التاريخ في ظاهره لا يزيد عن الإخبار وفى باطنه نظر وتحقيق، قالها العلامة ابن خلدون في العصور الغابرة ونقلها عنه مفكرون ومؤرخون وفلاسفة، وها نحن اليوم نفتح كتب تاريخ الأمم الحديث، لنفهم أو نحاول؛ من خلال السفر قطريًا على مدى القرن العشرين تسهل ملاحظة تلك القفزة النوعية التي حققتها بعض الدول رغم أنها كانت دون الصفر بكثير، دول ساهم الانكسار ووجع الهزيمة أو هول الكارثة في خلق ثقافة مجتمعية متحدية حققت في بعض العقود ما عجزت عن تحقيق ما دونه دول أخرى.
المعجزة اليابانية وأثر هزيمة الحرب العالمية الثانية
كانت اليابان من بين الدول التي دفعت غاليًا ثمن مشاركتها في الحرب العالمية الثانية، خاصة مع ما خلفته الضربة النووية في هيروشيما وناكازاكي من دمار شامل على مستوى البنى التحتية، ومن حالة انهزام نفسي كبير لدى عموم الشعب، لتتحول بسرعة قياسية إلى بلد يعاني المجاعة والانكسار.
في كتابه “اليابانيون”، بحث السفير الأمريكي إدوين أشاورعن سر النهضة اليابانية وخلص إلى أنها انبنت على مرتكزين اثنين، الأول يتمثل فيما أسماه إرادة الانتقام من التاريخ الذي دفعها نحو هزيمة مزلة، والثاني تمحور حول توجه أصحاب القرار إلى بناء الإنسان الياباني باعتباره أحد أهم مفاتيح تنزيل السياسات والأطر النظرية على أرض الواقع من خلال بناء نظام تعليمي دسم يبث ثقافة البناء والتميز.
الهزيمة التي تعرضت لها اليابان من قِبل قوات الحلفاء أفقدت كثيرًا من السياسيين والمحللين الأمل في قدرة هذه الدولة على أن تنفض الغبار من عليها وأن تقف على قدميها من جديد، فتلك الهزيمة النكراء والخسائر البشرية الهائلة والدمار غير المحدود كانت أسبابًا حقيقية لتموت تلك الدولة بمن فيها، لكن العزيمة والإرادة كانتا تملآن نفوس اليابانيين، هزيمة ألهبت نار الحماس في صدور الشباب الياباني التائق لاستعادة مجد أمته والباحث عن إعادة موضعتها في مصاف الدول المتقدمة بل والمسيطرة في العالم، فحاولوا واستمروا في المحاولة حتى أوصلوا الجميع إلى حالة الانبهار بالنموذج الياباني الذي يستحق أن يكون مثلاً أعلى للدول المتخلفة عن الركب.
وبالإضافة إلى القدرة على تحويل الانكسار إلى قوة دفع نحو الأمام، لم يغب عن الإنسان الياباني أن أكثر من مئة مليون نسمة يجب أن يعيشوا في رقعة من الأرض لا تتجاوز مساحتها 380 ألف كيلو متر مربع تغطي الجبال البركانية نحو 85% منها، إضافة إلى خلوها تقريبًا من أي نوع من الثروات والموارد الطبيعية.
