لم يكد يُكمل التحالف الدولي للقضاء على داعش عامه الأول حتى أعلنت روسيا عن تدخلها العسكري المباشر في سوريا، ولقد اتخذ هذا التدخل والذي تم الإعلان عنه في الأيام القليلة الماضية شكلًا غريبًا، فهو ليس اجتياحًا عامًا من قبل جيشٍ نظاميٍ للأراضي السورية، كما أنه لم يعد يقتصر على مجرد دعم النظام السوري بالأسلحة والعتاد العسكري كما كانت تفعل روسيا منذ بداية الثورة السورية، بل إنه مزيج من هذا وذاك، أضف إلى ذلك التدخل الجوي والذي أصبحت معه الأجواء السورية مباحة لطيران عسكري لدولة جديدة !
فقد تم إرسال بعض الفصائل العسكرية الروسية لتشارك في المعركة على الأرض، كما أنه تم إرسال الكثير من العتاد العسكري الذي سيفيد النظام كثيرًا في ظل نقص رهيب في الأسلحة والعتاد يعانيه الجيش النظامي، وهذا بالطبع كان مصاحبًا للغارات الجوية التي بدأها الطيران الروسي أمس بدعوى محاربة الإرهاب وقصف منابعه في سوريا والتي خلفت عشرات المدنيين ما بين قتيل وجريح خلال يومين فقط، كل هذا جاء بعد تصريح النظام السوري والروسي بأن سوريا طلبت رسميًا من روسيا التدخل للحفاظ على ما تبقى من مناطق بيد النظام السوري تحت السيطرة، وهذا لإضفاء بعض الشرعية على هذا الاحتلال المفضوح.
أكثر ما يمكننا أن نشبه به التدخل الروسي على الأرض في سوريا هو أنه تدخل ميليشيات مسلحة لا تختلف كثيرًا عن الميليشيات الشيعية التي تقاطرت أفواجًا من كل أنحاء الأرض على سوريا، ولكن هذه الميليشيات بالطبع مسلحة ومدربة بشكل جيد على العكس من الميليشيات الشيعية، وهذا سيكون له أثر كبير في دعم النظام السوري وتقوية شوكته في ظل تخاذل وصمت عربي وإسلامي مريب، وقد لاقى هذا التدخل مباركة خجولة وتأييد غير رسمي من قبل الولايات المتحدة حين صرحت أن روسيا قد أبلغتها مسبقًا بعملياتها العسكرية التي سوف تتم على الأراضي السورية، مما يشكل خرقًا واضحًا لميثاق الأمم المتحدة ولكل الأعراف والقوانين الدولية التي تمنع على دولة أجنبية أن تتدخل في شؤون دولة أخرى بدون موافقة أممية على ذلك.
لا شك أن التدخل الروسي علامة واضحة على تدهور الحالة التي وصل لها النظام السوري ونظام ولي الفقيه في إيران وميليشياته، فقد أُنهكت هذه القوى على مدى خمس سنوات حتى الآن وهي تحاول السيطرة على الموقف في سوريا ولكنها لم تُفلح، كما أن الخسائر البشرية والمادية التي تكبدتها هذه القوى كبيرة جدًا ولم يعد بإمكانها المتابعة لوحدها فاضطر النظام لطلب المساعدة المباشرة من روسيا.
لاشك أن سوريا قبل التدخل الروسي ليست سوريا بعد التدخل الروسي، ولا شك أن روسيا قوة عظمى وستدفع الكثير مقابل أن تحافظ على مصالحها في سوريا، ولذلك فإن التدخل الروسي لن يكون كما التدخل الإيراني أو غيره، بل سيكون أقسى على الثورة والثوار بلا شك، وهذا مما سيجعل الأيام القادمة في الثورة أيام صعبة على السوريين.
وهنا يحلو للبعض من المتفائلين والحالمين أن يشبه التدخل الروسي في سوريا بالتدخل السوفييتي في أفغانستان في ثمانينيات القرن الماضي، ثم يستنتج من هذا التشبيه أن ما يسميه “المجاهدين” في سوريا سوف ينتصرون على روسيا كما انتصر مجاهدو أفغانستان، ولكن هذا التشبيه خاطئ تمامًا وليس له أي وجه من الصحة.
