ترجمة وتحرير نون بوست
في هذه الأيام، ومع كل ضربة فرشاة يبدعها على قماش اللوحة، يشعر “ذو الفقار شعراني” بالامتنان، فهو ببساطة ممتن لقدرته على مواصلة العمل الذي يحبه ويتقنه.
الحال لم يكن كذلك قبل عام من الآن عندما كان يعيش في مسقط رأسه في دمشق، وحينها قبضت عليه مجموعة من الأشخاص الذين يرتدون ثيابًا مدنيًا، وأوسعوه ضربًا وشتمًا، “عندما أنظر إلى الوراء، أتذكر بأنني كنت أحاول حماية يداي من خلال ترك رأسي ووجهي يتلقيان ضرباتهم القاسية، لهذه الدرجة كنت أخشى فقدان قدرتي على الرسم مرة أخرى”، يقول ذو الفقار.
كان هذا الهجوم القشة التي قصمت ظهر البعير، حيث اقتنع ذو الفقار على إثره بأن خياره الوحيد ينحصر في مغادرة سورية حتى تحسن الظروف التي تمر بها بلاده التي تمزقها الحرب، وفعلًا، في أواخر عام 2014، تمكن من الإبحار على متن إحدى السفن التي انطلقت من ميناء مرسين التركي، ليحط رحاله في وجهته المقصودة، إسطنبول.
في خضم الظلام النفسي الدامس الذي كان يعيشه ذو الفقار، لم يكن الأخير متأكدًا ما إذا كان سيحصل على فرصة ليرسم مرة أخرى، وهنا جاءت مبادرة آرت هير إسطنبول (Arthere Istanbul)، وهي من بنات أفكار المهاجر السوري عمر بيرقدار، لبث النور في الظلام الذي يخيم على حياة ذو الفقار.
الفنان السوري عمر بيرقدار الذي كان خلف فكرة افتتاح معرض آرت هير إسطنبول (Arthere Istanbul)
مركز فنون متعدد الأغراض
بيرقدار، الذي ينحدر أيضًا من العاصمة السورية دمشق، جاء إلى إسطنبول في عام 2012 نتيجة لقلقه بشكل أساسي حول مستقبل ابنه البالغ من العمر 10 أعوام، فهو لا يريد لابنه أن يشب في مناخ تسود فيه عقلية “التعبير محكوم بخطر الموت”.
لكونه صيدلي بالتدريب، مصور متعطش، وفنان، قرر بيرقدار افتتاح مركزًا من شأنه أن يخدم أغراضًا متعددة في ذات الوقت؛ فالمركز يخدم كاستوديو عمل مفتوح أمام أترابه من السوريين غير القادرين على إيجاد مساحة للعمل، كما يحاول أيضًا تغيير المفاهيم السائدة حول السوريين التي تشكلت أساسًا من الصورة الإعلامية، التي تبين بؤس وعوز ويأس السوريين.
في ديسمبر 2014، افتتح بيرقدار أبواب آرت هير إسطنبول (Arthere Istanbul)، وهو مركز يخدم كمعرض فني واستوديو ومقهى، ولاستنكافه عن الحصول على تمويل خارجي خشية أن يؤدي ذلك إلى إحداث ضغط لسلوك خط سياسي معين يقيّد مشاركة الفنانين، اعتمد بيرقدار على فكرة إشراك جميع الفنانين للمساعدة في إعداد قائمة طعام قادرة على توفير لمحة عن ثقافة الطبخ في بلاده.
“هذا مفهوم جديد بالنسبة لنا جميعًا، أردت أن أخلق مساحة حيث يستطيع أترابي من الفنانين السوريين الاستمرار في عملهم، كما أردت أن أقدم صورة مختلفة عن السوريين أمام الأتراك”، يقول بيرقدار، ويتابع “الفكرة تتمثل بتعريف السوريين والأتراك وباقي الأشخاص من مختلف الجنسيات على بعضهم البعض، نريد أن نثبت أن السوريين لا يمثلون بكليّتهم حالات خيرية، نريد أن نكون منتجين ونقدم أعمالًا للمجتمعات التي نعيش فيها”.
