ترجمة وتحرير نون بوست:
في ظل انعدام دور الحكومة المركزية، المقاهي والحانات والمطاعم في العاصمة اللبنانية توفر مساحة للأنشطة الثقافية والفنية.
“الإنسان هو في المقام الأول حقيبة لنحشو الطعام بها، أما الوظائف والكليات الأخرى قد تكون أكثر شبهاً بالأعمال الإلهية، ولكن في سياق الزمن، تأتي هذه الأعمال في وقت لاحق”، يقرأ منصور عزيز، المؤسس المشارك لمزيان، اقتباساً للكاتب جورج أورويل بصوت عالٍ.
“ومع ذلك، فمن الغريب كيف نادراً ما يتعرف الجميع على أهمية الغذاء”، يستمر عزيز بقراءة الاقتباس، ويتابع مردفاً “أنت ترى تماثيل في كل مكان للسياسيين والشعراء والأساقفة، ولكن لا ترى تمثالاً لأحد الطهاة أو لمعالجي اللحم المقدد”، وهنا يتوقف عزيز عن القراءة وينفجر ضاحكاً، أثناء جلوسه على إحدى طاولات مزيان الخشبية المصنوعة على الطراز القديم، وفي خلفية الحدث، يمكنك سماع أغنية للموسيقار المصري شيخ إمام تصدح من مكبرات الصوت.
مزيان هو البار والمطعم الوحيد في شارع الحمرا الشهير في بيروت الذي يتمتع بأجواء عربية قديمة، وهو من الأماكن التي يصعب العثور عليها نتيجة لتوضع مدخله في النهاية المظلمة لمبنى تجاري في المنطقة؛ ففي خضم الطبيعة المتغيرة والسريعة لمدينة بيروت، والتي تفقد من خلالها مساحاتها العامة ومعظم عناصر عصرها الذهبي، عدد قليل للغاية من الأماكن في العاصمة الصاخبة لا يزال يوفر مزيجاً من المأكولات اللبنانية والمساحات العامة للنقاشات الاجتماعية والأنشطة الثقافية.
داخل مزيان، يمكنك مشاهدة صور لأم كلثوم ومشاهد من الأفلام المصرية القديمة معلقة على جدران الصالة، ويحدثنا عزيز بحماس شديد حول الحنين لمنطقة الحمرا القديمة، ذاك الوقت الذي كانت فيه المقاهي والمطاعم التقليدية تنتشر بكثرة ضمن هذه المنطقة الشهيرة.
الروح المنسية للحمرا القديمة
قبل الحرب الأهلية في لبنان، كان مفكرو الشرق الأوسط والفنانون يشغلون مقاهي وحانات الحمراء في قلب بيروت العاصمة، وكانت المقاهي، كمقهى مودكا، هورس شو، إكسبريس، وستراند، مكاناً لاجتماع السياسيين، الناشطين، الفنانين، الشعراء، الصحفيين، والأكاديميين، العرب والأتراك والفارسيين.
تلك الصورة اختفت إبان 15 عاماً من الحرب الأهلية التي وضعت أوزارها في عام 1990، وبُعيد الحرب، وعندما بدأ عصر إعادة الإعمار، أكملت شركات التطوير العقاري المهمة التي باشرتها ولم تكملها الحرب الأهلية، وذلك من خلال تسوية كنوز بيروت المعمارية والتراث الثقافي لهذه المدينة بالأرض، وذلك على حساب انتشار المقاهي الغربية ومطاعم الامتيازات الغربية مكان الحانات والمطاعم القديمة.
الحنين إلى الماضي، والتوق لإعادة إحياء الحمرا القديمة، كان الدافع الذي يقف خلف افتتاح عزيز وشركائه لمطعم وبار مزيان في عام 2010، حيث يتذكر عزيز تلك الأيام التي سبقت افتتاح مطعمه، بقوله “حينها لم يكن هناك مكان في منطقة الحمرا لتذهب إليه وتجلس أو لتدردش، لتقرء كتاباً أو لتستمع إلى الموسيقى الجيدة، أو لتلتقي بأصدقائك”، فجنون إعادة بناء المدينة التي مزقتها الحرب قوض روح بيروت القديمة.
“نحن نعيش في مدينة عربية، ومع ذلك فإن العثور على حانة أو مطعم يضع الموسيقى العربية ويقدم الطعام العربي يصبح أمراً متزايد الصعوبة”، يقول عزيز، أثناء محاولته لرفع شعره المتجعد الطويل.