فالحقيقة هي أن أمريكا هي التي انتصرت على السوفييت في أفغانستان وأن المجاهدين هناك لم يكونوا سوى بنادق موجهة عن بُعد، كما أن المجاهدين الأفغان حينها تعاطفت معهم حكومات العالم العربي والإسلامي بأسره وتم دعمهم ماليًا وسياسيًا بشكلٍ رهيب، وكان هذا برغبة أمريكية بحتة، ووصل هذا الدعم أن اعترفت السعودية والإمارات حينها بهم كحكومة رسمية، ولا شك أن هذا الدعم الحكومي شبه منعدم في الحالة السورية، وأنه أصبح بمجمله يقتصر حاليًا على الجانب الإغاثي والإنساني فقط، وأن كل التصريحات التي أتحفنا بها “عادل الجبير” وزير الخارجية السعودي منذ أيام حول حتمية سقوط الأسد بجهد عسكري هي لمجرد ذر الرماد في العيون وأننا لم ولن نرى أي انعكاس لها على الأرض، لأن القضية السوريا حقيقةً أصبحت أكبر من السعودية ومن قطر ومن تركيا أيضًا !
كما أن أمريكا اليوم أصبحت على العكس من الأمس، فهي لا تريد محاربة الروس في سوريا كما كانت تريد أن تحارب السوفييت في أفغانستان، بل هي سعيدةٌ بوجودهم هناك لأنهم سوف يوفروا عليها عناء التدخل البري في سوريا أو سيؤخروه على الأقل، والواقع يقول أن التدخل الروسي البري والجوي ليس إلا صورةً أخرى للتحالف الأمريكي الذي تحلق طائراته في سماء سوريا منذ العام الماضي، ولا شك أن رؤية وسياسة كلًا من أمريكا وروسيا حيال سوريا لا تختلف كثيرًا، خصوصًا بعد تصريح وزير الخارجية الأمريكي “كيري” منذ أيام بأن الأسد يجب أن يرحل ولكن ليس بالضرورة على الفور، كما تبعه بعد ذلك تصريحات المستشارة الألمانية “ميركل” ورئيس الوزراء البريطاني “كاميرون” ولم يبق في مجموعة الدول الغربية سوى فرنسا والتي أتوقع أن نسمع تصريحاً مشابهًا منها قريبًا.
كل هذه التصريحات الغربية جاءت بالطبع بعد رغبة إسرائيلية مباشرة بتأخير سقوط الأسد تمثلت في مباحثات روسية إسرائيلية في موسكو حول هذا الأمر تلت الإعلان عن التدخل الروسي، ولا شك أن الجار الإسرائيلي ما يزال يرغب ببقاء الأسد وأظن أنه يسعى جاهدًا لتشكيل دويلة علوية تكون دمشق “وليس حمص” هي عاصمتها.
من السخف بأن نقول أن سوريا هي أفغانستان الثانية فلا شيء يبشر بخير حقيقةً خصوصًا مع التفكك الذي تعيشه الثورة، ولو فكرت روسيا بالتوسع وتنفيذ إنزال بري واجتياح روسي عام للأراضي السورية “لا قدر الله” فهذا يعني أن النظام تم تقليده رسميًا حكم سوريا لعدة سنوات أخرى، ولكن ما زلت أظن أن هذه الفكرة مستبعدة لعدة حسابات دولية وإقليمية وأن روسيا لا يمكنها أن تُقدم على حماقة مشابهة.
ما يعوّل عليه لهزيمة روسيا هو حرب الاستنزاف، وهي التي من الممكن أن تنهي جيوشًا عظمى وتفتتها، وهذا ما نجحت الثورة في تنفيذه جزئيًا مع جيش الأسد، ولكن تقف أمامنا حقيقةٌ ماثلةٌ بأن كل من استنزف جيش الأسد وأضعفه هم غير موجودين على الساحة اليوم، وأن من ورث كل هذه الانتصارات هم “أمراء حرب” يسعون لتنفيذ أجنداتهم وأجندات داعميهم فقط كما أنهم مفتتين ومنقسمين أيديولوجيًا وتنظيميًا بشكل رهيب.
فهل ستسطيع الفصائل أن تغير من المعادلة شيئاً بعد التدخل الروسي ؟! لننتظر ونرى.