رجب طيب أردوغان، الرئيس التركي الذي أبعد عنه أوروبا في السنوات القليلة الأخيرة نتيجة توجهاته الأتوقراطية كما يراها نقاده، واقترب من نظيره الروسي فلاديمير بوتين، يبدو في الأيام القليلة الماضية أكثر استقلالية وثقة من ذي قبل، إذ لا تزال علاقاته متوترة ببعض العواصم الأوروبية في نفس الوقت الذي حتمت عليه الظروف الابتعاد عن بوتين واستهجان تحركات روسيا علنًا في حوار صحافي معربًا عن عدم فهمه لأسباب تدخل روسيا، “روسيا لا تمتلك أي حدود مع سوريا، أما نحن فنمتلك حدودًا تبلغ 911 كيلومترًا، أنا مستاء جدًا مما يجري الآن”.
لم تلك الثقة من فراغ بالطبع، فقد استقبلت بروكسل أردوغان لإجراء محادثات بخصوص الملف السوري منذ أيام، وهي زيارته الأولى لبروكسل منذ أن ألغى زيارة رسمية عام 2011، إذ مواقفه تقع على النقيض تمامًا من مواقف روسيا في سوريا، كما أنه يمتلك مفاتيح كثيرة للحل نتيجة استضافته لحوالي مليوني لاجئ سوري ودعمه للمعارضة السورية التي قصفها الروس، بما فيها جبهة النصرة، مما يعني أن أوروبا، والتي تجد نفسها الآن مكتوفة الأيدي بين تدفق المهاجرين غير المرغوب فيهم وتمدد الروس، تحتاج إلى فتح باب الحوار مع جارها التركي.
إرهاصات الحاجة الأوروبية الملحة للتعاون مع تركيا بدأت في ديسمبر الماضي، حين أعلن رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون عن رغبة بلاده في مساعدة تركيا لوقف سيل الجهاديين المتجهين إلى سوريا والعراق للقتال هناك، والذين يمر أغلبهم كما نعرف عن طريق الحدود التركية الطويلة، وكانت تركيا آنذاك تغض الطرف عن وفودهم نظرًا لتشكيلهم ضغطًا على نظام الأسد من ناحية، وعلى حزب الاتحاد الكردستاني وثيق الصلة بحزب العمال الذي تعتبره أنقرة إرهابيًا.
مؤخرًا، ظهرت تلك الحاجة مجددًا بعد الأزمة التي أحدثها تدفق المهاجرين لأوروبا، والتي رأي البعض أنها محاولة من تركيا للضغط على عواصم الغرب لتلبية طلب إنشاء منطقة عازلة في شمال سوريا لإعادة توطين اللاجئين، وبالتبعية خلق نقطة انطلاق جغرافية صلبة للجبهة المعارضة للأسد بعيدًا عن داعش، وكذلك بعيدًا عن الأكراد، وهو تحرك دفع أوروبا لعرض حوالي مليار يورو لدعم مخيمات اللاجئين في تركيا ولبنان والأردن، بيد أن ذلك العرض لم تجده تركيا شافيًا حتى الآن، “لا يمكن أن تكون تركيا هي الحل لعدم قدرة الاتحاد الأوروبي على التحرك بشكل جماعي ومعالجة تلك المأساة الإنسانية”، هكذا قال دبلوماسي تركي سابق.
المعارضة التركية أيضًا لم يختلف موقفها حيال أزمة اللاجئين، والتي يبدو أنها سترفع أرصدة القوميين في الداخل ممن لا يريدون استقبال السوريين في تركيا، وهو ما لا يريده العلمانيون أو الإسلاميون بالطبع، حيث صرح كمال قلجدار أوغلو رئيس حزب الشعب الجمهوري العلماني، والذي يعارض دعم أردوغان للمعارضة السورية منذ بدء الحرب ويتعاطف مع الأسد، أن أزمة اللاجئين هي أزمة أوروبية لا تركية، وأن العالم تجاهل عن عمد الحرب الدموية في سوريا.
إسلاميًا كنت أم علمانيًا في تركيا إذن فإنك ستشارك الرئيس التركي رغبته في خلق المنطقة العازلة التي دعا إليها نظرًا لرغبتك في إعادة اللاجئين إلى بلدهم الأصلي، وكذلك احتواء التمدد الكردي الجاري في شمال سوريا، والذي لا يعجب العلمانيين نظرًا لعلاقته بحزب العمال المكروه بشدة بين الأتراك حاليًا، والغاضبين من عملياته المسلحة الجديدة في جنوبي شرقي البلاد، وكل ذلك يعني أنه على العكس من ملفات أخرى لا تحظى بالإجماع داخل تركيا، يبدو وأن المطلب التركي المرفوض منذ أشهر ليس طلبًا “أردوغانيًا” مثل سياسات أخرى في سوريا، وهو ما يعني أن تركيا لن تتخلى عنه بسهولة، ولن تتعاون مع أوروبا ما لم يتم تنفيذه.
