يشهد العالم العربي منذ سنوات عدة انتشار الجامعات الخاصة والدولية واستقطابها للطلاب على حساب الجامعات الحكومية العريقة، وهي ظاهرة ربما فريدة نوعًا ما بالنظر لهيمنة الجامعات الحكومية في الولايات المتحدة، أوروبا، كندا، الصين، والبرازيل، وحتى في البلدان المجاورة مثل تركيا، إيران، إسرائيل، والهند، فالخدمات العامة وإن دخل فيها القطاع الخاص حول العالم، إلا أن التعليم العالي تحديدًا ظل بمنأى عن هيمنة رجال الأعمال ومحتفظًا بهيبته واستقلاليته الأكاديمية، وإن كانت الجامعات الخاصة موجودة هنا وهناك، إلا أن الجامعات الحكومية حول العالم لا تزال هي الأقوى والأكثر ثقلًا والأعلى تصنيفًا.
لماذا أصبح العالم العربي استثناءً في عدم قدرته على النهوض بجامعاته الحكومية وتزايد قوة الجامعات الخاصة والدولية فيه؟ لعل النظر إلى أصل تلك الجامعات ونشأتها يعطينا تفسيرًا، علاوة على التحولات الاجتماعية الاقتصادية التي جرت في العقود الثلاثة الأخيرة.
مسار الجامعات العربية من النشأة إلى التدهور
تأسست الجامعات العربية الحكومية كجزء من جهود النُخَب المثقفة في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، والتي حاولت أن تخلق طبقة من المتعلمين والقادرين على إدارة المؤسسات الحديثة التي دشنها الاستعمار دون الكوادر الأجنبية التي جلبها معه، لتكون تلك أول لبنة في عملية “تحرير” المجال المؤسسي من الاستعمار بمعناه المباشر، وإتاحة العلوم الحديثة لقطاعات واسعة من المجتمع الذي اعتمد حتى تلك اللحظة إما على العلوم التقليدية كما سُميت، والتي لم تشمل العلوم الضرورية لإدارة المجال العام الحديث بكفاءة، أو إرسال البعثات للخارج، وهي بعثات كانت محدودة في أعدادها بالطبع.
وقعت على عاتق تلك الجامعات بالفعل مسؤولة الإدارة الحديثة بشكل مطلَق بعد خروج الاستعمار، وهو ما أدى لارتفاع أعداد الملتحقين بها بنسبة كبيرة؛ أولًا نظرًا لتزايد التعداد السكاني بسرعة، وثانيًا بسبب إتاحة الالتحاق المجاني بها كجزء من سياسات الجمهوريات العربية التي نشأت آنذاك، وثالثًا لأن قطاعات واسعة من الوافدين إلى المدن الكبرى كانوا يرغبون في الحصول على وظائف القطاع العام المُجزية آنذاك، والتي شكلت عماد الطبقة الوسطى الجديدة.
أصبحت الجامعات الحكومية إذن قاعدة تفريخ لكافة أصحاب الوظائف بالقطاع العام من مؤسسات عامة، مدارس، مستشفيات، وشركات عامة، وهي مسألة سارت بسلاسة حتى وصلنا للثمانينات وتغيّرت طبيعة السوق لتصبح أكثر دينامية، ومع نهاية الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفيتي الذي مالت له معظم تلك الجمهوريات، واتجاهها للاقتصاد المفتوح وجذب الاستثمارات الأجنبية، تغيرت للأبد طبيعة المجال العام والخدمات والعمليات الجارية فيه، لتظهر إحدى المشاكل الرئيسية للجامعة العربية اليوم، وهي الفجوة بين العلوم التقليدية التي تقدمها الجامعة من ناحية، ومتطلبات السوق الحر من ناحية أخرى.
علاوة على ذلك، ونظرًا لهيمنة الدولة غير الديمقراطية على الجامعات، بقضبتها الأمنية أولًا وعدم اكتراثها بالجودة الأكاديمية، لم تنشأ شراكة بين الجامعات كمؤسسات مستقلة وبين القطاع الخاص لسد تلك الفجوة كما يحدث في كافة دول العالم؛ فالعديد من الدول غير الديمقراطية مثل الصين أتاحت للجامعات كيانًا مستقلًا بحد أدنى يسمح لها بمواكبة السوق وتكوين قاعدة مشتركة مع الشركات الصناعية والتكنولوجية، وهي تركيبة لم تقُم مع الأسف في البلدان العربية.