بالرغم مما تقدم، يحرص بيرقدار على ضمان أن التركيز الذي يستقطبه آرت هير إسطنبول (Arthere Istanbul) لا ينبع بحد ذاته من كون هذا المركز مُفتتح ومُدار من قِبل السوريين، بل لكونه يضم فنانين وأشخاصًا عاديين، “نحن لا نصب تركيزنا على الجانب السوري، نريد أن يكون مشروعنا معروفًا بفنه الذي يقدمه، والجو الذي يكتنفه، وحقيقة أننا سوريون ستأتي لاحقًا وستفرض نفسها بجميع الأحوال”.
آمال
سمع ذو الفقار عن مشروع بيرقدار من بعض الفنانين الأصدقاء في سورية، ولكنه، وفي خضم محنته، نسي هذا المشروع تمامًا، وبعد أسابيع قليلة من وصوله إلى إسطنبول، تذكر المشروع وسعى للتواصل مع مؤسسه، “كان الحديث مع عمر مدهشًا، لقد كانت رؤيته حول المشروع تتطابق مع أحلامي بالضبط، وهنا فجأة بزغت فرصتي لمعاودة الرسم مرة أخرى”، يقول ذو الفقار.
يشير ذو الفقار بأن أثر آرت هير إسطنبول (Arthere Istanbul) لم يقتصر على السماح له بالرسم مرة أخرى، بل كان لهذا المشروع اليد الطولى في مساعدته في التغلب على مزاجه الظلامي الذي كان يخشى أن يتسرب وينعكس على أعماله، “كل شيء مررت به أثر بي بشدة نفسيًا، وبطبيعة الحال هذه الظلامية كان يمكن أن تنطبع في أعمالي، ولكن معتقداتي وأفكاري أثبتت بأنها أقوى من الخوف الذي كان يعتريني”.
يشير ذو الفقار بأن المستقبل مازال يكتنفه الغموض الكثيف، ومع ذلك فإنه مصمم أن يفعل ما في وسعه لمساعدة والديه وأشقائه في سورية وزملائه في أماكن أخرى، ويردف موضحًا بأن مشروع آرت هير إسطنبول (Arthere Istanbul) قدم له يد العون، لذا فإنه يأمل بأن يستمر بالتوسع والنمو.
“أود أن أساعد أسرتي وأبناء جلدتي الآخرين، أحاول فعل ذلك بطريقتي الخاصة، من خلال كوني فنانًا”، يقول ذو الفقار.
مكافأة غير متوقعة
توفيق حميدي هو أحد خريجي كلية الفنون الجميلة في حلب عام 2012، وبعد تخرجه فورًا، أدرك بأن مستقبله يكمن خارج بلاده، لذا اغتنم أول فرصة أُتيحت له لمغادرة البلاد حاطًا رحاله في المملكة العربية السعودية، حيث عمل هناك في معرض فني قبل أن يقرر الانتقال إلى إسطنبول.
“الحياة كانت أسهل عمليًا في المملكة العربية السعودية، لأنهم هناك يتحدثون ذات لغتنا، كما أن العمل هناك يدر المزيد من المال، ولكن بذات الوقت، العيش بالسعودية صعب لرجل شاب وأعزب، لذلك قررت الانتقال إلى إسطنبول”، يقول توفيق.
توفيق حميدي يقف أمام إحدى أعماله في معرض آرت هير إسطنبول
وصل توفيق إلى إسطنبول في عام 2014، وأمضى بضعة أشهر هائمًا على وجه في المدينة دون هدف، “أنا لا أتكلم لغة البلاد، لذلك لم يكن بإمكاني القيام بأي شيء سوى التسكع في المدينة، ومن ثم سمعت عن آرت هير إسطنبول، مما ساعد على تحويل حياتي في جميع المناحي”.
توفيق يعمل في مجال الرسم ويعيش في مقر آرت هير إسطنبول على حد سواء، “إنه لشيء رائع، يمكنني أن أرسم بالتلازم مع حصولي على فرصة مناقشة أمور كثيرة مع الفنانين الآخرين، كما أنني أساعد في تسيير أمور المقهى هنا كأي شخص آخر”، يقول توفيق.
يشير توفيق بأنه يشعر حاليًا بسعادة غامرة، ويعتبر نفسه محظوظًا للغاية، خاصة عندما يرى نضالات أبناء جلدته الذين يحاولون بيأس الوصول إلى أوروبا، حيث يقول “تلك المشاهد حزينة حقًا، لقد أتيحت لي فرصة الذهاب سابقًا إلى أوروبا عندما كانت الأمور أسهل بكثير، ولكنني قررت أن أبقى هنا، أود أن أسافر إلى أوروبا في يوم من الأيام ولكن كزائر فقط، لا أن أسعى للبقاء هناك”.
