بينما تشتعل منطقة الشرق الأوسط جراء الصراع في سوريا والعراق، وتستمر المشاكل السياسية والاقتصادية في الاتحاد الأوروبي بدءًا من الصراع في أوكرانيا وحتى الأزمة اليونانية، تبدو الأمور في آسيا أكثر هدوءًا، إلا أن هذا لا يعني غياب الصراع عنها تمامًا، فالمنطقة الصاعدة اقتصاديًا والتي تشكل الآن أكثر من نصف الاقتصاد العالمي دفعت الولايات المتحدة إلى إعادة رسم ارتكازها الرئيسي ليكون المحيط الهادي بدلًا من الأطلنطي، وهو ما يعتقد البعض أنه سببًا في انهيار المنظومات الإقليمية التي ساعدت واشنطن على استقرارها في شرق أوروبا والشرق الأوسط، والتي نشهد انهيارها حاليًا.
على الناحية الأخرى من الكرة الأرضية، وبينما يبزغ نجما كل من الصين والهند، يبدو أن طموحاتهما ومشاريعهما الإقليمية للهيمنة على التجارة في المحيطين الهادي والهندي لا تقل في وزنها عن المشروع الأمريكي، فالصين قد أعلنت منذ سنوات قليلة عن مشروع طريق الحرير البحري الممتد من سواحلها الشرقية وحتى الخليج الفارسي، بالتوازي مع طريق الحرير البري الممتد عبر آسيا الوسطى وإلى أوروبا، كما أعلنت الهند هي الأخرى عن سياسة “الفعالية الشرقية” التي تهتم بموجبها بمحيطها الآسيوي وشرق أفريقيا بشكل أكبر.
ملاكا: عنق التجارة الآسيوية والعالمية
حين نتكلم عن السيطرة على التجارة في آسيا، فإن أول ما يلفت الانتباه هو مضيق ملكة الواقع في ماليزيا، وهو بمثابة السويس والبوسفور مجتمعين في تلك المنطقة من العالم، بل ولربما تفوق أهميته حاليًا قناة السويس نتيجة أهمية شرق آسيا للاقتصاد العالمي، فهو يستقبل أكثر من نصف حركة الحاويات عالميًا، وثُلث القطع البحرية في العالم بشكل عام، والتي يمر معظمها من المحيط الهندي متجهًا نحو بحر جنوب الصين، حاملًا حوالي 80 بالمائة من احتياجات الطاقة الصينية، و60 بالمائة من الطاقة اليابانية.
مُعضلة استراتيجية إذن هي مشكلة ملاكا بالنسبة للصين، إذ يقتصر الوصول الصيني للمحيطات بشكل أوسع واتصالها بالتجارة العالمية على منفذ واحد، وهو منفذ لا يقع في أراضيها، بل وتحتاج معه إلى بسط هيمنتها في بحر جنوب الصين لتؤمن قدرتها على الدخول والخروج منه بحرية، وهو ما يفسر جهود الصين على مدار العقد الماضي في بناء جزر اصطناعية في البحر كقواعد عسكرية لها، وتوسّع نطاق المنطقة التي تعتبرها جزءًا من مياهها الإقليمية على حساب اليابان وفيتنام والفيليبين منذ أعوام قليلة بشكل ينافي المواثيق الدولية.
“بحر جنوب الصين هو بحر صيني،” هكذا قال نائب قائد القوات البحرية الصيني يوان يوباي صراحة، ضاربًا عرض الحائط أية قوانين أصدرتها الأمم المتحدة بخصوص المياه الإقليمية لكل بلد، فالصين تعتبر أن أهميتها للاقتصاد العالمي ووضعها الاستثنائي في المحيط الهادي مع حاجتها لتأمين عبور سلس للمحيط الهندي وما ورائه يحتمان عليها التعامل بشكل مختلف مع بحر الجنوب الصين، والسيطرة عليه بشكل أكبر وأوسع، وهو ما يجلب لها الكثير من العداوات بالطبع، أبرزها مع اليابان، وكذلك مع الهند التي تعتمد هي الأخرى وإن بدرجة أقل على المضيق في التجارة مع اليابان والصين وكوريا والكثير من اقتصادات جنوب شرق آسيا.
