ترجمة وتحرير نون بوست
خلال نشأتي في ثمانينات القرن المنصرم في أثينا، اعتدت على سماع تعبير يوناني مزعج، ولكنه كان شعبيًا ومحبوبًا من قِبل السيدات الحضريات الطامحات اللواتي ينتمين لطبقة اجتماعية معينة، ويمكن ترجمة هذا المثل بشكل تقريبي ليصبح “الحيوانات المتوحشة ستطارد حتمًا الحيوانات المروضة الوديعة”.
وبطبيعة الحال، كان هذا المثل يستخدم في نهاية أحاديث النم للتعبير خطابيًا عن الغضب، ولكن لم يتم تقديم أي تفسير مقنع يشرح سبب مطاردة الحيوانات المتوحشة حتمًا للحيوانات الوديعة، وبالنسبة لي، كان انطباعي حول هذا الموضوع متمثلًا بأن هذا المثل ينبع من النظام الطبيعي للأشياء، وتعززه حكايات والداي الأسطورية التي تحذر من انهيار الإمبراطوريات المترامية الأطراف نتيجة للحماقة.
ولكن، ربما، بالنسبة لدولة فتية تدخل في طور التحضر كاليونان، والتي كانت حريصة على تجاهل الاحتلال العثماني والنازي، وتجاهل صدمات اللاجئين النفسية والمشاحنات المحلية، بغية أخذ مكانها ضمن “الرابطة المروَّضة”، والتي تعرف أيضًا باسم الجماعة الاقتصادية الأوروبية (EEC)، كانت اللآلئ الكامنة في قلب هذه الحكمة الشعبية الرائعة أجزاءً ضرورية لعملية التشكيل الاجتماعي.
العوامل الناشئة
إذا ما سرّعنا الزمن ومضينا فيه عبر 25 عامًا قادمة، سنلاحظ اختمار مجموعة من العوامل الناشئة بسرعة لتكوّن عناصرًا فعالة لعاصفة مثالية، حيث يتم التأسيس اليوم لنوع جديد من الصراعات الداخلية، غير المتكافئة بالغالب، في العديد من البلدان، والتي تتقاطع مع الأزمات الحالية التي يشهدها العالم، كالأزمات الاقتصادية، التدهور البيئي، تضخم العولمة، الاكتظاظ السكاني، وتوزيع الموارد غير العادل.
في أماكن مثل مصر وتونس وسورية، أدى تفاعل هذه الصراعات بادئ ذي بدء إلى تراجع وانحطاط الدولة، مما أدى بالتبعية إلى فرط العقد الاجتماعي القائم على تقديم الولاء للاستقرار والخدمات الاجتماعية، وفي نهاية المطاف شهدت هذه البلدان حروبًا أهلية طاحنة.
وبالمقابل، أدت هذه النتائج إلى ظهور حالة طوارئ للاجئين، من شأنها أن تؤثر علينا جميعًا مع امتدادها خارج نطاق منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، موصلة إلى قلب أوروبا “البريين”، أو ببساطة أولئك الأشخاص الأكثر تكيفًا للبقاء في ظروف الحياة الصعبة.
فهل حان الوقت لتتم مطاردة المواطنين المروَّضين، في القارة الناضجة ديموغرافيًا، والتي تجاوزت مرحلة الأديان ووصلت إلى مصاف العلمانية؟
سن الرعونة
ترعرعت في ثمانينات وتسعينات القرن المنصرم، في عصر تميز بكبح اللجام الذاتي للطيش والرعونة، وحينها تمت صياغة خلفيتي الثقافية من خلال عوامل عصر ما قبل الأزمة في اليونان، وعوامل عصر أنفة وعزة بريطانيا الذي يُطلق عليه اسم “بريطانيا الرائعة” أو “Cool Britannia”، وحينها كان قطاع الأعمال يعمل بكامل قدرته التشغيلية تقريبًا، وكانت المرتبات سخية، والمجتمع يصعد درجات الارتقاء الاجتماعي قدمًا، ومع ذلك لم أكن أدري حينها ما الذي كان يعنيه كل هذا، وحينئذ كانت بريطانيا ترسخ مكانتها كمركز عالمي للخدمات المالية، واليونان تقبل بنهم مدمن المخدرات على الاقتراض من الأسواق.
البعض يتذكر هذه الأيام باسم “الأوقات الجيدة”، وحينها خلقت العولمة ممرًا لننتقل من العالم “النامي” إلى “العالم الأول”، حيث انتشرت السلع الرخيصة والتي تباع بسعر أقل من سعر التكلفة حيث ساعدت وفورات الإنتاج على تعديل كفة الحساب، وفي ذاك الوقت دعونا اقتصادات “العالم الثالث” بالاقتصادات “الناشئة”، رغم أنها كانت مفرغة نتيجة لسياسات التجارة الحرة النيوليبرالية.