جسر الهوة ما بين الثقافات
الفنانة أويكو دوغان، هي حلقة الوصل التركية في معرض آرت هير إسطنبول، حيث سمعت عن هذا المشروع من خلال صديقة زوجة عمر، وسحرتها فكرة المشروع فورًا، “إنها طريقة رائعة للتعرف على الثقافات الأخرى” تقول دوغان، وتتابع “المشروع يوفر لنا، نحن الأتراك، فرصة لمعرفة المزيد عن جيراننا، فنحن نتمسك بتلك الأفكار المسبقة، الخاطئة بمعظمها، عن السوريين والعرب بشكل عام، ونعتقد بأننا نعرف كل شيء عنهم، ولكننا في الواقع لا نعرف سوى القليل”.
تشير دوغان بأنه كان يمكن أن يكون من الأسهل على المشروع أن يوظف أشخاصًا مختصين للعمل في مطبخ المقهى، ولكن خطة إشراك الفنانين في أعمال المطبخ خلقت نوعًا من التعاضد الطبيعي.
“الأمر لا يقتصر على تعلمي لأشياء جديدة مع مواصلتي بالرسم ضمن المشروع، بل إنني أتعلم أيضًا الكثير عن العمل الجماعي من خلال جهودنا المشتركة ضمن المطبخ، ومع ذلك، فإننا نعيش بعض اللحظات المختلفة، ففي بعض الأحيان، وفي خضم محاولتنا لطبخ طعام ما، ينتهي بنا المطاف بحرق الطعام”.
توضح دوغان بأن المبادرة نجحت، إلى حد ما، بتغيير المفاهيم حول السوريين، ولكنها تعترف بأن الوصول إلى تأثير أوسع سوف يستغرق الكثير من الوقت، “منذ أيام فقط دخلت سيدتان ثريتان إلى المعرض، وعندما علمتا بأن العديد من الفنانين الذين يعملون بالمشروع هم من السوريين، أعربتا عن صدمتها، لأنهما لم تتوقعا بأن السوريين يمكن أن يكونوا طبيعيين للغاية، وبالرغم من الغضب الذي اعتراني جرّاء هذا الموقف، إلا أنه يؤكد بأنه يتعين علينا القيام بالكثير من العمل”، تقول دوغان.
المشروع استطاع بالفعل عكس انطباعًا جيدًا في الحي الذي يقع ضمنه، حيث يقول محمد، الشاب الذي يعمل في محل البقالة الذي يقع على بعد بضعة شوارع من مركز الفنون، بأنه يتصادف في بعض الأحيان مع بعض الفنانين السوريين، ويجدهم ودودين ومتعاونين للغاية، “إنهم يبدون سعداء، ولا يتدخلون فيما لا يعنيهم، الأشخاص الذين قابلتهم لطفاء للغاية” يقول محمد، ويتابع “ما نسمعه على الدوام هو أن السوريين موجودين في جميع أنحاء البلاد للتسول أو ما شابه، ولكن هؤلاء الأشخاص لا يبدون كذلك”.
حلم فرع دمشق
جميع الفنانين في المركز يعرضون أعمالهم على الجدران محددين أسعارها وفق ما يناسبهم، وعائدات المقهى تذهب لتغطية نفقات المركز، وفضلًا عن ذلك، ينظم المركز أيضًا ورش عمل مختلفة وأنشطة ثقافية أخرى، كالليالي الموسيقية الخاصة، وأنشطة بناء الأثاث.
يرى بيرقدار مشروع آرت هير إسطنبول كخطوة أولى لتحقيق أحلامه حول اليوم الذي يستطيع فيه العودة إلى سورية ليفتتح فيها فرعًا لآرت هير في دمشق، حيث يقول “أسعى لذلك اليوم الذي نستطيع فيه تطبيق مفهوم آرت هير في مدن مختلفة في جميع أنحاء العالم، حيث نعمل جميعًا على الانخراط في مجال التبادل الثقافي على نطاق أوسع، ولكن الأهم من ذلك كله، هو أنني أسعى لرؤية آرت هير دمشق”.
المصدر: ميدل إيست آي