في وقت مبكر من هذا المساء، لم يكن المطعم مزدحماً بعد، وأمام البار، كان يوجد شابان يتحدثان مع الساقي، وكان باب المطبخ مفتوحاً خلف الساقي، ليضيف رف الخضار مشرقة الألوان بريقاً على ظلام المكان وهدوئه.
رغم أن عزيز يؤكد بأن الهدف الأساسي من مزيان هو تقديم الطعام الجيد في جو تقليدي، ولكن هذا المطعم يعمل أيضاً بوصفه مركزاً ثقافياً واجتماعياً في المدينة التي تعاني من نقص في هذه المساحات والأماكن؛ فعلى سبيل المثال في 14 فبراير، تحولت الطاولات الخشبية للمطعم إلى رفوف لبيع الأغراض دعماً للاجئين السوريين في لبنان، حيث تم بيع الملابس المستعملة، القلائد، الأقراط، الألعاب، وبعض الأشياء المختلفة كالمظلات ودبس الفواكه.
ساحة البيع في مطعم مزيان دعماً للاجئين السوريين
أنشطة أخرى تتمتع بمزيد من الأجندات السياسية لاقت مكاناً أيضاً ضمن مزيان؛ ففي مارس، وعندما وصل حزب سيريزا اليوناني إلى السلطة، ألقي عضو اللجنة الدولية للحزب حديثاً في المقهى، أوضح فيه خطط وأهداف سيريزا، وفي تلك المناسبة، لم يقتصر الحضور على السكان المحليين والطلبة، بل حضر اللقاء أكاديميون ومؤرخون كالبروفسور فواز الطرابلسي.
عندما يقترب الفن من الشعب
مطعم آخر في بيروت، يقع في ذات الشارع في مكان لا يبعد كثيراً عن مزيان، يقدم أكثر من مجرد الطعام وملحقاته؛ فملصقات الحفلات الموسيقية، عروض المسارح، دعوات المعارض الفنية، وعروض الأفلام الوثائقية، دائماً ما تراها تغطي المدخل الزجاجي لمقهى تاء مربوطة، وداخل المطعم يمكنك ملاحظة الكتب الإنجليزية والعربية وأقراص الفيديو الرقمية تملأ خزانة الكتب الضخمة التي تغطي جدار المطعم بأكمله.
على الرغم من أن مقهى تاء مربوطة يقدم فقط الطعام اللبناني، ولكن تصميم المطعم الداخلي بعيد نسبياً عن الأجواء الشرقية التي يتميز بها مقهى مزيان، حيث يتميز المقهى بطاولاته ذات اللون الرملي التي تملؤ ساحة المطعم الصغيرة، المحاطة بأسوار المنازل المجاورة العالية، وعلى أحد جدران الفناء، تم تصميم مصاريع النوافذ الملونة باللون الأحمر والأخضر والأزرق على الطراز الفرنسي، ربما للحد من الشعور بالضيق والانحصار ما بين أسوار المباني الضخمة.
أريج أبو حرب، مديرة النشاط الثقافي في تاء مربوطة، تقول بأن المديرين يأملون بتوفير منبر للفعاليات الفنية والثقافية منذ إطلاق المطعم في عام 2006، بغية التخفيف من وطأة نقص فرص الوصول إلى الأماكن الثقافية العامة في بيروت.
في نهاية مقهى تاء مربوطة، يوجد سلالم ضيقة تؤدي إلى غرفة صغيرة للقراءة، حيث يمكن للجميع استخدام هذه الغرفة وجميع كتبها مجاناً، وفي بعض الأحيان، يمكنك ملاحظة وجود مجموعة صغيرة من السوريين يجلسون حول إحدى الطاولات في هذه الغرفة ليتمرسوا على اللغة الإنجليزية مع أحد الناطقين الأصليين بهذه اللغة.
تشمل بعض الأنشطة الثقافية التي تمت ممارستها مؤخراً في تاء مربوطة، عرض الفيلم الوثائقي الفلسطيني المطلوبون الـ18، تخصيص مساحة صغيرة لتبادل الكتب المستعملة، وإقامة حفلات تذكارية لرسام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي ومجازر صبرا وشاتيلا.
من داخل مقهى تاء مربوطة عرض لفيلم المطلوبون الـ18
لشرح أهداف في المطعم، تستعين أبو حرب بالإشاعة المتدولة حول المغني التقليدي السوري الشهير صباح فخري، حيث يُقال بأنه إذا أراد أن يحيي حفلاً في مطعم ما، فإنه يتوجه أولاً إلى المطبخ لتذوق طعامه، لأنه يريد التأكد من أن الطعام جيد بما يتلاءم مع مستوى الفن الرائع الذي يقدمه، “في تاء مربوطة نحن نحاول أن تكون أنشطتنا الثقافية جيدة تماماً كنوعية الطعام الذي نقدمه”، تقول أبو حرب.