وفي الحقيقة، لا يعود الحلم الياباني بسيادة العالم إلى حدود نهاية الحرب العالمية الثانية، بل سبق تلك الفترة بقرن تقريبًا، فمنذ تولي الإمبراطور ميجي مقاليد الحكم بمساعدة رجال الساموراي عام 1867م، كان هناك قناعة مفادها أن حل المشكلة القومية لليابان هو التحديث، بأن تصبح اليابان دولة عصرية قوية تدخل في المجال الصناعي بكل قوة، ولا بد لها من فتح الأسواق الخارجية بالقوة، والحل يكمن في التوسع الأفقي على حساب الجيران، حيث القوة العسكرية هي المفتاح لتحقيق هذا التوسع، فكان الانتصار على الصين ثم روسيا وكوريا والدخول في الحرب العالمية الأولى والثانية لتستولي على الهند الصينية والفلبين والملايو وسنغافورة وبورما وتايلاند، إلا أن هذه النجاحات المتعاقبة لم تشفع لليابان التي أمضت سنة 1945 اتفاقية استسلام غير مشروط ما أحدث رجة في مسلماتها الإستراتيجية، لتستعيض عن البحث عن التطور خارج أراضيها بالبحث عنه ضمن حدودها، ولتقتنع بأن رصيدها الحيوي يجب أن يفعل داخل أرضها وعبر الإنسان اليابني ذاته، أي التوسع الرأسي من خلال إنسان اليابان وليس التوسع الأفقي من خلال السلاح الياباني.
الألمان حين يصنعون من الهزيمة قوة اقتصادية
لم تكن اليابان الخاسر الوحيد أو الأبرز في الحرب العالمية الثانية، فبعد أن وضعت أوزارها، كان المشهد بائسًا جدًا في ألمانيا، حيث انتهى الأمر بزعيمها الذي وعدها بأستاذية أوروبا وفقدت غالبية المدن الألمانية كل معالمها، فالبيوت هدمت والساحات والميادين أضحت حاضنة للقبور. حرب كبدت الدولة التي يقول المؤرخون إنها جرت العالم بأسره لحرب سحقت الإنسان أكثر من عشرين مليون قتيل،إضافة إلى اثني عشر مليون شريد بعد طردهم من ديارهم في شرق أوروبا، و ثمانية ملايين أسير في معتقلات قوات الحلفاء.
المسألة الاقتصادية على أهميتها لم تكن المشكل الوحيد في ألمانيا ما بعد الحرب، فبالإضافة إلى تقسيمها، تشير الدراسات إلى أن المجتمع الألماني كان يعاني في المقام الأول من انهيار كل القيم التي كان يؤمن بها من قبل، فالزعيم الذي كان رمزًا للقوة، انتحر بالسم مع صديقته وكلبه (يوم30/4/1945م) هربًا من المسؤولية، وفعل الكثير من القادة مثله، أو حكمت عليهم المحكمة الدولية لمجرمي الحرب في مدينة نورمبيرج (في الفترة من 20 نوفمبر 1945م حتى 16 أكتوبر 1946م)، بالإعدام أو السجن مدى الحياة، علاوة على أن قدوم الملايين من النازحين من شرق أوروبا في الأزمة الطاحنة بعد الحرب، زاد من تفاقم الموقف، علاوة على أن هؤلاء (الألمان الغرباء)، كانت لهم من العادات والتقاليد ما لم يكن مألوفًا لدى السكان الأصليين.
ومع كل ما سبق نهضت ألمانيا، ولم يكن الهدف مجرد رغبة في التقدم والرفاهية فقط، بل أيضًا نوعًا من رد الكرامة والاعتبار، وهو ما بدأ على يد “لودفيج إرهارد” الملقب بـ “أب المعجزة الاقتصادية الألمانية”؛ حين شعر منذ عام 1944 بحتمية خروج ألمانيا مهزومة من الحرب فكتب مذكرة بعنوان “تمويل ديون الحرب وإعادة هيكلتها” شملت رؤيته عن كيفية إعادة بناء الاقتصاد الألماني على أساس فكرة “السوق الاجتماعي” التي تقوم على حرية السوق مع الاهتمام بالتوازن الاجتماعي، ليطبق سياسته فور انتهاء الحرب كوزير لاقتصاد مقاطعة بافاريا ثم بعد تأسيس جمهورية ألمانيا الاتحادية عام 1949 كوزير لاقتصاد أول حكومة برئاسة كونراد أديناور.
