بين الشيء_ونقيضه كتاب (الكتاب والقرآن) لمحمد شحرور و (كتاب بيضة الديك) الناقد له، للدكتور يوسف الصيداوي، بين الشيء ونقيضه هنا، لماذا يخشى الناس العلم بالفكرة من كل أوجهها؟! ولماذا لا يتتبعونها حتى عقر دارها لإستيفاء حقها؟! والعقل لا تنقدح شرارة اتقاده ووعيه أكثر ما تنقدح وتتقد إلا بالجدل العلمي وبطرح الفكرة وضدها، وبالأضداد تعرف الحقائق والأشياء. ولماذا يعتبر الناس أن مجرد طرح فكرة أو مدح شخص رتب مجموعة من الفرضيات (والتي قد يثبت ولو جزء تحليلي منها صحتها عاجلًا أم اجلًا) ضمن سلسلة مغلوطة من الأفكار يعتبر نزوعًا نحو الفتنة وليست نزوعًا نحو الاقتراب الدائم من الحق برصد الأفكار دراستها، تحليلها، مقارنتها، مع قواعدها وأصولها التي بنيت عليها، ثم استنتاج غثها من سمينها!!
ربما هنا يكون الجواب سؤالًا أصبح مضمونه عادة في حياتنا، سؤال أصبح مضمونه منهجًا ثابتًا رصينًا وعادة من عادات تفكيرنا، السؤال الذي يطرح نفسه بقوة، أو يطرح الوعي به ضرورة من ضرورات حياتنا :
لماذا يرتبط في أذهاننا مفارقة أن التراث إيمان وعلم، وأن التجديد كفر وهوى، فيصبح أي حديث عن التجديد ملزمًا للهوى والكفر البواح، وإي تمسك بالتراث وأقصد هنا ما كتبه الرجال لا ما قالته النصوص المقدسة، متصل بالإيمان والتقوى؟!
سؤال للأجابة عليه نحتاج إلى مدى من أعمارنا في تأمل حالنا ومستوى تفكيرنا الذي أُلنا إليه، مستوى تفكيرنا حتى بعمق مسؤولية كل فرد عن نفسه في مدى حياته، مستوى يعاني من ضيق تنفس حاد، لا يستنشق أكثر من الهواء الذي يعيش معه في مربع غرفته.
الحديث عن شخص أو عن فكرة طرحها أو طرحهم للجدل مدح جيدهم أو ذم سوءهم لا يجب أن يعني الموافقة التامة على كل صادر منهما، أو رفض كل صادر عنهما كذلك>
في النموذج هنا، يتحدث الدكتور شحرور عن فكرة استقراء مفردات في كتابه “الكتاب والقرآن” مستندًا على منهج لغوي يتتبع فيه الهوى ربما، أو يكذب فيه بقلب الحقائق بحسب المشتهى، أو لعله يخطأ خطأ كبيرًا دون وعي بأنه لا يتوافق مع أصول اللغة المقعدة قواعدهاوقوانينها، وطرق التعامل معها، ليصل إلى نتائج تطبيقية فقهية تحول الحرام إلى حلال وتصيغ تكاليف جديدة للناس لا تنقذه فيها النصوص نفسها ولا البنية اللغوية لمفردات القرآن التي بنى عليها نظريته، في إيهام واضح للناس بجديته في تحري النص، رغم أنه في أبسط مثال لنقده (يعطف المجرور بالكسرة على المعطوف الذي رفع بالضم )، مما يضع علامات استفهام واضحة، وما يحيلك مباشرة إلى عدم الثقة بمقدرته اللغوية، ومن ثم بنتائج بحثه.