التراجع لم يستغرق وقتًا طويلًا ليطفق، حيث جاءت أزمة عام 2008 لتوضح شدة انخراط النظام المالي العالمي وإفراطه بالاستدانة، داحضة روايات النمو الدائم، وحينها أدخل التيسير الكمي ائتمانات جديدة إلى النظام المالي وخفف من وطأة الصدمات الاقتصادية المروعة، ولكن العفن كان قد انتشر في جسم الاتحاد الأوروبي، الذي حمى عملته من خلال التظاهر بأن الإمبراطور العاري يتجول بثياب يلبسها، أو من خلال الزعم بأن اليونانيين سيوفون بديونهم بالكامل.
رفض اتخاذ الخيارات الصعبة، بالتلازم مع الامتناع عن إجراء إصلاحات في النظام الاقتصادي الاستغلالي، قضى على جنوب أوروبا بالضربة القاضية، نتيجة لنظام التقشف الصارم الذي تم فرضه عليها.
واضطر حينها جيل من اليونانيين، الذين بالكاد استفادوا من تحصيلهم العلمي الخارجي المكلف خلال الأوقات الجيدة، لشد الحزام على بطونهم، كما اضطر أصغرهم سنًا وأفضلهم تعليمًا للسفر مهاجرًا بقصد العمل، وخسرت اليونان حينئذ 4% من تعداد سكانها.
العامل التحولي
ولكن أعداد المهاجرين التي تقدر بالملايين التي هربت من المدن المدمرة مثل مدينة حمص السورية، الفلوجة العراقية، صعدة اليمنية، وبنغازي الليبية، أو من الحاضنات اليائسة لمخيمات اللاجئين شبه الدائمة في الأردن وتركيا وشمال العراق، سيكون لها تأثير أكبر بكثير من العوامل السابقة.
فأصغر هؤلاء المهاجرين سنًا، وأقومهم صحة، وأكثرهم مرونة، هم فقط الذين استطاعوا أن يثبتوا أنهم يائسون بما فيه الكفاية ليحافظوا على رباطة جأشهم خلال المسافات الطويلة التي يقطعونها مشيًا على الأقدام، والبحار المتوحشة التي يعبرون لجاجها، والأسوار العالية التي يستلقونها، في سعيهم للزحف شمالًا نحو حياة أفضل، وهذا هو السبب في أن ثلاثة من كل أربعة من الوافدين هم من الرجال الناضجين.
هؤلاء المهاجرون يتمتعون بعاملي الإنتاجية والقوة التحويلية اللذان سيعيدان تشكيل أوروبا والعالم، ودورهم الذي سيلعبونه، خاصة في شمال أوروبا، سيخرج القارة بعنف من لامبالاتها المستديمة على مدى العقود الطويلة الماضية.
الحكمة التقليدية التي تقول بأن حاضرنا لا يمكن أن ينمو إلا لمستقبل أفضل، تم تقويضها نتيجة للتراجع الديموغرافي الكبير الذي تشهده القارة الأوروبية، بالتلازم مع الانكفاء عن الدين، وعدم القدرة على الاستجابة بفعالية للأزمات الاقتصادية، وهذا الواقع يشير حتمًا إلى أن تعطش أوروبا للحياة باشر بالتضاؤل.
لذا فإن اللاجئين القادمين من سورية، وهم في أغلبيتهم من الشباب المتعلمين والمعتدلين ممن يتمتعون بخلفيات حضرية، سوف ينقلون شهوة الحياة من البلاد الشابة، والتي أصبحت الآن محطمة، إلى القارة العجوز المتعبة.
على نقيض ما يجري حاليًا من استقبال بلدان الاتحاد الأوروبي للاجئين لا ينتمون بغالبيتهم إلى سورية، من المفترض أن تتودد أوروبا لقبول اللاجئين السوريين، لأن حضاراتهم لا تقع في مكان بعيد عن أوروبا، بل إن أراضيهم كانت جزءًا من ثقافة أوروبا في الخارج القريب، منذ أن حولت التجارة العابرة للمتوسط قرى الصيد الفينيقية الهادئة إلى مراكز تجارية ضخمة قبل 3500 سنة، كما ساعدت هذه التجارة على تحويل الواحة التي تقع وسط الصحراء إلى مدينة تدمر المجيدة.
رغم السنوات الطوال والعجاف التي شهدوا خلالها المتطرفين الأجانب والجيش الوحشي يحيلون بلادهم إلى ركام متناثر، بقي السوريون إلى حد كبير معتدلين في نظراتهم، وهذا الواقع يثبته التمثيل السوري المتدني نسبيًا في صفوف الجماعات الجهادية الأكثر تطرفًا.
يا لها من مفارقة إذن، أن يكون أولئك السوريون المتعطشون لحياة جديدة والذين يضغطون على المجتمعات الغربية المتميزة، هم أنفسهم مثال على الفارين الوديعين من وجه الوحشية الجامحة.
العديد من الوافدين إلى أوروبا ينحدرون من المناطق التي تسيطر عليها الحكومة في سوريا، وهم، وفي خضم هربهم من بلدهم، يساعدون بشكل غير مباشر على توسيع وتمكين قوة الدولة الإسلامية “داعش”، التي يمكن أن نصفها من هذا المنطلق بأنها القوة الوحشية المجتمعة لتطرد الوداعة من البلاد.
المصدر: الجزيرة الإنجليزية