسية إلى أن تعتمد في معالجة قضايا الأمة على فهم الواقع، وأي إصلاح أو تغيير يجب أن ينطلق من الأرض التي يعيشون فيها”، ويتابع لعموري “بن نبي تأثر بفكر ابن خلدون في مسألة بناء الحضارة عندما قسمها إلى ثلاث مراحل، تبدأ بتلبية الاحتياجات الغريزية، وفي المرحلة الثانية تلبي الاحتياجات العقلية، أي الفكر والحضارة، والمرحلة الثالثة انهيار الحضارة وزوالها، وهو يرى أن معوقات بناء الحضارة تكمن في قابلية المجتمعات العربية والإسلامية للاستعمار، وهو يعني التفكير بعقلية الآخر، والذوبان فيه دون التفريق بين هويتنا وهوية الآخر”.
ومن أهم ما دعا إليه المفكر الجزائري مالك بن نبي المسلمين، أن يعيشوا بعقلية الزمن الحاضر لا بعقلية الماضي، وهو أحد شروط النهضة التي حددها مالك بن نبي كما قال الدكتور مولود عويمر أستاذ التاريخ في جامعة الجزائر “وهي بناء الإنسان، والمحافظة على المكان، وإعطاء قيمة للزمن”، وهي شروط لم تتوفر لدى العرب والمسلمين، ويضيف عويمر عضو جمعية العلماء المسلمين الجزائريين “رغم انتقاد بن نبي للغرب ووجهه الاستعماري، وكشفه خلفيات الصراع الفكري مع الغرب الرامي إلى تعطيل المشروع الحضاري الإسلامي، فإنه أنصف الغرب في أحكامه، فلم ينكر دوره وإسهامه في البحث العلمي وتوفير أسباب الراحة المادية للبشرية، ولم يرَ مانعًا من التعاون مع الغرب على قاعدة الاحترام المتبادل”.
يرى الدكتور محمد مختار الشنقيطي، أن المفكر الجزائري كان من الأوائل الذين امتلكوا الشجاعة للغوص في أسباب الأزمة السياسية التي تعيشها الأمة، مبينا أن لكل حضارة أزمتها وأزمة الحضارة الإسلامية هي أزمة السلطة.
وقد انطلق مالك بن نبي من فكرة محورية هي أن نهضة أي مجتمع تتم في نفس الظروف التي شهدت ميلاده، وعلى هذا فإن إعادة بناء المجتمع المسلم الحديث لا بد أن تنطلق من الفكرة الدينية كأساس لأي تغيير اجتماعي، لهذا كانت الآية الكريمة: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]، نقطة ارتكاز مهمة في منظومته الفكرية، ولمالك بن نبي مجموعة من الأفكار المهمة.
لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟
في كل كتاب من كتب مالك بن نبي كان هناك جزءًا من الجواب، فقد وجد أن القابلية للاستعمار هي السبب الرئيس في تخلف المسلمين، حيث ينفرد بن نبي بهذا المصطلح “القابلية للاستعمار” الذي استعمله أول مرة عام 1948 في كتابه “شروط النهضة”. ويعتقد بن نبي أن الظروف التاريخية والاجتماعية والنفسية لشعب تجعله يقبل الاستعمار.
تقول الباحثة الجزائرية أميمة أحمد، “قدم بن نبي رؤية في الاقتصاد الإسلامي لتجنب الأزمات الاقتصادية، وهي الاعتماد على الاقتصاد الحقيقي (الإنتاج)، وعالج بن نبي الاقتصاد الإسلامي بوصفه سلوكًا للمسلم، حيث يصبح السلوك الرشيد قوة لهذا الاقتصاد وذا تأثير على مراكز القوى السياسية في العالم، واعتمدت أفكار بن نبي الاقتصادية على الفقه الإسلامي وحرية الاجتهاد، وفق الظروف الاجتماعية والاقتصادية والتقنية، ويؤكد ضرورة التوازن بين الاستهلاك والموارد، لافتًا إلى أن أي خلل في ذلك التوازن سيؤدي إلى أزمة”.
وتضيف: “العمل هو مصدر الثروة عند المفكر مالك بن نبي، فيما يرى أن جزءًا من أرباح الاقتصاد الرأسمالي ناتج عن المضاربات، ويقوم الاقتصاد الإسلامي – حسب بن نبي- على ثلاثية (اليد – الفكر – المال)، ويحدد المال بأنه ذلك الناجم عن العمل، ويعد بن نبي أول من تحدث عن “حرب العملات” أو “حرب الصرف”، وقال إن ارتباط اقتصاد دولة بعملة معينة يرهن اقتصادها بهذه العملة”.
وعن نظرياته الفكرية الأخرى بالاضافة إلى “القابلية للاستعمار”، تضيف الباحثة الجزائرية: نظرية “طغيان الأشياء”، و”طغيان الأشخاص”؛ فهو يرى أن مقولة إن “تكديس الأشياء هو الحضارة”، فكرة خاطئةٌ؛ لأن الحضارة هي تصنيعُ الأشياءِ وإنتاجُها، لا استيرادها وتكديسها، أما في طغيان الأشخاص، فيرى أن المسلمين ينتظرون ذلك البطل الذي سيأتي ويأخذ بأيديهم وينصرهم على أعدائهم، فهم دائمًا في انتظار “صلاح الدين”، لكي يأخذ بأيديهم.
