ترجمة وتحرير نون بوست
قصة حب سورية، تم توثيقها في فيلم وثائقي استغرق انتاجه خمس سنوات، يتحدث عن ناشطين سياسيين جمعهما الحب داخل السجن.
إنها قصة رجل وامرأة يكافحان من أجل البقاء على قيد الحياة والبقاء معاً في معركتهما مع أحد أكبر الحكام الديكتاتوريين في الشرق الأوسط، ولو كانت هذه القصة تروي حكاية دراما هوليوودية، لكانت انتهت ربما بهروب أبطال الفيلم إلى الحرية والسعادة في الغرب.
ولكن فيلم “قصة حب سورية” هو ليس فيلماً هوليودياً، إنه فيلم وثائقي من إخراج شون مكاليستر، يحكي قصة واقعية مؤثرة عن حياة عامر، وهو شاب فلسطيني، ورغدة، الشابة العلوية التي تنحدر من مدينة طرطوس الساحلية.
عامر ورغدة هما ناشطان سياسيان اجتمعا في أحد السجون السورية في عهد حكم الديكتاتور حافظ الأسد، وتبدأ القصة عند رؤية عامر لرغدة لأول مرة في السجن، والدماء تنضح من وجهها إثر أحد جلسات التعذيب العديدة التي خضعت لها، ومن الزنزانة المجاورة، تبدأ قصة العاشقين من خلال تحدثها من خلال ثقب في أنبوب، ليقعا في الحب تدريجياً.
الفيلم، الذي أخرجه المخرج الحائز على جائزة الأوسكار شون مكاليستر على مدى خمس سنوات، يبدأ قصته بعد 15 عاماً من اعتقال الناشطين، أي في عام 2009، وحينها كان بشار الأسد قد خلف والده على دفة الحكم بنجاح، وأودع رغدة، وهي ناشطة يسارية ملتزمة تنحدر من ذات طائفة الرئيس، في السجن مرة أخرى، بتهمة تأليف كتاب ينتقد الرئيس الأسد.
عامر كان يعتني حينها بأولاده من رغدة، بوب وفور وكاكا، ويحاول مستميتاً إخراج زوجته من المعتقل، وحينئذ يلتقي مع مكاليستر في أحد الليالي ضمن حانة في طرطوس، أثناء تحدثه على الهاتف مع زوجته رغدة في السجن.
يشير عامر متحدثاً من فرنسا بعد عرض الفيلم، بأنه كان يظن في البداية بأنه لا يستطيع الوثوق بهذا الصحفي، حيث يقول “إنه إنجليزي، يجوب الشوارع السورية مع كاميرته الكبيرة، ويطرح أسئلة غريبة على أي شخص حول الحريات، والاعتقالات، وحول الرئيس، لقد كان الأمر غريباً جداً، ولكن في هذه المرة كنت أتكلم مع زوجتي المعتقلة، وحينها سألني مباشرة عن المرأة التي أتحدث معها، وأجبته بأنها زوجتي التي تقبع في سجون النظام، وحينها قلت له، إذا كنت تريد أن تعرف أكثر، توقف عن سؤال الناس في الشارع، واتبعني، وسأعطيك ما تريده، وسأزودك بالحقيقة”.
العرض الترويجي للفيلم
قبل أن يبدأ بتصوير الفيلم، لم يكن لدى مكاليستر أي فكرة بأنه سيصنع فيلماً يختزل من نواحٍ عديدة كلاً من الانتفاضة السورية والحرب الأهلية السورية، وأيضاً أزمة اللاجئين التي أصبحت اليوم قضية ملحة للغاية في أوروبا، حيث يقول “لم أكن أنوي تقديم فيلم عن أزمة اللاجئين، لقد أمضيت 20 عاماً في صناعة الأفلام ضمن العالم العربي، ووجدت نفسي أكثر من مرة أجوب شوارع بغداد واليمن، ومناطق أخرى مختلفة كانت تحتدم ضمنها الصراعات والحروب”.
استرعت سورية انتباه مكاليستر إبان فيلمه الوثائقي، ليبيريس بغداد، الذي صوره بعد تعرضه لبعض المخاطر الشخصية، وعرض فيه حياة عازف بيانو عراقي يعيش ضمن الأحداث الدامية التي أعقبت غزو الولايات المتحدة وبريطانيا للعراق في عام 2003، ولكن العثور على قصة جيدة في سورية ثبت بأنها مهمة أكثر صعوبة، “قضيت ثمانية أشهر في سورية، في محاولة للعثور على القصة، لقد كانت أوقاتاً عصيبة وتضمنت الكثير من أوقات البحث عن الذات التي تساءلت فيها عن السبب الذي يحذو بي للعمل ضمن سورية، لقد كان عامل الجذب الأساسي بالنسبة لي انتاج فيلم حول الديكتاتور الذي ينشط في البلاد”، يقول مكاليستر.