أما لو قرأت كتاب”بيضة الديك” للدكتور يوسف الصيداوي الذي ينقد فيه كتاب شحرور هذا نقدًا بليغًا مذهلًا وليثبت سوء تخبيصاته اللغوية، التي لا يعول عليها عندئذ في تفسير التشريع، فستعرف كم تنقدح شرارة العلم بمثل هذا النقد،وكم يستطيع الجدل العلمي الحقيقي والرصين من خلال النقد المؤصل الذي يعتمد على القواعد والأصول أن يحيي جوانب ما كانت لتنتعش وتظهر لولاه، فتُحيها وتحيي مجتمعًا علميًا تكاد تندثر معالمه في مجتمعاتنا قامت عليه حضارتنا من قبل لصالح العيش غطسًا داخل التراث فشرارة العلم لا تنقدح بالذم جزافًا دون التمحيص والتدقيق وأنما يذم من يذم لهوى تتبع التراث ورفض ما قيل لأنه لا يتفق، فقط لأنه لا يتفق، فالدكتور الصيداوي بعلمه الرصين باللغة وبقدرته العالية على التفكيك والنقد.
استطاع أن يُدمر أغلب مقولات االدكتور شحرور ويجعل منها أضحوكة، وهو إذ يتتبع منهج شحرور يضع نماذج قاسية لا تبقي ولا تذر لفقر شحرور اللغوي وبيان مدى تلاعبه بالنصوص رغبة منه مع أستاذه ” دك الباب ” للوصول إلى هدف مسبق وضعاه في رأسيهما قبل البحث، مما يقضى على قاعدة البحث ذاتها ومنهجيتها، الذي يستند عليه في تحليل آيات القران الكريم، غير أن الدكتور شحرور يلتزم في كثير من الحالات منطقًا قويًا في ربط المعاني بعضها ببعض للخروج بنتيجة تحيلك إلى التفكير بجدية التقصي والبحث عن الأدلة لمنطقه هذا الذي قد يفتح بابًا من خير ويكشف قيمة جادة مضافة إذا ما تم تقصيها بشكل جاد لإثبات عدليتها هي كفكرة أو (لتأمل) ما يحوم حولها من منطق يساهم في تغطية جانب آخر لم ينقدح لك من قبل، طبعا وبالضرورة اذا ساندته اللغة، وهذا شرط ضروري في حالة القران لا غنى عنه بتاتًا، هنا ربما تكمن أهمية عدم الرفض المطلق وعدم القبول المطلق والتجرد من الهوى للوعي بما يدور من حِكم قد تفتح بابًا لرؤى سديدة.
يكتب الدكتور شحرور عن فكرة السبع المثاني كلامًا من النظرة الأولى له رغم حاجتنا للتدقيق خلفه بعد مهازله في جوانب أخرى، ورغم إصرار البعض أنه سارق محترف لكثير من أفكاره الجيدة من كتاب ” العالمية الإسلامية الثانية: جدلية الغيب والإنسان والطبيعة” للكاتب السوداني محمد أبو القاسم. يكتب كلامًا رائعًا عن تفسيره لأحرف القرآن من مثل ” ألم ، حم، كهيعص.. ألخ ” ويرى فيها أصواتًا أساسية للغات الإنسانية، هي أساس التواصل الكوني عامة مع الخلق، ويربط الدكتور شحرور بين موضوع التعدد وعلاقتها بالإيتام ربطًا منطقيًا يحتاج إلى تتبع لغوي يؤيده في ربطه هذا وإلا سقطت نظرته ونظريته، وهو ذاته أيضًا يخترع أفكارًا مشلولة من لحظة مولدها وهو يحول لباس المرأة المسلمة من المعطف الشامل الذي وجب عليها اسداله على جميع بدنها بنص الآيات وحرفيتها وهو يحول هذا اللباس في حده الأدنى من كشف الوجهين والكفين إلى ( بكيني ) و (مايو) بشكل مضحك ومتناقض مع نفسه بنفس الوقت.