على الرُغم من جهود الصين تلك، لا يبدو أن ملاكا هو الرهان الوحيد لها، فهناك خطط بديلة تحاول بها تخفيف اعتمادها على ملاكا مستقبلًا عبر خلق موانئ وسكك حديدية تربطها بالمحيط الهندي مباشرة، وهي خطط تعتمد فيها بالطبع على حلفائها في حوض المحيط الهندي، مثل بنغلادش وسريلانكا وميانمار التي تغدق عليها بمليارات الدولارات في صورة دعم للبنية التحتية، وهو مرة أخرى أمر يضعها وجهًا لوجه مع الهند التي تعتبر المحيط الهندي نطاق نفوذ تاريخي لها.
سباق المحيط الهندي
الموانئ وطرق التجارة التي تمولها كل من الصين (أحمر) والهند (أزرق) أو كلاهما
تتسم اللعبة الجارية في المحيط الهندي بين الصين والهند لحماية كل منهما لنصيبه من التجارة والحركة البحرية العالمية بتعقيدها الشديد، فليس ثمة تحالفات أو عداوات ثابتة هنا، بل وتتداخل أحيانًا أموال الهنود والصينيين حين تحاول البلدان الصغيرة مثل بنغلادش أو سريلانكا اللعب مع كليهما لتحقيق الاستفادة القصوى، وهو أمر تفعله أيضًا معظم دول شرق أفريقيا المطلة على المحيط، لتبقى لنا ربما العلاقة الوطيدة بين الصين وباكستان باعتبارها الملمح الثابت الوحيد في تلك المنطقة.
العداوة بين الهند وباكستان معروفة للقاصي والداني لأسباب كثيرة، وهو ما يتيح للصين ميزة رئيسية لا تمتلكها الهند من وجود حليف ثابت لها، وهو حليف قوي مقارنة بدول أخرى ضعيفة في المنطقة، بل وحليف قريب من الهند بشكل تستطيع معه الصين التلويح بقوتها البحرية في أي وقت، كما أنه موقع يتيح للصين حماية طرق التجارة والطاقة الواصلة إليها من الخليج والبحر الأحمر بشكل أفضل مقارنة بموقعها البعيد، لا سيما وأنها تعتمد على جزء لا بأس به من نفط الخليج.
أمام وضع كهذا لا يسع الهند بالتأكيد أن تقف مكتوفة الأيدي، حيث تتمتع بعلاقة قوية مع ماليزيا، التي يمكن اعتبارها ثاني أكثر عامل ثابت، وإن كان قابلًا للتغير أكثر من باكستان، في المنطقة، فالتوتر بين الصين وماليزيا له تاريخ طويل متعلق بهيمنة طبقة الصينيين في ماليزيا على حساب الملاوي، وهو ما يعني أن الهند تستطيع بعلاقتها تلك أن تتواجد على أبواب ملاكا مباشرة، لتوازن التواجد البحري الصيني على سواحل باكستان.
إيران أيضًا هي واحدة من الدول القريبة من الهند رُغم علاقاتها القوية مع الصين، فنتيجة الاستراتيجية الصينية في جنوب آسيا الداعمة لباكستان، والتي تحاول بها بكين تأمين نفوذها في آسيا الوسطى كذلك، تجد إيران أن هناك حدودًا لتشكيل تحالف مع الصين نتيجة التوتر بينها وبين باكستان في ملفات عديدة أبرزها أفغانستان، وهو ما يعني أن آفاق التحالف الوثيق مفتوحة لها مع الهند أكثر من بكين، وهو ما يتجلى بقوة في مشروع ميناء تشابهار الذي تقيمه الهند على سواحل إيران ليصلها إلى آسيا الوسطى هي الأخرى، ويتجاوز بها عُقدة كشمير التي تمنعها من الاتصال المباشر بقلب آسيا، وينافس في الحقيقة ميناء جوادر الصيني الذي يُقام لينافسه في باكستان.
بلدان المحيط الهندي الحاصلة على معونات استراتيجية صينية أو هندية أو كليهما
في منتصف الطريق تقريبًا بين باكستان وإيران من ناحية وماليزيا من ناحية أخرى، تقع بنغلادش، وهي واحدة من البلدان التي تكشف لنا مدى تركيبية المنافسة الصينية الهندية، فعلى الرُغم من علاقاتها التاريخية مع الهند التي حققت لها استقلالها من باكستان في مطلع السبعينيات، تُعَد بنغلادش ثاني أكثر بلد حصولًا على المعونات الصينية في المنطقة، والتي تذهب معظمها لقطاع النقل ولتدشين ميناء جديد هو تشيتاجونغ وطرق للسكة الحديد تعتقد معها الصين أنها تخلق بها موقعًا قريبًا من ملاكا وصمامًا للضغط عليه.