ويتابع مكاليستر قائلاً “لقد كان هناك شيء خاص حقاً حول دمشق، لقد كانت تمثل بغداد التي لم أرها، فعندما ذهبت إلى بغداد كان الناس هناك يتحدثون حول حقبة الثمانينيات، تلك الأيام الذهبية التي ملأتها المتعة والخوف، وحينها عايشت تلك الأوقات من المرح والخوف، زمن العلمانية، الذي كان السكان فيه يشربون ويرقصون”.
لقاء مكاليستر مع عامر زوده بالقصة التي كان يبحث عنها، لذا تمسك بها ولم يدعها تنسل من بين يديه، “عندما التقيت بعامر أدركت بأن سورية هي مكان يعج بالمهازل، إنها لعبة كبيرة، يقضي فيها الغربيون عطلة ممتعة لمدة يومين في دمشق، غير مدركين بأنه في ظل حكم الديكتاتور، خدش صغير لسطح الواقع الوردي الظاهر، يكشف عن أتلال من السجناء السياسيين المعبأين داخل السجون والمعتقلات، لقد كانت القصة بسيطة وواضحة، لماذا يجب أن يُترك الرجل لرعاية أطفاله في الوقت الذي تقبع فيه زوجته في غياهب السجن؟”.
ذاك اللقاء في تلك الحانة في طرطوس، كان بداية لرحلة طويلة استمرت لمدة خمس سنوات، يأخذنا فيها الفيلم في ملحمة من الدراما العائلية التي تطفق ضمن سورية وتعبر حدودها إلى لبنان وأوروبا لتصل بنا إلى فرنسا.
في عام 2011 اجتاحت الاحتجاجات العالم العربي، وحينها سقطت الأنظمة في جميع أنحاء المنطقة، وركب الناس الشوارع في سورية، ونتيجة لذلك، تم الإفراج عن رغدة، واستطاعت كاميرا الفيلم أن تلتقط مشهد الاحتفال بعودة رغدة، مع كؤوس العرق التي تدق ببعضها بسعادة احتفالاً بخروجها من المعتقل، والتي تضافرت مع المعاناة، الخارقة للتصور، والتي بانت في وجه رغدة عند خروجها من المعتقل، والتي تتوضح بشدة إثر مقارنة وضعها عند خروجها من المعتقل مع صورها قبل سجنها.
عامر، رغدة، وحتى كاكا، انضموا إلى المظاهرات التي اجتاحت شوارع سورية، وحينها انتهجت الحكومة السورية نهجاً عنيفاً لقمع التظاهرات، وتم أخذ كاكا وضربه بشده، ولكن لم يتم اعتقاله، ومن ثم وفي أكتوبر 2011، وبالتزامن مع اطراد العنف في البلاد، تم اعتقال مكاليستر بحد ذاته.
ويروي مكاليستر قصة اعتقاله للجهمور في برايتون قائلاً “أمسكوا بي، عصبوا عيناي، وألقوني ضمن سيارة، وتم نقلي إلى أحد المراكز الأمنية، حيث كانوا يضربون الناس”، ويتابع قائلاً “هناك، كان السجناء يمرون بطقوس عبور للوصول إلى الزنزانة التي تقع في درك المبنى الأسفل، ففي الطريق إلى هناك يتعرض المعتقلون للضرب من قِبل شبان صغار يحملون خراطيماً بلاستيكية، حتى يصلوا بالنهاية إلى غرقة المعتقل، تلك الغرفة كانت مكتظة بالمعتقلين، لدرجة لا يمكن معها لأي شخص الاستلقاء على الأرض للنوم، لذا كان الأسرى ينامون على الأرض بالتناوب، وطوال فترة الاعتقال، كان هناك دائماً شخص ما يتعرض للضرب، أو للتعذيب، أو للصعق بالكهرباء، لذا كنا نسمع دائماً أصواتاً لعويل أشخاص من الألم، هذا الأمر هو بحد ذاته أسلوب منهجي لإلحاق الأذى بالناس داخل السجن”.