تباعًا، وعلى الرغم من كارثية القصف الروسي الجاري حاليًا، يبدو وأنه سيصب على المدى البعيد في صالح تركيا، إذ إن أزمة اللاجئين إن لم تكن كافية لتجبر أوروبا على قبول اقتراح تركيا، فإن دخول روسيا الآن يعني أن الغرب في حاجة إلى تركيا أكثر من أي وقت مضى لاحتواء القوة الروسية، بل وسيعطي الحجة لتعزيز العمليات العسكرية التي يقوم بها التحالف ضد داعش بعد أن كان هناك تحفظ على خوض غمار حرب أخرى بالشرق الأوسط، وهو تحالف لا مفر من أن تضطلع تركيا بدور أساسي فيه نظرًا لعدم قبول واشنطن أو لندن الانخراط بشكل كبير.
بين بروكسل وأنقرة: مَن يحتاج مَن؟
الضغط من أجل المنطقة العازلة ليست الورقة الوحيدة التي يلعب بها أردوغان مستغلًا حاجة أوروبا له في هذه اللحظة، بل وكذلك عدم جدوى كل الانتقادات التي وُجِهَت له بسبب سياساته الداخلية في الفترة الأخيرة من جانب الاتحاد الأوروبي ومؤسساته، فالاقتصاد التركي اليوم لا يبدو مهتمًا باليورو الضعيف، والذي تعاني بالفعل منه كافة دول الجنوب، كما أن الحالة العامة في تركيا لم تعد مهووسة بالانضمام للاتحاد الأوروبي ولا تبالي بالانتقادات القادمة من بروكسل، وهو ما يعني أن ورقة الضغط التي كانت تستعملها بروكسل في السابق من تهديد بعدم قبول تركيا كعضو بالاتحاد لم تعد ذات قيمة.
هذه الأيام لا يتحدث أحد بالفعل عن تعنت فرنسا وألمانيا سابقًا ضد قبول تركيا كعضو بالاتحاد الأوروبي، بل ولا يكاد يذكر أحدهم ملف العضوية من الأصل، فالكُل في تركيا يتحدث عن ملف الأكراد وسوريا واللاجئين، في الوقت الذي يبدو وأن هناك إجماع على أن الدور التركي، وحجم الاقتصاد التركي النامي ولو ببطء مؤخرًا، ليسا مناسبيَن للدخول في اتحاد يعاني من الأزمات، بل ويعاني أيضًا من تصاعد نبرة معاداة الإسلام بشكل غير مسبوق، كما أنه ضعيف أمام الروس كما أثبت ملف أوكرانيا.
ملف أوكرانيا والبحر الأسود هو الآخر مسألة أخرى تحتاج فيها أوروبا إلى تركيا، فالبحرية التركية الأقوى في الناتو بعد الولايات المتحدة هي ربما الضمان الوحيد للغرب مع الدعم الأمريكي لها بخلق التوازن مع الروس في البحر الأسود، كما أن الاقتصاد التركي القوي في تلك المنطقة، وعلاقاته برومانيا وبولندا ودول أوروبا الشرقية الأصغر والأضعف، وكذلك دول البلقان، هو ربما المعادل الوحيد لنفوذ الروس المتنامي بينما يتوقف قطار عضوية أوروبا عن التوسع في تلك المنطقة.
***
منذ حوالي عشر سنوات، كانت تركيا تعيش فرحة بدء المحادثات الجدية للانضمام للاتحاد الأوروبي بعد أكثر من ثمانين عامًا من محاولات إثبات ذاتها أمام الغرب، بيد أن العقد الماضي على ما يبدو، والذي صعدت فيه تركيا بشكل غير مسبوق في تاريخ الجمهورية، بالتزامن مع هبوط أرصدة أوروبا عالميًا سياسيًا واقتصاديًا وعودة الروس عسكريًا، يشي بأن وزن تركيا أصبح أثقل من ذي قبل، وأن المزاج العام فيها أصبح أكثر استقلالية عن حلم الالتحاق ببروكسل.
بروكسل نفسها على ما يبدو هي التي ستحتاج إلى أنقرة كثيرًا هذه الأيام في الشرق الأوسط وشرق أوروبا بينما ينزوي الأمريكيون بعيدًا نحو الصراعات الأسيوية، وستضطر للتعامل معها على شروطها وبوضعها الحالي “غير الإصلاحي” أو المنافي للمبادئ الديمقراطية كما تسميه نظرًا لحاجتها الملحة للدور الإستراتيجي التركي، وهي ربما أحد الأسباب التي قد تفسر لنا ثقة أردوغان في سياساته الجديدة تلك.
ما إذا كانت نتيجة الانتخابات المقبلة في نوفمبر ستحمل البشارة لأردوغان بالاستمرار في ذلك النهج أم لا هو أمر يعود بالطبع للشارع التركي والذي سيقرر إما منحه الأغلبية البرلمانية من جديد، أو حرمانه منها مرة أخرى ليضطر للجلوس مع معارضيه العلمانيين رغمًا عنه هذه المرة، بيد أن بروكسل في الحالتين تعد العدة لحوار طويل مع أنقرة بخصوص ملفات عديدة، وتعرف أنه ستضطر للتعامل مع أردوغان كثيرًا على الأقل حتى 2019 حين يحين موعد انتخابات رئاسية جديدة.