بينما يدخل العالم في حرب جديدة من نوعها لمحو فصل جديد من فصول الأمية وهو “الأمية التكنولوجية” أو أمية الحاسوب كما يروق للبعض تصنيفها، لا يزال العالم العربي في الوقت نفسه يجهد في محاربة الأمية الأبجدية وهي عدم القدرة على القراءة والكتابة أو كما عرفتها بعض المنظمات الدولية على أنها ظاهرة اجتماعية سلبية متفشية في معظم أقطار الوطن العربي ومختلف البلدان وبخاصة النامية منها.
كما يختلف مفهوم الأمية من دولة إلى أخرى، ففي البلدان العربية يُقصد بالأمية الإنسان الذي يبلغ الثانية عشرة من عمره ولم يتعلم مبادئ القراءة والكتابة والحساب بلغة ما، هذا المفهوم يختلف الآن عن مفهوم الأمية في العوالم المتحضرة التي تصف الشخص بالأمية عندما يعجز عن توظيف مهاراته الكتابية وغيرها من تعليمه في التعامل مع نظام الحداثة المعاصر.
أما اليونيسكو فقد عرفت الأمية في البرنامج التعليمي لتعميم التعليم الابتدائي وتجديده ومحو الأمية في العالم العربي في العام ٢٠٠٠ تعريفًا جاء بسيطًا في مجمله يتحدث أنه: “يعتبر أميًا كل شخص لا يجيد القراءة والكتابة”. ومعظم البلدان لا تزال تعتمد هذا التعريف كمعيار في احصاءاتها الرسمية عن الأمية. لكن الأبحاث ي الدول المتقدمة رفضت نفي صفة الأمية عن هذا الشخص الذي يجيد القراءة والكتابة من دون فهم لما يقرأ ويكتب، فغيرت اليونيسكو تعريفها للأمية وأضافت معيار الفهم، فجاء تعريف الأمية كالآتي: “الشخص غير الأمي هو الشخص القادر على قراءة وكتابة وفهم نص بسيط وقصير يدور حول الوقائع ذات العلاقة المباشرة بحياته اليومية”.
في حين أن أسباب الأمية في الوطن العربي شديدة التعقيد ومركبة للغاية حيث ضعف البنية الأساسية للمؤسسات التعليمية العائد إلى مزيج من الأسباب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الأمر الذي أدى إلى وجود أكثر من ربع سكان الوطن العربي محرومين من التعليم ومواصلة التعلم، وفقًا لما أعلنته المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم “ألكسو” التي تتخذ من تونس مقرا لها حين أعلنت أن نسبة الأمية بالوطن العربي بلغت 27% تمثل الإناث 60% منها، كما أكدت المنظمة أن هناك أكثر من 6 ملايين طفل وطفلة في الدول العربية غير ملتحقين بالتعليم ممن هم في سن الالتحاق بالتعليم.
هذا الأمر يُشكل كابوسًا مرعبًا أمام العرب الذين أكلت الأمية منهم عام 2000 قرابة ١٥٠ مليون إنسان عربي غير متعلم من أصل 260 مليون إجمالي سكان الوطن العربي آنذاك بحسب إحصاءات الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، وهو ما انطلقت بعده حملات مكافحة الأمية في العديد من البلدان العربية التي اختلفت نتائجها في النهاية.
الأسباب غير متماثلة في كافة الدول النامية لذلك طرق المكافحة لم تكن واحدة ولم تكن كلها جدية بسبب عوامل اختلاف عدة، فلا يمكن بأي مقارنة الدول النفطية المصدرة للبترول بنظيرتها الإفريقية المعدمة في مسألة مكافحة الأمية، إذ تختلف الأسباب والنتائج باختلاف المعطيات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لكل حالة على حدة، والمحصلة النهائية حتى هذه اللحظة أن ملايين الأفراد في العالم العربي ما زالوا لا يتمتعون بمزايا التعليم ويعيشون في حالة فقر مدقع يعزز من تأثير هذه الأمية على البلدان العربية.