بالمحصلة، اعتقل مكاليستر لمدة أسبوع، حيث ساعده جواز سفره البريطاني والضغط الدبلوماسي لضمان إطلاق سراحه بأسرع وقت ممكن، وفي هذه الأثناء، وبعد سماعهم لخبر إلقاء القبض على مكاليستر، لم يجد عامر ورغدة خياراً أمامهما سوى الفرار من البلاد.
في لبنان، اجتمع المخرج مرة أخرى بالأسرة، وهناك، كانت الحياة صعبة للغاية؛ فالأطفال لا يمكنهم الذهاب إلى المدرسة، وعامر لم يتمكن من إيجاد عمل، ورغدة كانت تشعر بالمعاناة من إرهاصات بُعدها عن النضال الذي يجري على قدم وساق في وطنها، وإثر الصدامات التي باتت تتصاعد داخل الأسرة، اختفت رغدة فجأة في أحد الأيام، وتبين بأنها عبرت الحدود عائدة إلى سورية.
الصورة: لقطة من الفيلم لعامر
لقد كانت هذه المحنة نقطة تحول بالنسبة للزوجين، وبطبيعة الحال، كان مكاليستر موجوداً لتصوير الأزمة.
يقول مكاليستر معلقاً على دوره في صناعة هذا الفيلم “عندما درست الإخراج الوثائقي، قيل لي بأن هذا العمل يتضمن مراقبة ما يجري مع الاحتراز من عدم التدخل به”، ولكن مكاليستر لم يكن لديه الوقت لتطبيق فكرة البي بي سي “BBC” التقليدية حول موضوعية الأفلام وذاتيتها؛ فالبنسبة له كانت هذه التعليمات مجرد هراء، حيث يقول “لقد اتبعت أسلوب المدرسة الأخرى من صناعة الأفلام الوثائقية، تلك المدرسة التي تغوص فيها في أعماق موضوع ومكان ما، وتأخذ الجمهور معك، وتدعهم يدركون من اللقطة الأولى بأنك ذاهب إلى مكان لا تلعب فيه مجرد دور المراقب، بل إنك تتدخل فيه أيضاً”.
مع مرور الوقت، أصبح مكاليستر جزءاً من الأسرة، ونتيجة للنبذ الذي تعرض له الزوجان، أصبح دور مكاليستر، كما يصفه بكلماته، يتمثل بـ”دور المصور الذي تحول إلى معالج”.
عادت رغدة إلى لبنان بعد ثلاثة أشهر من مغادرتها، ولكن الأمور لم تعد إلى سابق عهدها؛ فالثقة ما بين الزوجين قد تحطمت، واستطاعت الأسرة في نهاية المطاف الحصول على اللجوء في فرنسا، وحينها بدأت حياتهم تعود نوعاً ما إلى المنحى الطبيعي، ولكن ذلك لم يساعد على إصلاح ذات البين ما بين الزوجين؛ فالصراعات بينهما تواترت أكثر من أي وقت مضى، والفيلم استطاع تصوير حياتهما الجديدة في الشقة الفرنسية، وأثناء جلسات التدخين والشرب والقتال، بدا وكأن المعضلة بعيدة كل البعد عن أي حل يلوح بالأفق.
الصورة: رغدة تعاني في المنفى من بُعدها عن سورية، كما صورتها إحدى لقطات فيلم “قصة حب سورية”.
استطاعت رغدة في نهاية المطاف أن تجد الدور الذي يلبي حاجتها لدعم نضال الحرية المحموم في بلدها سورية، حيث بدأت بالعمل كمستشارة ثقافية للمعارضة السورية التي تأخذ من إسطنبول مقراً لها، وهنا وصل الفيلم إلى نهايته المنطقية، وملحمة مكاليستر الاستثنائية وصلت إلى نهايتها، ولكن هل فعلاً انتهت قصة نضال عامر ورغدة؟
“لقد بدأت تصوير الفيلم قبل اندلاع ثورات الربيع العربي، لقد كنت الشخص الوحيد الذي استطاعوا التواصل معه، وفي الأوقات العادية لم يكن التصوير ينتهي إلا في وقت متأخر للغاية من اليوم، لقد فقدوا الأمل بأن الفيلم سينتهي في أي وقت من الأوقات، لقد كنت ذاك الشخص غريب الأطوار الذي يتجول دائماً بكاميرته حولهم”، قال مكاليستر.
