تُعد أزمة تدفق اللاجئين التي تعاني منها الدول الأوروبية هذه الفترة من أكبر التحديات التي تواجهها، إذ لم يسبق أن حدث أمر مماثل منذ الحرب العالمية الثانية، وهي الحقبة التي أدت إلى ظهور منظومة قانونية تؤطر لأول مرة وضع اللاجئين وحقوقهم وأساليب حمايتهم، حيث كانت البداية لنشوء الإرث الحقوقي في أوروبا، ومن المتوقع أن تؤدي الأزمة الحالية إلى التأثير على القوانين المتعلقة باللجوء والتنقل وتغيرها مرة أخرى، لكن في أثناء ذلك يتضح أن تعامل الدول الأوروبية مع هذه الأزمة ليس متماثلًا فهناك دول تبدي تسامحًا حيال استقبال أعداد إضافية من اللاجئين مثل ألمانيا، في حين أن هناك دولًا تظهر تململًا وقلقًا، ويعود ذلك إلى عدد من المحددات أهمها:
– المستوى الاقتصادي: هناك دول مثل ألمانيا والسويد ذات اقتصاد قوي ومزدهر ترحب باللاجئين وتستقبل منهم أعدادًا كبيرة، فالسويد مثلًا قبلت خلال السنة الماضية حوالي 30 ألف طلب لجوء، نفس الأمر بالنسبة لألمانيا حيث لا توجد مخاوف من المبالغ التي ستُصرف على اللاجئين ولا تأثيرهم على الاقتصاد، بل العكس، بعض الخبراء يؤكدون حاجة الاقتصاد الألماني لدماء شابة من المهاجرين.
في حين أن دولًا تعاني من صعوبات اقتصادية، مثل دول أوروبا الشرقية، تبدي صرامة أكبر في التعامل مع اللاجئين، فحتى وقت قريب كانت دول أوروبا الشرقية تصدّر المهاجرين والعمالة نحو دول أوروبا الغربية بحثًا عن حياة أفضل، وهذا يفسر تعامل المجر مثلًا مع اللاجئين باعتبارهم عبئًا جديدًا، والترويج إلى أن قدوم هؤلاء اللاجئين سيكون سببًا في رفع نسبة البطالة وتدهور الاقتصاد.
– درجة فعالية المجتمع المدني: الدول التي يوجد بها مجتمع مدني نشيط وفعال وعلى قدر من التعقيد المؤسسي والخبرة، من المتوقع أن تبدي تسامحًا أكثر تجاه اللاجئين، فضغط الحركات الاحتجاجية التي نظمتها مؤسسات المجتمع المدني أدى إلى تأثير مباشر على قرارات الساسة؛ ففرنسا مثلًا كانت ترفض استقبال حصة إلزامية من اللاجئين مثلما دعت المفوضية الأوروبية لكن هذا تغير بعد الاحتجاجات التي شهدتها عدة مدن إثر انتشار صورة لإيلان كردي الغريق، التي أدت إلى تحريك المشاعر وتشجيع منظمات المجتمع المدني على الضغط من أجل القيام بنشاط ما للحد من المأساة الإنسانية الحاصلة.
– نفوذ اليمين والجماعات المناهضة للمهاجرين: يمكننا أن نتوقع المزيد من القيود والتضييق على المهاجرين بشكل عام، ومن ضمنهم اللاجئين في الدول التي يكون فيها حضور قوي لليمين سياسيًا، ففي المجر لم يخفِ رئيس الوزراء المحسوب على الاتجاه اليميني، فيكتور أوربان، ضيقه من اللاجئين القادمين إلى بلاده في أكثر من تصريح، بعضها أدى إلى انتقادات واسعة من قِبل مسؤولين غربيين.
كما أن نشاط الحركات المعادية للمهاجرين أو الإسلام من المتوقع أن يؤدي إلى فرض المزيد من الاحتياطات، قد يكون من ضمنها رفض استقبال أعداد إضافية، خاصة إذا ترافق نشاط هذه الحركات مع أعمال شغب وتخريب، ومن الأمور المقلقة أن نجد أن رصيد اليمين وهذه الحركات قد زاد نسبيًا في بعض الدول الأوروبية إثر أزمة اللاجئين الأخيرة.
– حجم تدفق اللاجئين: هناك دول أوروبية تعاني من ضغوطات أكبر من الدول الأخرى، وهي الدول الحدودية مثل اليونان، إيطاليا، إسبانيا، وحاليًا المجر؛ حيث تصل إليهم أعدادًا كبيرة من اللاجئين، وإن كان أغلبهم لا يودون البقاء بل يعتبرون هذه الدول كمحطة للتنقل داخل أوروبا بسبب الامتياز الذي تمنحه لهم اتفاقية الشنغن، إلا أن هذه الدول تواجه ضغطًا كبيرًا على حدودها، فبعضها، مثل إيطاليا، أصبح ملزمًا بتبني عمليات إنقاذ مكلفة على سواحلها، وأخرى وجدت نفسها مضطرة لبناء معسكرات أماكن احتجاز ومخيمات لإيواء هؤلاء اللاجئين ريثما يغادرون إلى وجهتهم التي يريدون الوصول إليها، خصوصًا أن هذه الدول تعاني من ضائقات مالية واقتصاديات متعثرة، لهذا السبب نجد أنها تفرض الكثير من القيود لدخول اللاجئين والمهاجرين إليها.
– العامل الديني: بعض الدول أبدت قلقها من اندماج اللاجئين المسلمين، وفضلت استقبال لاجئين من الديانة المسيحية، بدعوى أن هؤلاء سيكون إدماجهم سهلًا، من ضمن الدول التي أوضحت هذا الاتجاه قبرص وسلوفينيا والمجر، رغم وجود أقليات مسلمة بها، لكن يبدو أنها أقل تسامحًا مع فكرة الاختلاف الديني، هذه المخاوف تظهر أيضا في دول أوروبا الغربية لكن لا يتم الإفصاح عنها صراحة من قِبل الساسة بسبب تراثها الحقوقي، حتى لا تظهر وكأنها تتبنى أراءً عنصرية ضد فئة معينة.
– المخاوف الأمنية: لم تعد تقتصر فقط على انتقال الجهاديين إلى دول أوروبا، بل أيضًا القلاقل التي قد ترافق استقبال اللاجئين، مثل قيام الحركات المعادية للمهاجرين بأعمال عدوانية في مخيمات اللاجئين والمساجد وغيرها، في الوقت الذي لم تجد فيه آذانًا صاغية من قِبل الساسة.
– طبيعة المنظومة القانونية المتعلقة بالمهاجرين: هناك دول لديها منظومة قانونية متشددة تتعلق بالمهاجرين مثل هولندا؛ من المتوقع أن دولًا مماثلة لن تستقبل أعدادًا كبيرة من اللاجئين بسبب الصعوبات القانونية، في حين أن الدول التي لا توجد بها الكثير من التعقيدات القانونية قد تستقبل أعدادًا كبيرة نسبيًا.
العوامل السابقة تفسر السلوك الأوروبي تجاه قضية اللجوء كما تفسر أيضًا سبب الانقسام وعدم التجانس في هذا المجال، إذ يتضح جليًا أن الدول الأوروبية تحكمها متغيرات متباينة، لكن المزيد من التفهم قد يؤدي إلى الوصول إلى اتفاق بين هذه الدول، وإلى سياسة موحدة في هذا الملف، تقى أوروبا من الوقوع في أي متاعب أو إشكاليات مستقبلًا.