السابعة والنصف صباحًا، ساحة تحيطها مبانٍ من ثلاثة جوانب وسور من الرابع، يعلو السور قطاع عريض من السلك الشائك الذي تعلق به بقايا ملابس، يتوسط أحد أضلع المستطيل الطويلة ساري علم صدئ وعتبة من الخشب المهترئ.
يبدأ عدد من الرجال المتثائبين الذين يرتدون ملابس متماثلة في الاصطفاف في صفوف مستقيمة ومتواجهة، كل الصفوف تنظر نحو ساري العلم، العلم الذي لا تحركه الرياح الساكنة.
تعلو أصوات ضبط مكبر صوت من مكان ما، تتجه الأنظار نحو العتبة المهترئة، يسود الصمت، تبدأ الإذاعة، يظهر مسؤول ما موجهًا تعليماته للمصطفين، ثم يبدأ في توجيه مجموعة من الصيحات تبدأ بالصفا وتنتهي بالانتباه وتمر بمجموعة من الأرقام، يستجيب المصطفون لهذه الصيحات بالتحرك بشكل كسول وصاخب في نفس الوقت، تتبع ذلك مجموعة من الفقرات التي يؤديها أفراد يماثل زيهم المصطفين أمامهم، الفقرات من ضمنها القرآن الكريم وحكمة اليوم وربما بضع نكات سخيفة.
يصرخ المسؤول منبهًا إلى وجوب تحية العلم قائلًا “انتباه”، يضرب المصطفين أقدامهم اليمنى في الأرض بعنف وينصبوا قاماتهم المتكاسلة، يتحرك مجموعة من المصطفين الذين يرتدون أغطية رأس وشارات ذراع حمراء، يحلون العلم وينكسوه، يبدأ عدد آخر من المصطفين على العتبة بعزف النشيد الوطني على كمان وأوكورديون وبيانو إلكتروني، ومع ذلك يبدأ رفع العلم مرة أخرى حتى يصل إلى قمة الساري وتقف الموسيقى، ينادي ذوو الشارات الحمراء على اسم الوطن ثلاث مرات، يتبع ذلك أن تسترخي أجساد المصطفين بشكل أو بآخر، ثم يبدأ عدد من المسؤولين الذين يملؤون المكان بتنظيم حركة الصفوف كل نحو هدفه بيسر وسلاسة.
“كل نظام تعليمي هو أداة سياسية لضمان أو تعديل الخطاب الحاكم”، ميشيل فوكو.
يصعب التعرف على موقع حدوث المشهد السابق، ربما لأنه قد يحدث في مدرسة بنفس احتمالية حدوثه في سجن، ذات البداية لليوم في مؤسسات الضبط والعقاب، إذ تبدأ عملية السيطرة على مرتادي هذه المؤسسات عبر بسط تحكم كامل على حركة الجسد وساعته؛ فبمجرد دخولك إلى هذه المؤسسات تفقد تمامًا التحكم في جسدك بحرية وفقًا لإيقاع ساعتك الداخلية، الحركة هنا محدودة بساعة واضحة معلقة على حائط واضح للجميع، كما أنها تأتي كجزء من تيار حركة ضخم يضم مئات الأجساد.
وإن كان المشهد السابق من مدرسة، فإن المصطفين هم التلاميذ، ووجهتهم بعد نهاية طقوس طابور الصباح هي الفصول الدراسية، غرف تمتاز بثبات شكلها ووضوح وجهتها، مجموعة من الكراسي تتجه كلها في اتجاه واحد، في نهاية هذا الاتجاه تنبسط سبورة سوداء ينقش عليها الأستاذ العلم، للأستاذ الكلمة الأولى والأخيرة هنا، كل الأعين مسلطة عليه، لا يستطيع أي طالب أن يحدث سواه، كما لا يستطيع أن يتحدث من موقعه المنخفض إلى الأستاذ العالي المترجل دون أخذ الإذن بذلك.