عامر يتفق مع مكاليستر بذلك، حيث يقول “شون يعرف كل شيء عن حياتنا، كل تفصيل صغير، شون هو شاهدنا، صديقنا، وعضو في عائلتنا، وأحيانا كنت أدعوه ليأتي إلى فرنسا، وبعدها يذهب لرؤية رغدة، ولكن في النهاية لم أكن أرغب بأن يستمر شون في تصوير هذا الفيلم، حيث قلت له في الكثير من الأوقات، توقف عن تصوير هذا الفيلم، ألم تحصل على ما يكفيك حتى الآن، ماذا تنتظر؟ لقد كنت أشعر بأنه أصبح داخل رأسي لتصوير أحلامي”.
بالنسبة لأطفال عامر ورغدة، كان مكاليستر زميلاً في اللعب وصديقاً، “أحب شون” يقول بوب متحدثاً من فرنسا، قصة هؤلاء الأطفال كانت ربما الجزء الأكثر إيلاماً عاطفياً من الفيلم، ابتداءاً من المكالمات الهاتفية التي أجراها بوب مع والدته وهي في السجن، وانتهاءاً بدموعه التي ذرفها في وقت لاحق وهو في فرنسا، أثناء نظره إلى الصور الموجودة على جهاز الكمبيوتر عن حياة العائلة في سورية قبل حصول جميع متاعبهم، “تلك الأيام كانت جميلة”، يقول بوب.
سألنا عامر عن الكيفية التي غيّر فيها الفيلم حياته وحياة عائلته، وأجابنا قائلاً “أعتقد بأن الفيلم غيّر حياتنا ولكن إلى الأفضل، لقد فقدنا حياتنا في سورية عندما باشرنا بمعارضتنا للنظام، فقدنا أصدقائنا، سُلبنا حياتنا ووظائفنا، لقد فقدنا كل شيء”.
ويتابع موضحاً “أعطانا فيلم شون بعض الأمل لمواصلة حياتنا بطريقة جيدة، أعتقد بأن المشاكل بيني وبين رغدة ليست ناجمة عن الفيلم، بل إنها ناجمة عن هذه الثورة التي غيّرت كل شيء في قلوب الناس، وما حصل للشعب، كيف مات أو كيف تم اعتقاله، هذه الأمور أحدثت فرقاً بيني ورغدة، وشرعنا بالقتال، ولكنني أعتقد بأن شون ليس مذنباً، والفيلم ليس مذنباً أيضاً بما حصل بيننا”.
ورداً على سؤالنا عمّا يمكن أن يفعله الغرب الآن للمساعدة في الوضع الذي تمر به سورية، أجاب عامر “أعتقد بأن الأوان قد فات الآن، لو سألتني هذا السؤال قبل أربع سنوات، لربما كان لدي جواب جيد له، ولكن الآن تطفق الحرب في سورية، إنها ليست حرباً واحدة فقط، إنها مجموعة كبيرة من الحروب تحصل ضمن الداخل السوري، وتسحقه عن بكرة أبيه، ليس هناك فرصة للمساعدة، ولكن الأمر الجيد الذي يمكن أن تقدمه الحكومات الغربية يتمثل بمساعدة بعض اللاجئين في أوروبا، أو فتح الباب للأشخاص الذين يرغبون في البقاء على قيد الحياة”.
حالياً، يعيش عامر مع أسرته في مدينة جميلة تقع في جنوب فرنسا، حيث يعتني بالحديقة، ويعيش حياة هادئة، ولكنه لا زال يعمل أيضاً لمساعدة اللاجئين، حيث يقول “دائماً ما أفكر في الآخرين، أولئك الناس الذين لا يتمتعون بهذه الحياة التي أعيشها اليوم، الناس الذين يعيشون الآن في ذات الوضع الذي كنت أعيشه فيه سابقاً، لاجئون في لبنان، بدون طعام أو مسكن، بدون مال أو عمل، بدون أي شيء”.
رغدة لا تزال تزور الأسرة، ولكن اليوم وبعد عام من القطيعة، عادت الأسرة ليلتم شملها سوياً، “إنها لا تزال كتشي جيفارا”، يقول عامر، أما مكاليستر فيعلّق على ذلك بقوله “عرض الفيلم في أوروبا جمعهما مرة أخرى معاً، لقد عادا سوياً مرة أخرى، ولكن ليس لأنهما عشاق، بل لأنهما رفاق نضال، حيث يستعملان الفيلم اليوم كوسيلة للحديث عن أزمة اللاجئين في سورية، وهكذا، وبهذه الطريقة، كان الفيلم مفيداً لحياتهما”.
هل يمكن أن تصبح القصة في نهاية المطاف فيلماً روائياً طويلاً؟ “نعم”، يقول مكاليستر، “فالقصة مازالت مستمرة”.
المصدر: ميدل إيست آي