“و في هذه الحفرة أيضًا قد دفنت قلبي أيها الرجل، فما أقوى ساعديك!”
هكذا، وبحزن يلف السماء بأسرها، انتهت قصة “سلمى كرامة”، وتوارت ملامحها الشجية البريئة، وروحها الرقيقة الصفية، وقلبها النابض بالحب، توارت تحت التراب.
هكذا أنهى القدر مأساة سلمى، بضمها في طي التراب، لكن في الحقيقة هذه البداية، هي بداية حياتها التي تحبها، بعيدًا عن ظلم الحياة، حيث تحتضن الأمومة، وترضع طفلها في عالم البرزخ، وتجالس والدها، الرجل الذي سقى طفولتها وشبيبتها بأرق المشاعر وأجمل الخصال، وقد ضمهم قبر واحد.
الصراع ما بين الحياة والموت، حكاية جدلية، تهاوت على حافتها أقلام الكثير من الكتاب، والمؤلفين والشعراء، فكان “جبران خليل جبران” في “الأجنحة المتكسرة” طارقًا لباب هذه الأسئلة، وناحرًا لكثير من الأجوبة التي تكبل كاهلنا، وسارحًا في عالم بعيد، في عالمٍ من الرقي الروحي، والسمو في العلاقات الإنسانية، حيث جسد “سلمى كرامة” أنثى بروحٍ رقيقة، أخذت روحه إلى عوالم من صمتٍ، وحب لا مثيل له، بعد أن دعاه والدها “فارس كرامة” إلى بيته ليسمع منه عن خليل جبران وليعرفه على سلمى التي سمت بقلبه، تحت القمر، وغازلت روحه في ليلة ظللها الحب بجناحه، وأخذهما إلى حيث لا رجعة.
ولدا في تلك الليلة على شاطئ الحب، وانتشلا منه في الليلة ذاتها إلى شواطئ الحسرة والحرمان والفراق، روحان حلقتا، ودفنتا في الليلة ذاتها، سلمى، تلك الرقيقة التي رباها والدها بين الورد والحدائق الغناء، لتصل روحها إلى كف عاشقٍ يهفو قلبه لنظرة منها، وللحظة صمتٍ تضمه وإياها، هذه اللحظة، عارضتها الظلمة في الحياة، فصارت من نصيب جشع الحياة، كابدت وصارعت الحياة كي تصل إلى بر الأمان، وتستقر روحها بيدٍ آمنة، لكن جشع الحياة كان أقوى، وطمع النفوس كان أكبر من عمرها الرقيق، سرقتها اليد الآدمية التي لا تفطن معنى للحب، خطفها جسد خاوٍ من الروح، لا يدرك من الحياة إلا فتاتها المادي، ولم تهف نفسه يومًا لروح بريئة، فكل انشغاله بالمادة الفانية، لا الروح الأبدية.
وذاك العاشق الذي ضمت روحه في ذات الليلة بين الحياة والموت، الذي ردت روحه إليه على حينٍ لحظة حب، ونزعت أشلاء قلبه بلحظةٍ تلتها، فصارت أشواقه وعواطفه سيلًا من جنونٍ يصب حياته من أسى إلى أسى، ذاك العاشق الذي حملنا بحبه لــ “سلمى” ووصفه لقلبها، وطهر روحها إلى كارثة زمنية أزلية، لازمت الكثير من المجتمعات، وكسرت ملامح الحضارة في أوساط الكثير من الأمم، لسطو الجاهل الجشع على رقاب الأحرار الأبرياء، وتمكن الظالم من أيام الأبرياء وسلب أعمارهم وابتسامات المحبة داخل قلوبهم، ليحيا قلبه الجشع، وتطفو ويلات روحه، وعذاباتها على نقاء الأيام واللحظة، فيغدو العالم علبًا من الألم، تنغمس فيها القلوب الشفافة، فتمتلئ بؤسًا وخيبات.
والكاتب القمري، ذاك المؤلف الذي ينتقي مفرداته من نجوم المساء “جبران خليل جبران” الشاعر والأديب اللبناني، يطير بنا في هذه الأجنحة على بوابة حبه الأول، وعمره ثمانية عشر عامًا، تنقل جبران في حياته، واشتهر في العالم الغربي والعربي، حيث وجد فنه شهرة وترجم أدبه إلى لغات عدة منها الإنجليزية والفرنسية، وله البذرة الأولى للرابطة القلمية التي أسهها مع ميخائل نعيمة وغيره في المهجر في أمريكا الشمالية، محاولة منهم لتجديد الأدب العربي، إذ له صولات في الشعر والنثر، والكثير من المؤلفات، وربما أصدقها ألمًا وهو يجسد قصة حبه في “الأجنحة المتكسرة” وكل الخيبات والأحزان والمآسي وانفراط القلوب وتبعثرها حول بعضها، وركضها طويلًا لاهثة بين كهوف الحياة وشعلة الموت، حيث تموت سلمى وهي منغمسة في مشاعر لا توصف، ماتت وهي في غمرة الأمومة، واحتضان طفلها البكر، منقذها الذي جاءها من الله يأخذها إليه، تضمه – أو الصدق – هو يضمها ويهديها لطريق السلام، بعد كهولة الحياة التي عاشتها، والألم الذي رافقها، جاء طفلها الذي استلها من يد زوجها الذي لم يفلت كأسه حين علم بموت زوجته وطفله.
ودفنت قصة سلمى تحت التراب، ومضى المعزون في غمرة حديثهم عن زواج الظلم من جديد إذا ما اختفت إحدى ضحاياه التي شرد أحلامها وبراءتها، وظلت سلمى تنبض بقلب العاشق المنكسر، الذي خلد ذكر سلمى وطهرها وبراءتها، وظلت ملامحها تحتضن قلبه المكلوم، يهدهده حبها، وجملتها التي رافقتها طويلًا ، تشد من صبرها على ويلات الحياة، تنتظر شعلة الموت لتضئ حياتها الأخرى “أشفق يا رب، وشدد جميع الأجنحة المتكسرة”.