“ميم المتيم والمُيتم والمتمم ما مضى
حاء الحديقة والحبيبة حيرتان وحسرتان
ميم المغامر والمعد المستعد لموته
الموعود منفياً مريض المشتهي
واو الوداع الوردة الوسطي
ولاء للولادة أينما وجدت ووعد الوالدين
دارة درست ودوري يدميني”
هذا الاسم له محمود، المسجون أبدًا في حضرة الغياب، فتى الشعر المدلل رغم كهولته، لاعب النرد: يربح حينًا ويخسر حينًا.
محمود الذي عرفته حينما مات! فهل محمود ضمن هؤلاء الذين يموتون؟!
كنت ابنة ثلاثة عشر عامًا أنتظر أخي العائد من جامعته حاملًا المدد من الكتب والمجلات لأقرأ ملفًا كاملًا يليق بغيابه في مجلة العربي الكويتية، مازلت أتذكر الغلاف حيث هو منتصبًا على منصة الشعر كما عرفته أبدًا مرتديًا سترة وقميص صوفي برقبة، رمادي الشعر رافعًا يديه في حركة تعبيرية مندمجًا في قراءة نصوصه إلى الجماهير العطشى لكلماته.
ومن يومها، منذ سبعة أعوام وأنا أعيش حالة تسمى محمود درويش، متلبسة بروحه شاخصةً إلى سترته أحلم فقط أن ألمسها لأتدفأ بآخر أنفاس سارق النار عليها، لم أطمع يومًا أن أرتديها لأنني أعلم جيدًا أن سترة درويش ستتسع على من فيها أيًا كان، ولأنه علمنى أن أكون في الكتابة “أنا”.
محمود لم يعرف الأقنعة قط ولم يساير التيار أبدًا، بل بقي على العهد ما استطاع فلم يمت! بل غاب، وهو منذ زمن غائب، منذ أن عاد إلى قريته بعد حرب ٤٨ بلا أوراق، فضمنه المحتلون ضمن الحاضرون الغائبون أي الحاضرون بأجسادهم الغائبون في الأوراق الرسمية، ومن يومها وهو في حضرة الغياب، محمود الذي علمنى أن الفلسطيني كالبيارة الخضراء.
“تسحب البيارة الخضراء
إلى سجن إلى منفى إلى ميناء
وتبقي رغم رحلتها
ورغم روائح الأملاح والأشواق
تبقى دائمًا خضراء”
ولذلك فالفلسطيني صامد هنا وهناك، في الشتات أو في المعتقل غالقًا قلبه الأخضر على قضيته التي أنجبت من رحمها محمود درويش مثلما أنجبت أخوته الآخرين كسميح القاسم.
لن تجد سيرة ذاتية لمحمود درويش لأنه من شعره وشعره منه، فمن أراد أن يعرف محمود درويش فليقرأ كلماته التي تشبه طلقات الرصاص، تنطلق ما إن تضغط على الزناد ولا تتوقف حتى تصيب الهدف وقد تسبب هذا في إجهاد متتبعينه وحرر في وجهه سهام النقد والاتهام وآثار الأسئلة العديدة حول ريتا وحول منظمة راكاح وموقفه من الاحتلال الصهيونى الذي تحول من مقاومة إلى دعوة للتعايش والتطبيع حينما قال مثلًا “حبة القمح ستكفيني أنا وأخي العدو”.
وأرى أن درويش رجل صادق مع قلمه إن كان هذا اتهامًا، فهو لا يكتب إلا ما يعتقد فيه وما يشعره، وكل منا يمر بتقلبات فكرية عديدة، وكل منا يتلبسه الغفران المسيحي غير المشروط أحيانًا دافعًا إيانا على إدارة خدنا الأيسر لمن صفعنا.
فدرويش رجل لم يتوان قط عن الدفاع عن حقوق الفلسطينيين في أرضهم ولم يستثقل أبدًا حملًا ألقته القضية الفلسطينية على عاتقه، فمن قرأ بعض قصائده وعمد إلى تأويلها كدعوة للتطبيع يمكنه أن يقرأ آلاف الأعداد من مجلة الكرمل التي كان يصدرها تحت إشراف منظمة التحرير من قبرص ثم بيروت ثم رام الله وقد حملت مشعل التنوير والتثقيف للفلسطينيين ومنبرًا لأدب المقاومة، محمود درويش الذي تبرع بأكثر من ألف كتاب قبل موته لمنظمات فلسطينية ومكتبات عامة لأجل الفلسطينيين .
ثم ريتا، التي أشعلت أول أعقاب الثقاب في قلبي لتذكى الغيرة الأنثوية .. “والذي يعرف ريتا ينحنى لإله في العيون العسلية”، ومحمود كان أول من انحنى ووقع في الحب، ونحن حينما نحب نصبح أبعد ما يكون عن الحسابات، لا نستجوب المحبوب عن ديانة أو جنسية أو قناعات، يأمر الحب فنطيع.
قد يكون الأمر مخالفًا لقناعاتي الشخصية ولكنى لن أتهمه في شيء ولا أستطيع أن ألوم عاشق أو أصلبه لأنه عشق، وفي رأيي ليس محمود بالذي يبيع قضيته من أجل امرأة، فالقضية أبقى، ومن يعرف سيرة الرجل سيكتشف أن ريتا لم تكون سوى محطة في حياته مر بها وأكمل المشوار فتزوج مرتين ولكنه ترك في تلك المحطة جزءًا مضيئًا من روحه، فهو لم يحب سوى ريتا، وأنا لم أشعر بالغيرة من أنثى سوى ريتا التي أرغمت “درويشي” على الانحناء لعينيها.
غاب محمود وهو أعزب وصداقاته محدوده فقد كان ميالًا إلى العزلة ليمنح للكتابة والقراءة معظم طاقاته وانتباهه، وقد لقنني درسًا منذ أن تعرفت عليه لأول مرة ليرسخ قاعدة لكل من يكتب وينطلق منها كل من يقرأ له فيدركه بلا عناء ويفهمه دون استيضاح، يقول:
“قصائدنا بلا لون بلا طعم بلا صوت
إذا لم تحمل المصباح من بيت إلى بيت
وإن لم يفهم البسطاء معانيها
فأولى أن نذريها
ونخلد نحن للصمت”
أتخيله دائمًا شاخصًا أمامي عندما أكتب ويقول لي: “إذا ارتعد قلمك يا صغيرتي فألقي به ولا تنتهكي قدسية الكلمات”.
درويش الصوفي الذي سبّح على مسبحة اللغة، وكانت كل كلمة منه رقصة عشق أبدية للسماء، درويش عرّابي الذي عمدني بماء الشعر والياسمين، درويش المتتبع أثر الفراشة، أو هو الفراشة التي لا تتوقف عن الدوران حول الضوء رغم علمها بأنه يحرقها، من مات عشقًا في الأرض التي تستحق الحياة ولم تذقها إلى الآن قط.
يوسف الشعر الذي رأى أحد عشر كوكبًا ولم يخف رؤياه ومازال أخوته يحقدون رغم الغياب.
هي ليست سطورًا عنك، وإنما شمعة أنورّها باسمك على مذبح الكلمات وأتركها تنطفئ وحدها.