لا تبرز للشخصيات المؤثرة في مجتمعاتها سوى مواقف بسيطة من سيرة حياتهم، هذه المواقف البسيطة هي التي ترسم صورة هذه الشخصيات عند الشعوب وتخلد ذكرها وترفعها لتجعل منها أبطالًا أو تخسفها لتجعل منها خونة، لا عجب مثلًا أن يبقى ذكر الخليفة العباسي “المعتصم” حاضرًا في العقلية الجمعية العربية حتى اليوم لموقف حميّةٍ وقفه في يوم “عمّورية”، ومع ذلك فقد بقي اسمه مخلدًا حتى بعد اثني عشر قرنًا من وفاته وسيبقى إلى أن يشاء الله، قل مثل ذلك عن “شارل ديغول” في فرنسا حين كان الجنرال الوحيد الذي وقف ضد الاحتلال النازي لبلاده، وعن “مارتن لوثر كينغ” في أمريكا وموقفه الشهير أمام البيت الأبيض حين قال: لدي حلم، وعن “نيلسون مانديلا” في جنوب أفريقيا، و”المهاتما غاندي” في الهند وغيرهم.
وبعيدًا عن سير التاريخ وأحداثه التي جعلت منها افتتاحيةً لمقالي هذا فإنني تذكرت مع توارد أخبار الاحتلال الروسي لسوريا موقفًا وقفه “الشاذلي القليبي” حين تم إعلان الحرب على العراق نتيجة غزوها للكويت عام 1990.
والشاذلي لمن لا يعرفه أمين عام جامعة الدول العربية السابق، وقد عاصر أثناء توليه هذا المنصب أخطر أحداث التدخل الخارجي في الوطن العربي وهي التي تمثلت بشرعنة احتلال القوات الغربية للخليج العربي، فنتيجةً للاحتلال العراقي للكويت بدأت تتوارد تصريحاتٌ دولية حول ضرورة التدخل العسكري وضرب القوات العراقية، كان الشاذلي مصرًا حينها على حلٍّ عربي للأزمة، وقد صرح بذلك مرارًا ولكن لم يكن ليستمع إليه أحدٌ من قيادات الدول الأعضاء، الدول العربية الكبرى فضلت حينها الاستعانة بالقوات الأمريكية التي شكّلت حلفًا مكونًا من أكثر من ثلاثين دولة غربية وعربية بقيادتها لاستعادة الكويت، عندما بدأت أخبار الحشد الأمريكي التي نزلت في الخليج تتوارد أعلن “الشاذلي القليبي” استقالته رافضًا تدخل قوات غربية في أراضٍ عربية ورافضًا أن يتم ذلك وهو على رأس منصبه أمينًا عامًا.
قد يكون موقف الرجل رمزيًا لا أكثر، وهو بالفعل لم يستطع أن يغير من الواقع المرير شيئًا، فللأسف ما زالت القوات الأمريكية تسيطر على الخليج حتى اليوم، ولكننا لا يمكن أن نحكم على موقفه هذا إلا بالنبل، فهو قد رفض الاحتلال وسعى لتغييره بما استطاع عليه وهو لسانه بعد أن عجز عن تغييره بيده.
اليوم تُعلن روسيا بكل وقاحةٍ وصَلَفْ تدخلها العسكري المباشر في سوريا، ثم تُعلن كنيستها الأرثوذوكسية أن حرب بوتين في روسيا حربٌ مقدسة، ومع ذلك على الصعيد العربي لا نكاد نسمع أي تعليقٍ على هذا التدخل، “نبيل العربي” الأمين العام لجامعة الدول العربية يغطّ في نومٍ عميق، الدول الأعضاء ليست أحسن حالًا، فلم تنتقد ولا دولة عربية ما حدث باستثناء تصريح خجول للسعودية يدين التدخل، أما على الطرف الآخر فقد باركت مصر الاحتلال الروسي على لسان وزير خارجيتها “سامح شكري” الذي اعتبر في مقابلةٍ تلفزيونيةٍ له على قناة العربية أن التدخل الروسي سوف يُسهم في القضاء على الإرهاب، كما أن هناك تقارير تُفيد بأن الأردن والإمارات تقف في نفس هذا الموقف مع مصر وهذا بالطبع ليس إلا دعمًا لنظام الأسد ودعمًا لبقائه في السلطة وهو الموقف الذي لا تخفيه حكومات هذه الدول، أما العراق فقد كان موقفه أكثر انحطاطًا حين أعلن على لسان رئيس وزرائه “حيدر العبادي” أنه يرحب بغاراتٍ روسيةٍ في بلاده إذا كانت لضرب تنظيم الدولة الإسلامية!