بالفعل لم يترك كتاب ” بيضة الديك” الكثير لشحرور ليدافع به عن نفسه، في تقصي منطق شحرور اللغوي في تفسير الكلمات القرآنية والتجني عليها، فقد استطاع اثبات سوء تفسيرات شحرور واعتماداته العشوائية للغة، وهو مما ينصح بقراءته لروعته، لمن قرأ كتاب شحرور ابتداء، أو سمع محاضراته، ويكفي من خيرية قراءة الشيء ونقده أو نقيضه، أن ينشأ لدينا عقلًا علميًا منضبطًا بالعلم متجردًِا من الهوى، يشكل سيرة عندنا في رؤية المشهد كاملًا مما يعيننا أن لا نقع بأي فخ، فخ التقليد للآباء أو التسليم المطلق لكل مدعً للتجديد، أو حتى ما يمكن أن نطلق عليه فخ التراث والتقوى(بكل ما يحمله من جمود)، أو فخ التجديد والكفر (بكل ما يحمله هوى ).
فنجمع في عقولنا مبدأية التراِث والتقوى والتجديد والكفر كأنهما متلازمة لا فكاك عنها، وهنا تكمن مشكلتنا، مشكلتنا الحقيقية في الرد والأخذ من الآخرين، ففي النقد الذي واجهته على سبيل المثال للتعرض للدكتور شحرور في منشور سابق، على أرض الواقع لم أسمع أحدًا يأتيني بدراسة أو كتاب ناقد أو حتى نموذج حقيقي كمثال واحد على نقد الدكتور شحرور وما كتبه، أما الرفض فكان سبيله سماعًا من فلان عن فلان عن فلان، وكان بسبب تحليله ما اعتدنا على تحريمه، هذه العقليه هي نفسها التي جعلت الكثيرين يتبعون شحرور وفقهه الجديد وتحليله للحرام، وسرورهم به، واعتمادهم عليه، فكثر أو قل من النساء من خلعت حجابها بسبب رؤى شحرور دون تثبت أو تقصي أو بحث!! وهنا يمكنني القول مختصرًا أن من ثبت على موقفه من تحريم الحرام ثبت لأنه اعتاد على أن الأمر حرام وآثر السلامة من أن يعاود البحث في منهج الآخر وتقصيه ليعرف علميته ومنطقه من دجله وخرافته، ويخلق منها حالة فكرية ناضجة.
ليعاود بذلك تأسيس منطق الحقيقة أولى بالإتباع في كل شأن، ويناهض الفكرة بالفكرة، مقصدي أنه من المهم أن نصل إلى الصوابية، وأن نتمسك بها، ولكننا لن نصل إليها دائمًا عن طريق التقليد، ولو وصلنا إليها مرارًا، بحيث نتخذه أسلوبًا ومنهجًا لنحمي أنفسنا في عملية مناصرة الحلال والحرام، مع أن مقصد الحلال والحرام كما أفهمه ابتداءً هو تأسيس اجتماع صحي سليم في حياة الناس، والاجتماع الصحي يبدأ أول ما يبدأ بالقدرة على التفكير السليم، والتفكير السليم لمن يعي القران جيدًاهو من أهم الفروض تركه من أهم الشرور والمحرمات، أما التقليد فهو بحد ذاته جرثومة ذلك الإجتماع الصحي الذي يؤسسه منهج الحلال والحرام ، وقد ذمه القران، وبنص الآيات :”بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون، وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون”٢٢-٢٣ الزخرف
لأن التقليد يؤثر حين يؤثر على العزيمة العقلية لاحقًا للأفراد وللمجتمعات التي ينقدح معها الفكر بدراسة الرأي والرأي الآخر، وبوضع البراهين في مواضعها الصحيحة، “( قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون )٢٤ الزخرف،
إلا أنك اذا خرجت من الموضوع بلا أي عزيمة عقلية ينقدح معها فكرك بدراسة الرأي والرأي الآخر ومعرفة أسباب الرفض أو القبول، وطرق النقد وعلى ماذا يمكن أن يستند ؟ فكان أن بدأت بهذا النمط من التفكير إن كان تفكيرًا أصلًا بالدخول في عالم التقليد، لوقعت في الحرام ألف مرة دون حتى أن تشعر، لأنك أصلًا لا تفكر !!
