منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية باحتلال برلين وسقوط النازية بدأ السباق المحموم بين أمريكا والاتحاد السوفيتي، وبدأت ملامح العداء والكراهية تظهر بين حلفاء الأمس، حتى أن أمريكا وضعت خطة في عام 1946 بضرب الاتحاد السوفيتي بـ40 قنبلة نووية، وبدأ السباق على أشده بين الدولتين بانطلاق الحرب الباردة التي كادت أن تتحول إلى ساخنة في أكثر من مرة.
وفي تتبع لهذه الأحداث نجد أن الاتحاد السوفيتي كان في أغلب الأحيان يتراجع عن مواقفه مع أمريكا؛ ففي أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962 ضاقت الخيارات على خروتشوف، الزعيم السوفيتي، فاضطر إلى قبول الشروط الأمريكية بسحب الصواريخ النووية من كوبا مقابل تعهد أمريكا بعدم غزو كوبا، وقيل في جملة ما قيل إن أمريكا أيضًا تعهدت بسحب صواريخها من تركيا مع أن ذلك لم يكن ضمن ذلك الاتفاق، وهذا القرار كلف خروتشف كثيرًا، حيث تم تنحيته في أكتوبر 1964 بسبب اتهامه بالإذعان للضغوط الأمريكية وهي من جملة أسباب التنحية.
وفي العام 1967 نشبت الحرب العربية الإسرائيلية بين كل من مصر، الأردن، سوريا والعراق، وإسرائيل وانتهت الحرب بخسارة العرب لكل من الضفة الغربية وغزة وسيناء والجولان، ولم يذكر أن الموقف الروسي غير الدعم سوى أنه هدد إسرائيل في حال اجتاحت وتوغلت في سوريا بضربها بقاذفات القنابل ولكن بعد فوات الأوان طبعًا.
في العام 1973 اندلعت الحرب مرة أخرى بين العرب وإسرائيل، وحطم الجيش المصري خط بارليف، وقبل نهاية الحرب استطاع الجيش الإسرائيلي استغلال ثغرة تدعى “الدفرسوار” والالتفاف على الجيشين الثاني والثالث المصري وحصارهما وتدمير بطاريات صواريخ سام الجوية، وتحرك شارون يريد التوجه نحو القاهرة، هنا تحرك بريجنيف وبدأ يهدد ويتوعد وقام بتشغيل الصواريخ النووية وحرك سفنه الحربية في المتوسط إلا أن تهديد أمريكا هي الأخرى جعل بريجنيف يتراجع وتم وقف إطلاق النار.
وفي العام 1973 لم يتحرك الاتحاد السوفيتي لإنقاذ حليفه سلفادور أليندي رئيس تشيلي من انقلاب الجنرال بينوشيه المدعوم أمريكيًا، حيث قتل أليندي أمام باب قصره
وفي العام 1979 دخلت القوات السوفيتية أفغانستان لتتورط في حرب دعمتها أمريكا بكل قوة من عتاد ومال، حتى أنهكت هذه الحرب الاتحاد السوفيتي الذي لم يستطع وقف هذا الدعم.
وفي العام 1990 كانت حرب الخليج الثانية وكان الاتحاد السوفيتي قد وصل إلى مرحلة الانهيار التام وكانت البيرسترويكا إحدى سياسات جورباتشوف التي عجلت بنهايته إضافة إلى حرب أفغانستان حينها وقف الاتحاد السوفيتي إلى جانب قوات التحالف تاركًا العراق بين أيديهم.
وما تلى ذلك من انهيار وتراخي في الساحة الدولية من حرب البوسنة إلى صربيا إلى الشيشان إلى كوسوفا، إلى التخلي عن العراق في 2003، إلى أزمة جورجيا وأوكرانيا إلى مشروع الدرع الصاروخي، إلى التخلي عن القذافي إلى أوكرانيا، الحديقة الخلفية لروسيا والتي أصبحت مرتعًا لأمريكا هي وبولندا وجورجيا.
إن الملاحظ لهذا التتبع يعلم جيدًا أن روسيا دولة، بكل ما أوتيت من قوة وإمكانات، لم تستطع الوقوف أمام الهيمنة الأمريكية في العالم، وإن وقفت فإنها لا تستطيع أن تستمر بالوقوف، فالروس من يتتبع تدخلاتهم الخارجية يعلم جيدًا أنهم لا يجيدون اللعب في السياسة ولهذا يلجأون دائمًا إلى استعراض العضلات بالقوة.
ومدى انعكاس هذا الكلام على التدخل الروسي في سوريا يرسم صورة واضحة المعالم لما سيكون عليه الحال لروسيا في حال غرقت في المستنقع السوري، وهي في حالة اقتصاد منهك، ومنهك جدًا، ولو قارنا غرق أمريكا في فيتنام والعراق مقارنة بغرق روسيا في أفغانستان، ولاحقًا في سوريا سنجد أن الغرق الأمريكي كانت خسائره الحقيقة بشرية أكثر منه مادية، فالدولار كعملة عالمية يجعل من أمريكا غير أبهة كثيرًا، فالكل يحتاج الدولار وبالتالي ليس هناك أي خسارة مادامت عجلة المطابع للورقة الخضراء تدور في الطباعة، أما روسيا فهي أيضًا كسائر الدول تتعامل بالدولار، وصعود الدولار أو هبوطه يعنيها كثيرًا.
إن المستقبل الذي ينتظر روسيا في سوريا هو مستقبل مُدمر؛ فهذه الدولة التي تعاني من أزمات اقتصادية وأزمات سكانية ستفني شبابها في مستنقع لن يكون بالهين الخروج منه إلا بانكسار كبير، حتى لو استخدمت كل إمكاناتها العسكرية للتقليل من الخسائر فالاقتصاد لا يمكن أن يتحمل انتكاسات أخرى، سوريا ستكون نهاية أي دولة تفكر في الغوص في مستنقعها، لأنها مصدر استنزاف لا أكثر ولا أقل.