تباعًا، لم يكن غريبًا أن يتزايد دور الجامعات الدولية، مثل الجامعة الألمانية في القاهرة وفروع الجامعات الأمريكية المختلفة لسد تلك الفجوة، فهي تقدم العلوم الضرورية لمواكبة السوق من ناحية، كما تمتلك منظومة أكاديمية تتيح للراغبين في الالتحاق بالدوائر الأكاديمية في الخارج طريقًا أسهل، كما أن جودة التعليم فيها نتيجة أن مصاريف أعلى من نظيرتها في الجامعات الحكومية التي تستقبل أعدادًا أكبر وتقدم جودة أقل في معظم المجالات (وإن كانت هناك استثناءات في بعض الكليّات والأقسام بعينها)، والمفارقة هنا هي أن الكثير ممن يدرسون في الجامعات الخاصة هم في الحقيقة أساتذة من الجامعات الحكومية، ممن لم يعودوا قادرين على الاعتماد فقط على رواتب جامعاتهم الأصلية.
بين الإنساني والاجتماعي والعلمي: لم ينجح أحد
المسألة إذن ليست هبوطًا مطلقًا في الجامعة وما تملكه بقدر ما هي تضافر مجموعة من العوامل تحيلها إلى التدهور وانعدام جدوي العملية التعليمية الجارية فيها، فالعاملين بها لا يجدون نفس الحافز للاستمرار بنفس المستوى، كما أن الأقسام فيها تعاني من عدم التطوير لمواكبة السوق للأسباب أنفة الذكر، أضف لذلك أن مفهوم المجتمع الأكاديمي المنعدم تقريبًا في العالم العربي يعني أن الكليات التي كانت تقوم بتغذية الدوائر الأكاديمية الأدبية والفكرية سابقًا، لم تعد ذات قيمة مع تدهور الوضع الثقافي، فالكليات الأدبية الآن مفتوحة لمن لم يتم قبوله في أي من الكليات المطلوبة في السوق ليس إلا.
علاوة على ذلك، فإن الكليات المنصبة على العلوم الاجتماعية والسياسية هي الأخرى تعاني من انعدام جدواها نظرًا للنظام الاستبدادي والفاسد الذي يعمل بشكل يومي في غنى عن الكوادر التي تنتجها، في حين أنها من المفترض أن تتجه بعد تخرجها إما إلى العمل العام مباشرة كما يحدث في الغرب، أو إلى العمل في مراكز الأبحاث التي تستشيرها المؤسسات العامة، بيد أنها في العالم العربي غالبًا ما تتجه للخارج، أو للعمل بمراكز حقوقية شكلية أو واقعة تحت ضغط النظام الاستبدادي ليس إلا، وإما إلى مباشرة عمل آخر خارج تخصصها.
الكليات العلمية الطبيعية أيضًا تعاني نتيجة الحالة شبه الميتة للبحث العلمي في العالم العربي، فالإنفاق المباشر على البحوث يشكل حوالي 4% من الدخل القومي في كل من سنغافورة وإسرائيل، في حين نفس الرقم لا يتجاوز 1% في الجامعات العربية، وهي مسألة نعزوها بالطبع أولًا لغياب اهتمام الدولة، والتي تستثمر بشكل كبير في كافة جامعات العالم، ولكننا نعزوها أيضًا إلى المسافة الكبيرة بين الجامعات وشركات القطاع الخاص، حيث تساهم الشركات الكبرى، في مجال الاتصالات والتكنولوجيا وغيرها، في تمويل البحوث بالجامعات في معظم البلدان حول العالم.
تبقى إذن الكليات الضرورية لتسيير الخدمات الرئيسية مثل الطب والهندسة والحقوق على قيد الحياة بشكل نسبي نظرًا للمؤسسات التي تحتاجها لتشغيلها، بيد أن مستوى التعليم الذي تقدمه تدهور هو الآخر كما هو متوقع مع تدهور القطاعات التي يخدمها أصلًا في المجال العام، فمستوى كليات الطب في مصر على سبيل المثال يتدهور بالتوازي مع هبوط مستوى الخدمات الصحية، علاوة على أن أفضل الكوادر، كما هو الحال في معظم الأقسام الأخرى، تذهب إما للعمل بالخليج حيث المرتبات المجزية، أو لاستكمال مساراتها المهنية والبحثية في الخارج.