ولعل حدة التفكير تنشأ أول ما تنشأ من خلال الجدل العلمي، الجدل العلمي الذي يؤطر الأفكار والدعاوى بالأدلة والبراهين، فتنضج المجتمعات علي أساسه، (ولمن يقرأ كمثال كتاب شحرور ثم يقرأ كتاب بيضة الديك للمس ذلك في خاصة نفسه ولو بشكل نسبي) أما بعد ذلك فمن شاء فليؤمن بالفكرة ومن شاء فليكفر ذاك يصبح شأنه الخاص والشخصي ويبقى للمجتمع صحته النفسية والعقلية بما نتج من جدل علمي. قوامه الفكر المثبت بالبراهين والأدلة! فليست آية سهلة تلك التي يستدرج بها الله أصحاب الدعاوى المختلفة بقوله “ قل هاتوا برهانكم” !! بل لعل آية مثل هذه يؤلف بها كتب حول الجدل العلمي ضرورته، وأهميته في ارتقاء المجتمعات، واستكشاف الحقائق!
والحديث يطول جدًا ويفتح أبوابًا كثيرة أعرفها ولا أستطيع استيفاء حقها هنا ولكني أعاود هنا طرح موضوع الحجاب تلبية لرغبة بعض الصديقات في منشور سابق (على الفيس بوك) وكنموذج أيضًا علي ما قلته أعلاه.
في دراستي لموضوع الحجاب والخمار في آيات سورة الأحزاب والنور قبل عشرين عامًا في جنوب أفريقيا، لكثرة ما كان يناقش في المجتمع هناك آنذاك، وما يمكن أن يحدثه عدم الفهم من فتن وجدت أن الأمر كان في بساطته لا يحتاج لأكثر من بحث عن المعلومة وفي حالتنا كان النص جاهزًا للتأمل في مفرداته، بناء على التفسيرات اللغوية الصحيحة من علماء اعتمدوا قواعد اللغة الصحيحة، في سورة الأحزاب والنور، ثم الجدل العلمي على أساسها أما ما أدهشني حينها :
أن الهدف من فرض اللباس الشرعي الساتر هو ذات الهدف الذي تسعى به كل جمعيات حقوق المرأة لتحقيق ذاتية المرأة وتأكيد كفاءتها في المجتمع الإنساني . ولكنها حين طالبت بهدفها هذا وضعت في ميزانها معه هواها الخاص الذي استحال معه تحقيق الهدف وتشوشت العملية برمتها وأثرت على المجتمع الإنساني بأكمله.
وهنا يقع مقصدي من أن العزيمة العقلية لم تكن حقيقية لتحقيق الهدف أنما نشبت في الأعماق نيران الهوى الخاص الذي أضطر ولم ينفع لأن المنهج العلمي المتبع للوصول للهدف كان ناقصًا أو كاذبًا بعكس ما اتمته آيات الكتاب الكريم من وضوح علمي في تحقيق الهدف .
وهنا أناقش عمومًا ما قاله شحرور في تفسيره لآيات الحجاب وبشكل سريع أيضًا
أولًا : أن آيات إحكام الخمار وما يظهر من المرأة وما لا يظهر جاءت في سورة اسمها النور، وذلك الرابط العجيب لكل متدبر بين اسم السورة وموضوعها فهي عنوان لها، وهي تبتدأ أول ما تبتدأ بالحديث عن علاقة المرأة بالرجل وعلاقة الرجل بالمرأة، بل تبتدأ بالعقوبة القاسية الزاجرة الرادعة، لعلاقة لا أخلاقية تُأطر المرأة بالرجل والرجل بالمرأة في حدود الجنس والجسد، فكان الأمر في غاية الوضوح فتلك العلاقة يجب أن تكون في أنقي صورها ضمن النور والنقاء والصفاء بلا تلاعب وخداع وغباش وهوى ، علاقة نظيفة نورانية بديعة تعتمد النور في طياتها الذي هو وضوح وًصور مشرقة مشعة.