لا خير في أمة تهمش نخبتها
وقد وصف مؤسس مشروع النهضة الدكتور جاسم السلطان مالك بن نبي بأنه كان “صرخة في غير وقتها”، خصوصًا في بناء الفكر الإسلامي الحديث ودراسة المشكلات الحضارية عموما، سواء من حيث المواضيع التي تناولها أو من حيث المناهج التي اعتمدها في ذلك.
وقال السلطان إن بن نبي تعرّض لظلم وتجاهل من قِبل نخب الأمة، ولعل لهذا التجاهل أسبابًا منها على سبيل المثال: أن مالك بن نبي كتب فكره باللغة الفرنسية، وراح ضحية استقطاب حاد صاحب تلك الفترة، فاليساريون صنّفوه على أنه ينتمي للتيار الإسلامي، والإسلاميون كانوا يرون فيه مفكرًا يساريًا أو ليبراليًا، وحقيقة مالك بن نبي أنه كان مفكر أمة بامتياز.
من أقواله وعباراته الخالدة
يتساءل مالك بن نبي في كتابه “تأملات”، ما الحضارة ؟ ويجيب على هذا السؤال بقوله “أهي من نور الكهرباء وصوت المذياع وما إلى هنالك من المنتجات الحضارية ؟ إنها ليست في شيء من ذلك وحده، ليست في أن أحل مشكلة هنا ببناء مدرسة ومشكلة أخرى ببناء مستشفى من غير أن يكون ذلك كله متوائمًا مع توجيه لإمكاناتنا نحو البناء في كل مكان وفي أهم مكان، أعني نحو البناء من داخل النفس بأن تغير تلك النفس الساكنة المستكينة التي انفصلت عن المجتمع وأسلمته وأسلمت نفسها إلى الجهل الذي نراه اليوم بيننا متفشيًا ونرى أنه ينفع في علاجه بناء مدرسة، والمرض الذي يتراءى لنا علاجه في بناء مستشفى إلخ، فإن هذه المشاكل الأخيرة والملحّة كلها سوف لا تجد حلها ببناء مدرسة للأولى ومستشفى للثانية، إن حلّها بإصلاح الفساد في الرأس، ذلك المنبع الذي ما زال يشيع الجهل والمرض وهي النفس الإنسانية. وحينئذ سوف يؤدي المستشفى عمله على أتمه والمدرسة أيضًا”.
أما في كتابه “ميلاد مجتمع” فيقول: “لا يقاس غنى المجتمع بكمية ما يملك من أشياء بل بمقدار ما فيه من أفكار، ولقد يحدث أن تلم بالمجتمع ظروف أليمة كأن يحدث فيضان أو تقع حرب فتمحو منه عالم الأشياء محوًا كاملًا أو تفقده إلى حين ميزة السيطرة على عالم الأفكار وهنا يكون الخراب ماحقًا، أما إذا استطاع أن ينقذ أفكاره فإنه يكون قد أنقذ كل شيء، إذ إنه يستطيع أن يُعيد بناء عالم الأشياء”.
ويرى في كتابه “مشكلة الثقافة”، أن الأفكار الغربية الليبرالية أو الماركسية هي انعكاس لواقع معين سواء أكان هذا الواقع حضاريًا أو أيديولوجيًا، وهذه الأفكار غير مجدية لواقعنا العربي الإسلامي، وليس ذلك لخطأ هذه الأفكار بالنسبة لمجتمعاتها، ولكن ذلك لعدم اتّساقها مع أبعاد هذا الواقع العربي الإسلامي، ويحاول أن يضع تعريفًا شاملًا للثقافة يتّسق مع واقعنا العربي الإسلامي.
ومن أشهر عباراته: “نحن نستورد أدوات المدنية لكن لا نتعامل معها بشكل حضاري”.
“مشكلة النهضة تتحلل إلى ثلاث مشكلات أولية: مشكلة الإنسان، مشكلة التراب، ومشكلة الوقت”.
“المشروع الإصلاحي يبدأ بتغيير الإنسان، ثم بتعليمه الانخراط في الجماعة ثم بالتنظيم فالنقد البناء”.
“ليست المشكلة أن نعلِّم المسلم عقيدة هو يملكها، وإنما المهم أن نرد إلى هذه العقيدة فاعليتها، وقوتها الإيجابية، وتأثيرها الاجتماعي”.
“الصعوبات النفسية لأي مجتمع بما فيها العربي أوضح دليل على بداية النهضة واليقظة”.
“العلم هو الطريق الوحيد للاستفادة من المبدأ الأخلاقي وذوي الجمال والمنطق العملي ، فهي بلا علم لا تعني شيئًا”.
“إن العواصف الجوية والأعاصير تجر معها سيولًا هائلة من الماء وتترك وراءها في البلد الذي تجتاحه الخراب والموت، لكنها تترك أيضًا طميًا تتجدد به الحياة في ذلك البلد فتنشط وتنمو الطبيعة من جديد”.
وقد رد بن نبي على تهميشه، قائلا قبيل وفاته: “سأعود بعد ثلاثين سنة وسيفهمني الناس”، وتحقق بالفعل ما ردده العلامة الجزائري مالك بن نبي، وبالرغم من أنه رحل في 31 أكتوبر 1973م وهو في الثامنة والستين من عمره إلا أن علمه ومؤلفاته ونظرياته وصلت إلى إندونيسيا وباكستان وماليزيا والمشرق العربي وشتى بقاع العالم الإسلامي.