فيما تشكل ظاهرة التسرب من التعليم جزءًا كبيرًا من أزمة الأمية، حيث بلغت نسبة هذه الظاهرة ما بين 7% و20% في معظم الدول العربية، وتصل في بعض الدول إلى 30%، حيث تعود هذه الظاهرة إلى ضعف التعليم الأساسي في معظم البلدان العربية ما يؤدي إلى التسرب في المرحلة الابتدائية، هذا التسرب الذي يعتبر أهم رافد من الروافد التي تغذي منابع الأمية المنتشرة في العالم العربي.
هذا الكابوس العربي يُعد الأخطر على مسألة تنمية الإنسان العربي، حيث دقت ناقوس الخطر عدة منظمات إقليمية ودولية مهتمة بمكافحة الأمية حذرت من خطورة الأمية على الوطن العربي، ومؤكدة أن العالم العربي لن يحقق تقدمًا ملحوظًا ما لم يتمكن من القضاء على مشكلة الأمية، حيث تزداد المشكلة تعقيدًا ومع كل هذه الحملات التي تستهدف القضاء عليها زادت سوءًا خلال الأعوام الماضية، حيث أشارت المنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة أن نسبة الأميين العرب الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و45 عامًا، تبلغ 60 %، وطبقًا للمنظمة فإن دولة مصر تحتل المركز الأول من حيث عدد الأميين في الوطن العربي، تليها السودان، فالجزائر، والمغرب، ثم اليمن، وتضم هذه الدول الخمس مجتمعة نسبة 78 % من الأميين في البلاد العربية.
وفي هذا الصدد لا نستطيع الفصل بين الأمية والفقر وقلة الموارد الثقافية في هذه الدول، إذ أن الدول ذات النسب العالية في الأمية ذات مستوى دخل متدني ،وإمكانات قليلة أو عدم مستغلة بشكل جيد، وبالتالي فإن نسبة الإنفاق بها على التعليم لا ترتقي إلى المطلوب لمواجهة مشكلة الأمية، ففي اليمن مثلا تكشف التقارير عن تزايد معدلات الأمية بشكل مقلق لدرجة وصولها إلى 72% نظرًا لقلة كفاءة المؤسسات التعليمية وبنيتها التحتية الناتجة عن الفقر.
كذلك الأوضاع الاقتصادية في كل دولة على حدة تؤثر على الأطفال من حيث مستوى التعليم والرعاية الصحية والخدمات التي يتلقاها هؤلاء. والتفاوت الحاد في مستوى الدخل بين الدول العربية يلعب دورًا كبيرًا في تفاوت الحركة التعليمية. فحتى الآن لم تتوافر بيانات مؤكدة ترسم خريطة للفقر في العالم العربي، وكل البيانات المتوافرة هي من مصادر ثانوية تقديرية تصدر عن جامعة الدول العربية والأمم المتحدة التي ترتكز بدورها الى ما يرد اليها من تقارير من الدول العربية.
كما أن السياسات العشوائية المتخبطة في العالم العربي لمواجهة شبح الأمية الذي يخيم على البلاد أدت إلى مواجهة غير قادرة على الحد من الظاهرة ومحاصرتها، حيث ظهرت سيول من الجمعيات والهيئات الشعبية التي تعمل بعشوائية تامة وفي اتجاهات متناقضة في مجال مكافحة الأمية، كما أن الدول العربية لم تسع أبدًا إلى وضع تشريعات جدية إلزامية للتعليم فيها، مما ساعد على خلق منابع جديدة للأمية.
هذه العشوائية في مواجهة الأزمة أدت إلى ارتفاع معدلات كبيرة من عمليات إهدار الأموال المخصصة للعملية التعليمية وتطويرها فبينما يركز البعض على المحتوى التعليمي يهدر في نفس الوقت البنية الأساسية التعليمية، وبينما يهتم الآخر بالمقاعد الدراسية يُهمل الكيف التعليمي، دون أن تدرك الدول العربية أن العملية التعليمية يجب أن تكون متكاملة لمواجهة الأمية، حيث أدت أيضًا إلى عدم عدالة توزيع الخدمات التعليمية بين الريف والحضر، مع عدم عدم وجود تعريف موحّد للأمية تلتزم به الحملات التي تواجه الأمية.