وهذه العلاقة من الأهمية بمكان لتجاور آيات الأحكام فيها، آية ” الله نور السموات والأرض” وكم طالبت المرأة وما زالت تطالب بأن يُنظر إليها ككيان محترم يرتقي بها عن حدود الجسد الجميل الذي تمتلك، إلى حدود الكينونة والشخصية الكفؤة والمحترمة، ولكنها وهي تطالب بذلك، وحتى يتحقق ذلك وجب عليها فرض اسدال الأحكام الشرعية على هذا الجسد الجميل ليتحقق المراد فعليًا بأنه ليس مناط لتعرُف المجتمع عليها وعلى شخصيتها كما ورد أيضًا في سورة الأحزاب!
ولن يخفي على أحد أن كل ما يشوب هذه العلاقة باسم الحرية هو تسفل ما بعده تسفل إلى نهايات إغراء الجسد، الذي امتاز به عصرنا في كل مجالات الإعلام والحياة إلى أقصى درجة من التطرف حتى انقلب الأمر من شدة تطرفه إلى نقيضه وهو تفشي حالة الشذوذ!
,لأجل احقاق هذا النور كانت البداية في السورة في طرح أصعب عقوبات وردت على الإطلاق في الشريعة الإسلامية لأن هذا الفعل يخدش النورانية ويضرُ بها في هذا الكون الجميل، وفي المجتمعات الإنسانية الراقية. .
أمرٌ حتى الدكتور شحرور في كتابه ” الكتاب والقرآن” في نهاية صفحة ٧٩اعتمده عندما كان يتحدث عن أن أوائل السور جاءت لتلفت الأنتباه إلى ما بداخلها، وهذه أمور قال بها كثير من المفسرين..
ثانيًا : أن سورة النور في آيتها الأولى : “سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1)”
تتحدث عن أن السورة بجملتها مفروضة. مما لا يدع مجالًا للشك في فرضية كل حرف فيها علينا بكل ما تحمله كلمة الفرض من معنى، ولو لم يكن هنالك دليل علي فرضية اللباس الشرعي إلا كلمة ” فرضناها ” لكفى.”
أما المدهش حقًا في تأكيد التعبيرات القرانية لمراده لاحقًا في كل آيات سورة النور بما يتضمنه من آيات اللباس الشرعي، استخدامه تعبير “ لعلكم تذكرون” في نهاية السورة الأولى، ولم يستخدم عوضًا عنها مثلًا “ تعقلون” أو “ تعلمون” أو “تشعرون” بل هي حالة (تذكر) ، فما يعرض هنا هو أمر راسخ في النفس مزروع فيها تعرفه ولا تحتاج إلا إلى تذكره والتنبيه إليه ولو أخذنا مسارين في التفسير لوصلنا بالمسارين إلى نفس النتيجة، فسواء كان التذكر يُعبر عن أن الأمر مركوز في الفطرة (إي في حالتنا هنا وما نناقشه من آيات احكام اللباس الساتر) فهي لا تحتاج إلى أكثر من تذكره، لا عقله ولا تعلمه ، والمسار الثاني هنا لا نحتاج للتعرض إليه الآن. ولكن بملاحظة آيات سورة النور كاملة وربطها بالتذكر سينجلي للناس كثير من الأمور التي يتعارفون عليها فيما بينهم في علاقاتهم اليومية أنها أمور طبيعية يعرفونها بطبيعة الحال، ولا يحتاج إلا لمن يذكرهم بها. المقصد أنها مركوزة في الطبيعة الإنسانية.
ثالثًا : فحين يأتي قوله تعالى بعد ذلك ليفرض على المرأة ضرب غطاء رأسها على جيبها وهو الرقبة والنحر وما تلاهما “لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ “ فهو لا يعود إلى الحديث عما هو مفروغ منه أصلًا وما زالت تمارسه المجتمعات آنذاك من تغطية الخمار لشعر الرأس، بل وكأن الشارع يستكمل الحديث أنه من البدهي هذا الذي تقومون به، فيطالبها باستكمال هذا الستر من غطاء الشعر إلى ستر باقي أجزاء الجسد المكشوفة .