ورغم إجبار ألمانيا على دفع تعويضات تبلغ قيمتها 1.1 مليار دولار سنويًا منذ نهاية الحرب الثانية (آخر دفعة 1971)، إلا أن إرهارد قام بخطوات طموحة مستفيدًا من دعم شعبه له والتفافه حوله؛حيث تم تغيير العملة بصورة مفاجئة في 19 مايو 1948 بإلغاء عملة “مارك الرايخ” واستبداله “بالمارك الألماني”، وإلغاء ديون الدولة، ثم قام بتحرير السوق وتحديد الأسعار؛ مما أجبر التجار علي إخراج بضائعهم المخبأة لتختفي السوق السوداء وتتراجع أسعار البضائع، لتنتهي الأزمة الاقتصادية في فترة ما بعد الحرب.
وقد اهتمت ألمانيا بتطوير جيشها وزيادة مشاركاته خارج الأراضي الألمانية بوضوح في إطار حلف الناتو ومهام الأمم المتحدة لحفظ السلام منذ حرب كوسوفو ثم أفغانستان، حتي بلغ عدد جنودها المتواجدين في بلاد أجنبية 6793 جنديًا منهم 4734 في “إيساف” في أفغانستان وأوزبكستان، و1226 في “كي فور” في كوسوفو، و341 في “أطلنطا” في القرن الأفريقي، و227 في “يونيفيل” في لبنان، والباقون في مهام في ألمانيا وجنوب السودان والسودان والمجر وأوغندا والكونغو والبوسنة.
من ناحية أخرى فإنها طورت صناعتها التسليحية المتفوقة تكنولوجيًا لدرجة أنها أصبحت ثالث أكبر دولة مصدرة للسلاح في العالم مباشرة بعد الولايات المتحدة وروسيا؛ حيث احتلت 11% من سوق تصدير السلاح العالمي في الفترة بين 2006 و2010 (بمبلغ 13.215 مليار دولار) مقابل 30% للولايات المتحدة (بمبلغ 36.552 مليار دولار)، و23% لروسيا (بمبلغ 27.781 مليار دولار)، ومتقدمة على فرنسا التي احتلت المرتبة الرابعة بنسبة 7% (بمبلغ 9.057 مليار دولار)، وبريطانيا الخامسة 4% (بمبلغ 5.018 مليار دولار).
أما نحن فلا بواكٍ لنا
وعند الانخفاض قليلاً بنظرنا لنلمح محيطنا القريب، قد تكل أيدينا وتمل عقولنا من تعداد الانتكاسات التي مرت بها دولنا، فهاهي فلسطين تقترب من إطفاء شمعة احتلالها السوداء الثامنة والستين، وهي التي خذلت مرات ومرات، وزهقت على أرضها آلاف الأرواح البريئة وهجر منها الملايين واحتلها زمرة من اليهود، قليلون عددًا لكنهم يستبطنون مشروعًا وحلمًا لم يكفوا يومًا من العمل على تحقيقه ومزيد تثبيته.
دول مستهلكة رغمًا حباها الله من ثروات طبيعية، تعودت على المفعولية ويبدو أنها أدمنت عليها، إن سألت على مستويات التعليم فيها وجدت ما لا يسرك، وإن نبشت حول ملف الصناعة سيهينك حجم التخلف الذي تعيشه؛ حتى على المستوى الاجتماعي أضحت موبوءة بشتى صنوف العاهات الاجتماعية.
تتعدد الانكسارات والانهزامات ويترسخ يومًا بعد يوم تخلف هذه الأمة، وتترسخ معه حصانة الشعوب تجاه هذا الواقع، فالضمائر ماتت وذلك الشعور بالدونية لم يعد مقلقًا البتة، بل لعله لم يكن مقلقا أبدًا، كان من الممكن أن نتمنى لدولنا كارثة بحجم فاجعة هيروشيما وناكازاكي أو حربًا ضروسًا لا تبقي ولا تذر علها تحرك الراكد وتزعزع الثابت، لكن ما الفائدة؟ فقد ماتت فينا النخوة وهو موت يورث تلقائيًا للأجيال الصاعدة، وأثبت التاريخ الحديث أننا لسنا من بين الشعوب التي تخلق من الضعف قوة.