كما أن الحكومات لم تستطع الالتحام مع الأسباب الاجتماعية لهذه الظاهرة التي أيدتها بعض التقاليد الموروثة التي تحرِم فئة الإناث من التعليم دون سبب واضح، وهذا نتيجة لعدم توافر الوعي الكافي عند الشعوب خاصةً لدى مجتمعات غير المتعلمين. لذا نرى أن ثلاثة أرباع النساء الريفيات أصبحوا أميات، بسبب قصور الدولة والمجتمع في التوعية الجدية لمحو الأمية دون الاكتفاء بعمليات هي أكبر للدعاية دون جدوى حقيقية.
ولا يمكن أن يُنكر أن العدد الكمي للأمية كانت الدول قد نجحت في تحجيمه، ولكن مع مرور الوقت أصبح تعقيد المشكلة كما هو، حيث ظلت أعداد الأميين تتزايد بشكل مضطرد بفعل الزيادة السريعة في عدد السكان، إذ ارتفع عدد الأميين العرب من 50 مليونًا عام 1970 إلى 61 مليونًا عام 1990 ثم 75 مليونًا بحلول عام 2008 ليصل عددهم إلى ما يزيد 100 مليون بعد ذلك، وعلى هذا صنفت منظمة اليونسكو العالمية، التابعة للأمم المتحدة، المنطقة العربية كأضعف مناطق العالم في مكافحة الأمية.
ويعزي البعض هذا الفشل في المكافحة إلى أسباب كثيرة يعد أهمها غياب إرادة سياسية حقيقية في مكافحة هذا المرض الذي ينهش في الجسد العربي، حيث تخصيص ميزانية محدودة لقطاع التعليم وتفضيل القطاعات الأمنية عليه في أوجه الإنفاق، كذلك عدم تدريب القائمين على العملية التعليمية أو تجديد المناهج الدراسية حتى تتماشى ومتطلبات سوق العمل، كما حالة الانكار لتدني الرغبة في التعلم لدى المجتمعات بسبب عدم سيادة تكافؤ الفرص.
كما أن يصعب أن تتحدث عن الأمية وأخطارها بين المجتمعات المغلقة في البلاد التي تواجه ضائقة اقتصادية واضطرابات سياسية طويلة الأمد، تجعل أولويات المواطنين منحسرة في عملية كسب العيش دون النظر إلى أهمية التعليم، وقد يعتقد البعض أنه ليس للأمية آثار اقتصادية سلبية، فعلى سبيل المثال أجريت دراسة في دولة المغرب أكدت كل نقطة مئوية تزيد في معدل الأمية في المغرب، تتسبب في فقدان المملكة ما يقدر بنحو 1.34 في المئة من نمو الناتج المحلي الإجمالي، أي نحو 13 مليار دولار، بحسب دراسة قام بها مكتب محاربة الأمية التابع لوزارة التربية الوطنية والتعليم العالي. من جهة أخرى، فإن متوسط أجر الشخص الأمي يقل بحوالي 14.6 في المئة عن معدل متوسط الأجور.
كذلك هذه الظاهرة في واقع الأمر تعود بشكل كبير إلى ضعف ميزانيات التعليم من جهة وتشوهات التنمية الاقتصادية من جهة أخرى، حيث تتجه التنمية في الاقتصاديات الريعية العربية إلى الاستهلاك أكثر من الإنتاج، والأمة العربية بصفة عامة تصدر أقل بكثير جدًا مما تستورد وتستهلك أكثر مما تنتج، وهذه الظاهرة لها قاعدة في الاقتصاد الذي هو الاقتصاد المشوه والريعي، والذي أدى بدوره إلى هذه انتشار وتفاقم هذه الأمية في الوطن العربي.
كما أن ضعف ميزانيات التعليم مقارنة بميزانيات التسليح أو ميزانيات الإنفاق الكماليات ، نجد ميزانيات التعليم هزيلة للغاية، وبالنظر إلى التجارب الآخرى من الدول التي تسير في اتجاه صناعة النهضة سوف نجد أن ميزانيات التعليم بها أضعاف ما توجد عليه في العالم العربي.