أمر اعتمده الدكتور شحرور في شرحه للقوامة وناقضه في موضوع الخمار ، فقال فيها ما معناه أنه لا بد من مطابقة موضوع القوامة لواقع الناس في المجتمعات الإنسانية لمن شاهد حديثه مع الدكتوره سعاد صالح ولكنه عندما إشار إلى واقع الناس في موضوع الخمار “ غطاء الرأس” معترفًا بأن هذا اللباس كانت تلبسه المرأة الآشورية والبابلية ومتعارف عليه سترها لشعرها، ولباسها الطويل الساتر لبدنها، استخدم واقع الناس ضد الفريضة واعتبره جزء من تلك المجتمعات فناقض نفسه بنفسه ، وكان الأولى به أن يعترف أن طريقة الشارع الحكيمة جاء توكيدها باعترافه ان ما تفعلونه من تغطية الشعر بالخمار صحيح وعليكم فقط استكمال عملية الستر وهذا أدعي وأمكن لتأكيد الفريضة، وأسلم كذلك، من أن يقول فرضت عليكم تغطية شعوركن التي هي أصلًا مغطاة!
رابعًا: أن ما كانت تقوله آيات سورة الأحزاب ابتداء بمفرداتها تجعل الإختلاف يقع في إطارين بين كشف الوجه وعدم كشفه، لا بين كشف الجسد وعدم كشفه !!
فآية مثل آية الإدناء في سورة الأحزاب ” يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً “.
يأتي فيها فعل الإدناء متعديًا بحرف الجر “ على “ فيتغير معناه من الدنو وهو الإقتراب ذلك اذا تعدى كعادته بمن أو إلى ، إلى معني الإرخاء والإسدال، أي يُسدلن عليهن جلابيبهن، و”عليهن” إي عليهن بشكل كامل، وإسدال الشيء يأتى من أعلاه إلى أدناه، وكأنك تُسدل الجلباب من الرأس وحتى أخمص القدمين، ثم جاءت جملة “من جلابيبهن” لتعطي معنى كشف الوجه، من خلال “ من التبعيضية”، أما الأهم من ذلك هو
خامسًا: ففي استكمال الآية تجد قوله تعالى معللًا هذا الستر “ أدنى أن يُعرفن فلا يؤذين”، ولقد استوقفني سبب النزول كثيرًا الذي تحدث به العلماء والمفسرين فهو مختصرًا يتحدث عن أن النساء كن اذا خرجن إلى بيت الخلاء يتعرضن للسفهاء بما يمكن أن نطلق عليه اليوم “ التحرش الجنسي” أو “ التعرف على المرأة عن طريق الجسد” فإرادة الشارع كانت واضحة جدًا في مجال تكريم المرأة وتقدير شخصيتها كيانًا محترمًا، فتعرف أول ما تُعرف لا ببنيتها الجسدية التي قد خلقت بجاذبية ساحرة وجمال، لا بالجسد الفاتن، لأنه ليس موضع ظهورها في المجتمع ولا هو المناط لاحترام المجتمع لها بل علي العكس هي تؤذى بسبب من جماليته، فهو محل خاص لا ضرورة لكشفه، فتستره، لتُعرف بشكل واضح عند الجميع أن ظهورها ليس ظهور جمال جسدي يلفت الإنتباه إليه فهو مستور من أعلى الرأس إلى أخمص القدمين مما يمنع الإيذاء ويحقق الإحترام بأن ظهورها ظهور للشخصية وللكيان الفكري والعقلي يتعامل معها المجتمع على أساسه، وهو ما فتأت المرأة عبر العصور حتى هذه اللحظة تدعو إليه في مطالبتها بحقوقها أن تُحترم يوم تُحترم بسبب من إمكاناتها العقلية والفكرية وكفاءتها وقدراتها لا بسبب من إمكاناتها الجسدية. ولكن لكي يتم تحقيق هذا الأمر علي أكمل وجه فهو يحتاج إلى شروطه التي تقابل بين البناء الجسدي الجذاب والممتع وبين تقديم الشخصية الإنسانية خاصتها على جمال جسدها. غير أن من المضحك أنها تأبى إلا الاثنين معًا مما يثير اضطرابها واضطراب مجتمعها مجتمعين.