قطعًا وبلا شك لا يمكن عدم الإشارة إلى محورية العقاب لضبط أداء الطلاب في هذا السياق، يحدث العقاب كالتالي، يخرج الطالب من مكانه ليقف أمام السبورة بجانب الأستاذ، إما ليطرد خارج الفصل الدراسي أو ليتلقى نصيبًا من الضرب أمام بقية زملائه، في هذه الحالة تحديدًا تتشابه المدارس العربية مع أنظمة العقاب في القرون الوسطى على خلاف تشابهها الكبير مع نظم الضبط الحداثية في الأوجه الأخرى.
“الفسحة مش للعب .. الفسحة للتأمل”، الناظر صلاح الدين.
الثانية عشرة ظهرًا، ذات الساحة المذكورة في الفقرة الأولى، يتدفق الفتية/ الرجال ذوو الأزياء الموحدة إلى الساحة، يقوم بعضهم بارتداء الشارات وأغطية الرأس الحمراء بعد إخراجها من جيوبهم ويتجه نحو مكان ما ليقوم بدوره، يتواجد عدد قليل للغاية من المسؤولين حاملي العصي ويتحرك بشكل سريع بين الجموع، يراقب عدد آخر من المسؤولين الجموع من بعض الأدوار العليا المحيطة بالساحة من ثلاثة اتجاهات.
ربما يبدو الاقتباس السابق فكاهيًا في مثل هذا السياق الجاد، إلا أنه يحوي في كلماته معانٍ ذات دلالة هامة، إذ يصحب انطلاق الأفراد إلى الساحة للفسحة/ التريض تحول عدد منهم إلى مراقبين يضبطون حركة الآخرين، يسمح لهم أن يلعبوا أشكالًا محددة من اللعب أو الرياضة دونًا عن غيرها، الوقت محدود والساعة معلقة في مكان واضح للجميع من كافة النواحي، وفي حالة لم تسمع فإن الجرس سيصل إلى أذنك بكل تأكيد.
يتحول الأفراد إما إلى مُراقِب أو مُراقَب، يتأمل كل منهم بتمعن في دور الطرف الآخر، بتمعن يمنعه من الانطلاق للعب أو التريض كما يحب، يصبح التأكد من العقاب والشعور بالمراقبة هو الضابط الرئيسي للحركة.
تنتهي الفترة المحددة ويتجه الجميع مع صوت الجرس نحو فصولهم/ زنازينهم، يضبط ذوو الشارات دخول الآخرين إلى الفصول/ الزنازين حتى آخر فرد؛ ثم يخلعون شاراتهم ويدخلون إليها بدورهم.
“جميلة .. نظيفة .. متطورة .. منتجة”، مدخل مدرسة ناصر الثانوية العسكرية بنين.
تنتشر الصفات الماضية على جدران ومداخل المدارس المصرية كافة كشعار رسمي للمؤسسة التعليمية، تصف الكلمات مؤسسة منضبطة لا مجال فيها للقبح، القذارة، التخلف، والكسل، كل السابق هي صفات لأداء مواطن صالح مفيد لمجتمعه، ذات المواطن الذي إذا انحرف عنها دخل إلى السجن لسبب أو لآخر، وهذا السجن كما نعلم جميعًا من المنقوش على مداخل كل السجون المصرية هو: “تهذيب وإصلاح”، أي أنه إعادة للمواطن إلى تلك المبادئ التي فشلت المدرسة في غرسها فيه لسبب أو لآخر.
في نهاية الأمر لا نستطيع أن نجد في قدرتنا على تبادل كلمتي المدرسة والفصل بالسجن والزنزانة على طول المقال سوى الرعب، فكيف يمكن للتعلم وهو عملية قائمة على الفضول والشك بالأساس أن يحدها الخوف بشكل مؤسسي بهذا الشكل؟ كيف يمكن لإعداد طالب أثمن ما يملكه هو الإبداع والنقد أن يأخذ شكل المؤسسات العقابية بهذا الشكل؟ أين يصبح العلم من كل هذا؟ ربما نحاول الإجابة عن هذا السؤال غدًا.