فجأة ومن دون سابق إنذار حجبت السلطات في السعودية موقع منظمة “القسط” لحقوق الإنسان، والتي تهتم بنشر حقوق الإنسان والتعريف بها فضلاً عن مراقبة الانتهاكات والتجاوزات الحكومية، حيث تظهر رسالة “عفوًا الموقع المطلوب غير متاح” منذ مساء الاثنين الماضي.
إغلاق الموقع الحقوقي يعيد فتح ملف حقوق الإنسان في المملكة (المُثقل بسيل الانتقادات داخليًا وخارجيًا) من جديد، كون هذا الإجراء ما هو إلّا إمعان في خنق الحريات ومصادرة الرأي الآخر وهو ما يشكّل مخالفة واضحة وصريحة للصكوك المتعلقة بحقوق الإنسان وغيرها من الصكوك الحقوقية الدولية والتي تنص على: “حرية نشر اﻵراء والمعلومات والمعارف المتعلقة بجميع حقوق الإنسان والحريات الأساسية أو نقلها إلى الآخرين أو إشاعتها بينهم”.
والإشكالية المعقّدة للغاية، هي أن الدولة مازالت تمنع حالات النضج المدنية بشتى الوسائل والطرق، فضلاً عن أن التشكيلة الإيديولوجية للمجتمع والثقافة السياسية السائدة لا تساعد على إجبار الدولة للقبول بوجود منظمات مجتمع مدني مستقلة لها حصانة تحميها من الملاحقة والمطاردة، كما أن وجود عشرات الناشطين الحقوقيين في السجون دفع الكثيرين إلى الخوف من مجرّد التفكير بإنشاء مثل هكذا منظمات.
هذه الإشكالية تطرح في الحقيقة وفي المقام الأول قضية “الديمقراطية” باعتبارها إطاراً يُسعف الفرد أو الجماعة في التنظيم والاجتماع والمناقشة العمومية لقضاياها الحيوية والتأثير بالتالي على القرارات السياسية المتعلقة بحاضرها وبمستقبلها ، أي ارتقاء المجال السياسي إلى مجال إنتاج شروط تسمح للفعاليات المدنية من التعبير عن إحساسها الفعلي بالمواطَنة من خلالأاخذ الكلمة والمشاركة ، بدل استنزاف قدراتها في مواجهة مختلف أشكال الحصار والقمع والإلغاء.
إذ إن من حقّ المواطنين مراقبة عمل الحكومة ومؤسسات الدولة لتصويب أخطائها كونها من المفترض أنها وُجدت لخدمتهم، لكن وللأسف ما نراه هو أننا محرومون من المشاركة في تطوير بلدنا ونُقمع عن نقد الظلم، وهذا أمر مقلق للغاية، فمن غير المنطقي أن يقتصر دورنا كمواطنين على “التصفيق فقط” حال مشجعي أندية كرة القدم على المدرجات.
فمن المستحيل أن يتقدّم البلد ويتطور ويرتقي مالم يطرح المواطن تساؤلاته ويوجّه نقده للأخطاء الحكومية بحرية، ويدعو المعنيين إلى مكاشفته بالإشكاليات والمخاطر التي تواجه المجتمع الذي يعيش فيه، ذلك لأن المسؤول الواثق بنفسه وعمله لا يخشى المساءلة والمحاججة بل يُفضّله ويستفيد منه، لا أن يَعمَد إلى تكميم الأفواه، لأن مثل هذه الممارسات تولّد العنف، فالفكر الحر لا يعرف مقولة “نحن وحدنا على حق”.
فمن المعروف للجميع أن ثقافة العنف هي وليدة القمع والكبت وخنق الحريات، فعندما تفقد الشعوب حريتها وتعيش في حالة من الخضوع تبرز ظواهر سلبية عديدة في المجتمع ومنها ظاهرة العنف التي تعمل على تعطيل الطاقات الخلّاقة من خلال الاضطهاد الذي ُيمارس عليها، وزيادةً على ذلك فإن مصادرة الآراء تزرع الحقد في النفوس، مما يؤدي إلى نمو حالات سلبية أخرى تؤدي الى إشاعة الفوضى والتخريب والارهاب الذي يهدد نسيج المجتمع ولحمته.
مشكلتنا تكمن في عدم القدرة على تحديد العدو الأول لنا، هل هي المنظمات الحقوقية التي تُساعد في بناء المجتمع، أم خلايا إيران وتنظيم داعش الإرهابي؟ علينا تحديد أولوياتنا والبدء في إحداث انفراجة في الأزمة الحقوقية الحالية، لأنها أحد مفاتيح الحل الحقيقي لعمليات التفجيرات التي تقوّض الأمن، فالمصالحة وتسوية الأزمة هي أمر ضروري قبل الدخول في نفق أسوأ، خصوصاً مع انتشار أفكار التشدّد في المنطقة، لدينا سوريا والعراق وليبيا ومنطقة شمال أفريقيا، ولا ننسى أنّ التفجيرات ضربت قلب دول الخليج ومنها المملكة.
وبطبيعة الحال فإن حالة التشنج التي نعيشها في الوقت الحالي نتيجة انعدام الحريات، لا تخدم المصلحة الوطنية ولا تبني لمستقبل آمن في ضوء الاضطرابات الجارية في الكثير من الدول خصوصاً المحيطة بنا، وعلى أكثر من صعيد، لذا فإن ترتيب البيت الداخلي لكل الوطن وخلق أجواء المشاركة السياسية وإتاحت مساحة أوسع للحريات، هي مقدمات ضرورية وملحة لفتح صفحة جديدة في مستقبل آمن، فالحلول الأمنية وحدها لا تجدي نفعاً والعنف والتعسّف لا يولّد إلا العنف، فسياسة تكميم الأفواه وزرع الرعب والخوف لا تخلق مجتمعات قوية آمنة مطمئنة، بل تُنشئ أجيالاً من الحاقدين والناقمين على كل شيء.