في نفس الوقت، لم تتراجع بنغلادش عن علاقاتها مع الهند، فهي واحدة من أكبر الحاصلين على المعونات الهندية أيضًا، والتي وصلت لـ800 مليون دولار في قطاعات المياه والسكك الحديدية والطرق، كما أن الهند أيضًا تطمح لبناء ميناء لها هي الأخرى في بايرا لتنافس به الصين، وهو الميناء الذي تحاول الصين أن تحوز حقوق بنائه، لتصبح بنغلادش ربما واحدة من أكثر الدول التي يتداخل فيها النفوذان الصيني والهندي، وأحد نماذج استغلال البلدان الصغيرة لصراعات الدول الكبرى لتحقيق أكبر قدر من المنفعة الاقتصادية لها.
إلى شرق بنغلادش تقع ميانمار (أو بورما) المحكومة بنظام عسكري منذ عقود، وهو النظام الذي تمتع بعلاقات وطيدة مع الصين أتاحت لبكين بناء الموانئ والطرق والهيمنة بشكل كامل على البلد، ولكن ليس قبل أن تبدأ انفتاحها مؤخرًا بإجراء انتخابات ولو شكلية، وبدء تفعيل علاقاتها بالهند والولايات المتحدة، ليبدأ الهنود في طرح مشروع للنقل يربط مينائي كالكوتا وسيتوي، ثم سكة حديد تربط سيتوي بالهند مجددًا برًا، كما أن دلهي لم تقف عند ذلك الحد، بل وتطرح دعمًا عسكريًا للنظام في ميانمار لتقطع الطريق على الدور الصيني، والذي تلقى بالفعل أول ضربة بإلغاء مشروع لبناء سد في 2011 بأمر الحكومة الجديدة.
بالدخول لأعماق المحيط والجزر المتناثرة فيه، تُعَد سريلانكا الجزيرة الأكبر والأبرز إلى جنوب الهند واحدة من مسارح التنافس الشديد بين البلدين، فالبلد التي تمتعت بعلاقات قوية مع الصين لفترة طويلة نتيجة دعم بكين لجيشها في وجه تمرد التاميل (والتاميل هي مجموعة عرقية موجودة في شمال سريلانكا وجنوب الهند)، انتخبت رئيسًا جديدًا قامت حملته الانتخابية على مراجعة فساد العلاقات التجارية مع الصين والرغبة في التقارب مع الهند، وهو ما يفتح باب النفوذ الهندي دون أن يلغي بالطبع النفوذ الصيني المتمثل في ميناء هامبانتوتا الضخم والأكبر في جنوب آسيا الذي أقامته الصين.
***
بين تلك القوتين بالطبع تدرك الهند أنها تتخلف عن الصين في قوتها الاقتصادية وقدرتها على ضخ الأموال لحلفائها، وهو ما يعني أنها يجب أن تقبل العمل في بلدان كثيرة تتمتع بنفوذ صيني وأن تراكم فيها الجهد لجني الثمار على المدى البعيد، دون القواعد السياسية الكلاسيكية التي تفترض الهيمنة الكاملة وإقصاء الطرف المنافس من بلد ما، كما أنها على الناحية الأخرى تدرك أن العلاقات الثقافية والتاريخية التي تجمعها بدول المحيط الهندي أكبر من الصين، كما أن إنتاجها الثقافي والفني المنتشر في تلك المنطقة يتيح لها على مستوى القوة الناعمة دورًا لا يتسنى لبكين أن تلعبه.
بين مياه المحيطين الهادي والهندي إذن تتجه الأنظار وتحتشد القطع العسكرية الأمريكية والصينية والهندية وتتدفق الأموال من بكين ودلهي لبناء الموانئ والسكك الحديدية والطرق في منطقة ستكون ربما هي الأكثر أهمية خلال العقود المقبلة بينما يستمر تراجع الشرق الأوسط نتيجة الحروب فيه ويستمر الركود الأوروبي نتيجة أزمة القارة العجوز الاقتصادية واضمحلالها الديمغرافي، وهو ربما ما يفسر اتجاه أمريكا الفتية ديمغرافيًا والغنية اقتصاديًا من الأطلنطي إلى الهادي.