لا شك عندي أن السياسة العربية والقادة العرب وصلوا في هذه الأيام إلى أكثر دركات الانحطاط، من الطبيعي أن يكون الساسة براغماتيون ولكن عادةً ما تكون هذه البراغماتية في مصالح شعوبهم أو مصالح دولهم وسياساتها العليا، وحتى لو لم تكن تهمهم مصالح شعوبهم كثيرًا ففي غالب الأحيان يستخدم الساسة طرقًا معقدةً كي يزوروا الحقائق ويوهموا شعوبهم بأنهم قادة وطنيون ومخلصون، القادة الأقزام الذين يديرون شؤون الوطن العربي اليوم لم تعد حتى تهمهم صورتهم أمام شعوبهم، انكشفت الأوراق حتى أصبح القادة العرب اليوم يتفاخرون باحتلال أجنبي لبلد عربي ويصفقون له.
قبل عقودٍ مضت كانت البلاد العربية ترزح تحت حكم عسكري ديكتاتوري من جمال عبدالناصر في مصر إلى القذافي في ليبيا وصولًا إلى البعث بجناحيه حافظ الأسد في سوريا وصدام حسين في العراق، لا شك أن الأوضاع حينها كانت سيئة على العرب جميعًا ولكن كان الخطاب السياسي الذي يتم توجيهه للشعوب العربية حينها يُكسب الجماهير خدرًا وأحلامًا ورديةً حول بلدانهم المستقلة وأنظمتها السياسية التي تُقارع المحتل، أما اليوم فإن الحكومات العربية لم يعد يعنيها حقيقةً الصورة التي يرسمها الشعوب لها في مخيلتها ما دامت تسيطر حتى الآن على زمام الأمور في بلادها.
من الإساءة للإنسانية أن يتم وصف دول السيسي أو الأسد الابن بأنها دول حتى ولو كانت ديكتاتورية، هذه الكيانات التي تسلطت على أعناق الشعوب العربية اليوم ليست أكثر من مزارع يديرها وكلاء مباشرون لقوى عالمية كبرى، هذا التوصيف لا مبالغة فيه ولا تجنّي، فالحقيقة ما زالت أسوأ من هذا بكثير.
لا شك أن انكشاف الأوراق وظهور الأمور على حقيقتها هو في صالح هذه الأمة المجهّلة والمغيبة، ولا شك أن هذا كان من أهم نتائج الربيع العربي، ولربما كانت الفرصة الآن مواتية وبشكلٍ أكبرٍ للشعوب كي تتحرر من سطوة جلاديها الفكرية وتحاول أن تخرج من القمقم الذي وضعوه فيها لتكتسب قليلًا من الوعي يعينها على جولةٍ أخرى من جولات تلمّس طريقها المنشود، أزعم أن الوقت الراهن هو الوقت المناسب لثورة فكرية في العالم العربي، كما أزعم أنني بدأت أرصد بوادرًا لظهور هذه الأفكار والرؤى المستقبلية، لم تولد الأفكار التجديدية والنهضوية إلا من رحم المعاناة والبؤس، وبرأيي أن هذه الثورة الفكرية ستكون الخطوة الثانية في المشوار الطويل الذي كُتب لهذه الأمة أن تقطعه، وما زالت هنالك خطوات أخرى أهم وأكبر، فمشوار الحرية والنهضة والاستقلال مشوارٌ طويل لم نقطع منه شيئًا يُذكر بعد.