ما الحلول المطروحة إذن؟
معالجة تلك المعضلة (أو المعضلات) تتطلب في الغالب الاشتباك بكل مجموعة أقسام على حدة وفقًا للدور الذي يُفتَرَض أن تؤديه في المجال العام، فالكليات العلمية الطبيعية التقليدية على سبيل المثال ستحتاج إلى تحريك المياة الراكدة فيها عبر بناء جسر بينها وبين شركات الأبحاث أولًا، وربما إدخال فكرة المصاريف ولو كانت رمزية لتتمكن الدولة من تطوير البنية التحتية البحثية التي تعتمد عليها، أما الكليات التطبيقية كالطب والهندسة فهي ستحتاج إلى الارتباط بالقطاع الخاص، علاوة على رفع كفاءة القطاعات التي تقدم تلك الخدمات أصلًا في السوق، وهي مسألة تتجاوز فكرة إصلاح الجامعة من عدمه نظرًا لطبيعة تلك المجالات.
مسألة مجانية التعليم لا يتوقع لها هي الأخرى أن تستمر، خاصة وأنها لا تؤتي أية ثمار حقيقة، أضف لذلك أن الملايين يتم إنفاقها بالفعل في الدروس الخصوصية أولًا، والدورات التدريبية التي يحتاجها الآلاف من الشباب قبل الالتحاق بسوق العمل لسد الفجوة بين ما تعلمه في الجامعة وما يطلبه السوق كما ذكرنا، وهو ما يعني أن تلك الأموال يمكن أن تُنفَق لتطوير المناهج الموجودة بكليات التجارة وعلوم الإدارة لتصبح مواكبة لما يجري في المجال العام بدلًا من انكفائها على أساليبها التقليدية.
الجامعات الخاصة قد يكون لها دور أيضًا، كما تشي بذلك نماذج حديثة مثل جامعة زويل وجامعة الملك عبد العزيز للعلوم والتكنولوجيا، ولكنها في النهاية ستظل جامعات منكفئة على الأبحاث العلمية كما أراد لها مؤسسوها وستتمكن من تقديم العون للجامعات الكبرى الأصلية عبر التعاون وتبادل الخبرات والتواصل مع الجامعة الأجنبية، دون أن تحل بالضرورة المعضلة الرئيسية في تفريخ الكوادر اللازمة لإدارة المجال والخدمات العامة.
الأوقاف هي واحدة من الأفكار المهمة كذلك للخروج من نفق غياب التمويل، ولنا في جامعة ساو باولو مثال، حيث أصبح تمويل الجامعة يعتمد على جزء من الضرائب الأساسية التي تتلقاها ولاية ساو باولو من المواطنين، مما يضمن لها دخلًا ثابتًا مستقلًا عن أية أموال يدفعها الطلاب، وهو نموذج ليس بجديد على عالمنا العرب كما نعرف من تاريخنا الطويل، والذي يعج بمئات المدارس التي بُنيت واستمرت استنادًا لأموال موقوفة.
فيما يخص مجالات أخرى أدبية واجتماعية وإنسانية، تبدو المسألة أكثر تعلقًا بالحالة العامة وبالوضع الثقافي أكثر منها بقطاع مادي بعينه كالمستشفيات أو الشركات، وهو ما يحيلنا إلى ملف أوسع من إصلاح تلك الأقسام من عدمه؛ وهو استقلال الجامعة أولًا وكفالة الحريات داخلها، لينشأ جو مناسب للحوار وإطلاق الأفكار، وهو ما يعتمد بالتبعية على إصلاح المنظومة السياسية التي لا تزال قابضة على الحياة الجامعة خوفًا على نظامها الاستبدادي.
في المُجمَل إذن، يبدو الحل متفرع إلى مسارات متعددة بعدد الأقسام الموجودة ربما، وتفكيك البيروقراطية الجامعية الكبيرة، والتعامل مع كل قسم على حدة كما يحدث في جامعات عديدة حول العالم، قد يتيح ربما حلولًا أسهل وأكثر ذاتية من داخل كل قسم، كما أنه لن يعطل على الأقل الأقسام العلمية والتطبيقية التي تحتاج إلى إصلاح ضروري بينما تتخلف عنها عمليات الإصلاح في أقسام العلوم الاجتماعية والسياسية لمدى لا يعلمه إلا الله اعتمادًا على إصلاح المجال العام بأسره.