سادسًا : وتستكمل الفريضة حيثياتها الجميلة لإبراز المرأة كشخصية إنسانية ذات احترام كامل خارج إطار الجسد وإطار الرغبات والشهوات في لفتة أخرى مفروضة في قوله تعالى “وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ” وليتحقق بهذا نورانية كاملة تمنع مفردات الإيحاء الجنسي للجمال ولفت الإنتباه له لتتحقق العلاقة الإنسانية بين الرجل والمرأة في أسمي وأرقى درجاتها، أما تفسيرات العلماء بأن المحرم هو الضرب بالقدم في المشي لإبراز صوت الخلخال فالمعني أبعد من ذلك كثيرًا كما أوضحت سابقًا قد يصل إلى مستوى تحريم الكعب العالي ما دام يشي بما يخفي هذا الجسد من جمال وجاذبية محسوسة أو غير محسوسة مما قد يُحدث إضطرابًا في النفوس، ميلًا دائمًا لرؤية المرأة على أنها فتنة الجمال الذي يطغي على أي شىء آخر.
سابعًا: أما الحد الأدنى والحد الأعلى الذي تحدث عنهما الدكتور محمد شحرور، فجعل من خلالهما الحد الأعلى ما تعارفنا عليه من الستر الكامل دون الوجه والكفيين، والحد الأدنى هو ملابس السباحة فهو مما يخالف صريح الآيات والمفردات القرانية ، أما تفسيره لكلمة “ جيبوبهن” فاتركها لكتاب الدكتور يوسف الصيداوي “ بيضة الديك” فقد أجاد في شروحاته للغة القرانية حتى ضرب شحرور في مقتل ! وأما الحد الأعلى فهو كل الآيات السابقة لآية الأدناء في سورة الأحزاب والتي اختص الله بها نساء النبي أمهات المؤمنين حتى ضرب بينهن وبين الحديث مع الرجال حجابًا لا يتحدثن الا من خلاله، فلا يظهر منهن شيء. لخصوصية بيت النبوة. وكافة الآيات التي لحقت بذلك من “ وقرن في بيوتكن “ إلخ والتي وضحت بما لا يدع مجالًا للشك أن الآيات خاصة بنساء النبي ولمزيد من المراجعة يمكن العودة لسورة الأحزاب، فتجد أن الفرق بين نساء النبي عليه أفضل الصلاة والسلام حيث توجهت لهن شخصيًا آية “ وقرن في بيوتكن” في حين توجهت للمؤمنات عمومًا آية “ ولا يضربن بأرجلهن” لضرورات تواجدهن في المجتمع الإنساني وهو في إطار الحد الأدنى أما الحد الأدنى هو ما تمايزت به سورة النور من توضيح صريح لكشف الوجه والكفين في التعبير القراني “ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا “ وقرينته من الأحاديث النبوية الشريفة وفعل الصحابيات ،حيث أن أغلب العلماء تحدثوا عن نزول آيات الأحزاب قبل آيات سورة النور فجاءت هذه مفصلة لتلك في أكثر من موضع لتفاصيل مختلفة .وبينت الحد الأدنى من لباس المرأة بالتفاصيل التي أجملتها آية الأحزاب.
ومن هنا فإن النعمة التي أنعم الله بها على المرأة من جمال الجسد نعمة لها شروطها لكي تتحقق انسانيتها الكاملة في حياتها. رفض هذه الشروط ثم التحدث عن المطالبات بتحقيق الذات العقلية والفكرية والإنسانية في المجتمع هو تناقض واضح وتعد صارخ على سمو المجتمع، فاضطراب في موازين الأشياء!