تستفيض أبو حرب شارحة بأن المطعم كان من المفترض المطعم أن يُفتتح في يوليو 2006، ولكن اندلاع حرب الصيف مع إسرائيل، أدى إلى تأجيل موعد الافتتاح، ومع ذلك، وخلال الأيام الـ34 للحرب الإسرائيلية، كان تاء مربوطة أحد الأماكن التي تعمل على تنظيم المتطوعين، وتقدم المساعدة للاجئين من جنوب لبنان، وفي وقت لاحق، عندما تم افتتاح المطعم أخيراً، كان يتضمن غرفة صغيرة للقراءة ومكتبة ونادٍ للكتاب.
في الآونة الأخيرة، عمد مطعم تاء مربوطة إلى توسيع أنشطته الثقافية، حيث أصبحت عروض الأفلام القصيرة والوثائقية المجانية جزءاً من جدوله الشهري، كما أن المقهى يتمتع أيضاً بزاوية للفن البصري، وخلال فصل الصيف عرض المطعم نصب “الأب المفقود”، وهو نصب من عمل الفنان السوري ثائر معروف.
نصب معروف مؤلف من مزيج من الرسم والنحت، حيث يضم لوحة لعائلة تجلس أمام خيال، وأمامها نحت لجسم بشري بالحجم الطبيعي مصنوع من المواد اللاصقة والصحف والبلاستيك.
نصب معروف “الأب الضائع”.
في عام 2013، عرض معروف ذات النصب في معرض الفن ببيروت قبل عرضه في تاء مربوطة، لأنه، وكما يقول، “إذا كان الشعب لا يستطيع الوصول إلى الفن، فمن ثم يجب على الفن أن يصل لهم”، ويضيف معروف موضحاً “المؤسسات الفنية في لبنان إما غائبة أو محتكرة، واستند قراري لعرض هذا العمل الفني في تاء مربوطة على قناعتي بأن الفن يجب أن يكون متاحاً للجميع”.
وفقاً لمعروف، شكّل عمله المفاهيمي صدمة للعديد من زوار تاء مربوطة، بسبب دلالته على كارثة إنسانية مريرة، “هذا العمل يضيف بُعداً آخر إلى المقهى، إلى المكان الذي يستقطب حشداً مختلفاً ولا يمكن التنبؤ به”، يقول معروف، ويردف “هنا تكمن أهمية عرض هذا العمل الفني في مكان عام”.
مقهى جديد بأهداف قديمة
في مارس، افتتح مقهى جديد في نهاية شارع الحمرا، مقهى زنجبيل، المكوّن من طابقين، والمصمم على الطراز الغربي ليكون مقهى وبار.
يضم المقهى سلماً خشبياً ضيقاً من الطابق الأول يؤدي إلى زاوية دافئة تحيط بها أرفف الكتب، التي يتم الاحتفاظ ضمنها بمجموعات من الروايات المختلفة المعدة لاستعارة الزوار.
عرض الأفلام مجاناً هو نشاط ثقافي آخر في مقهى زنجبيل، وحتى الآن، تم عرض أفلام المخرج اللبناني مارون بغدادي، كما تم عرض سلسلة أفلام “تلفزيون وائع” الوثائقية، ولكن مع ذلك، فإن مشاهدة هذه الأفلام على الشاشة الصغيرة التي يتمتع بها المطعم ونظام الصوت الفقير، هو تجربة أبعد ما تكون عن المثالية.
مقطع ترويجي لـ”تلفزيون وائع”:
في ظل عدم وجود حكومة فاعلة في لبنان، استطاع القائمون على مزيان، تاء مربوطة، وزنجبيل، اتباع نهج جديد لخلق الأحداث في مطاعمهم، وإنفاق جزء من أرباحهم على الأحداث الفنية والثقافية والاجتماعية.
“لبنان يعيش بلا رئيس للجمهورية منذ أكثر من سنة، وسياسيونا غير قادرين حتى على حل أزمة النفايات، وبالطبع لن يكون لديهم أي قلق حول الأنشطة الثقافية والاجتماعية”، يقول مصطفى الفخري، أحد العملاء المداومين في مطعم مزيان، ويتابع “مبادرات هذه المطاعم هي الطريقة الوحيدة التي يمكن من خلالها للشعب اللبناني أن يدعم بعضه بعضاً، كما أنها توفر لنا متنفساً مريحاً”.
المصدر: ميدل إيست آي