يعتبر التعليم أحد أهم ركائز تقدم الشعوب وتطورها، ويكفي أن نطلع على تصنيف الجامعات الأولى في العالم لنتأكد أن عظمة الدول تمر أساسًا عبر قيمة استثمارها في البحث العلمي والاستثمار في الإنسان باعتباره النواة الأولى.
ومما لا يختلف فيه اثنان، هو أن التعليم يتأثر أساسًا بالسياسات التعليمية التي تتبناها الحكومات وأصحاب القرار فيها، كما أن الموروث الثقافي في المجتمعات المختلفة يساهم بدرجة عالية في تعريف مكانته (التعليم) ورسم حالة التفاعل مع البرامج المختلفة التي قد تتغير كل فترة من الزمن سواء بالسلب أو بالإيجاب.
أثر ثقافة الفقر على التعليم
يختلف تعريف الفقر بين دولة وأخرى، إلا أنه يعتبر من بين الأولويات الدائمة التي يعمل على محاربتها، فمتى وجدنا حديثًا عن الفقر وجدنا ذلك الحرمان المادي الذي يترتب عليه التدني في كافة المستويات، لا سيما المستوى التعليمي والمستوى الصحي والسكني، وإذا ما نظرنا في جميع دول العالم، فسنجد أن عدد الفقراء قد وصل إلى ما يقارب ثلث سكان الأرض الذين يبلغ عددهم 6 مليار مواطن حول العالم، ولارتباط الفقر بالتعليم بشكل كبير؛ نجد أن نصف هذه النسبة من الفقراء حول العالم أميين، لا يقدرون على القراءة والكتابة، وهو الأمر الذي يوضح لنا مدى خطورة هذه الآفة التي تعرف بالفقر، ومدى تأثيرها على التعليم، والذي بدوره يؤثر على كافة النواحي الأخرى من نواحٍ اقتصادية واجتماعية ونفسية وغيرها.
والفقر بما هو ظاهرة اجتماعية تؤثر وتتأثر بباقي نواحي الحياة، وتفرز ثقافة خاصة تحت وطأة الحاجة والفاقة، تدفع غالبًا لتشكيل نظرة غير متوازنة للتعليم باعتبار أن جل أولويات المصنف “فقيرًا” تتلخص في سد احتياجاته الأساسية من مأكل ومشرب وملبس ودواء، وهو الأمر الذي لا يجعله ينظر إلى العلم على أنه ضرورة للحياة لا بد منها، وإنما ينظر إليه باعتباره أمرًا ثانويًا، نظرًا لعدم قدرته على تحصيله وارتفاع تكاليفه وعدم وضوح مردودية الاستثمار الطويل فيه، فمع ارتفاع نسب البطالة لدى حاملي الشهادات العليا، لا تجد لدى العائلات الفقيرة حرصًا على أن يلتحق أبناؤهم بالمدارس من أجل التعلم، وإنما يرون أنه من الأفضل أن يتركوا مدارسهم من أجل مساعدتهم في أمور المعيشة.
هذه النظرة المادية للتعليم في مثل هذه المجتمعات لها آثارها الكبيرة على عملية الإبداع في المجتمع، فكلما كان المجتمع فقيرًا، قلت عملية الإبداع، وقلت الابتكارات التي تساعد بدورها على تقدم المجتمع وتطوره، ولعل هذا يرجع بدوره إلى عدم توفر القدرات لدى الإنسان الفقير من حيث مواكبة التطورات الحديثة، حتى وإن قاوم الفقر فيما يخص الالتحاق بالعملية التعليمية، فسيجد صعوبات كثيرة فيما يخص مواكبة التكنولوجيا الحديثة، التي تحتاج بدورها إلى أموال كثيرة في أغلب الأحيان.
أثر ثقافة “كليات القمة” على مجتمعاتنا العربية
وبالإضافة إلى الفقر الذي ينتج ثقافته ويجعل من عملية التعلم خيارًا ضمن خيارات وليس حاجة إنسانية، تلوح أيضًا مشكلة جامعات “النخبة” أو كليات القمة كعائق أمام مسارات التطور في مجتمعاتنا العربية؛ في مختلف الدول، تعتبر كليات الهندسة والطب والنجاح في الدخول إليها أحد النياشين المجتمعية التي تجلب التقدير والإعجاب.
أغلب المتفوقين في الثانوية العامة أو امتحان الباكالوريا (حسب الدولة) تجدهم تحت ضغط الموروث المجتمعي وبلا وعي مدفوعين للاختيار الضيق بين كليات الهندسة والطب رغم وجود اختصاصات أخرى قد يكون لهم القدرة في التميز والإبداع فيها، وهو ما يساهم في خلق طبقة عرجاء من النخب، فالعلوم الإنسانية مثلًا رغم حاجة الشعوب الماسة إليها، خاصة المتخلفة منها، لا تحتوي في العموم سوى الذين لم يبتسم حظ الامتحان الوطني التصنيفي لهم.
وحتى هذه الكليات التي تعتبر كليات قمة تعاني من حالة الانفصال العضوي بين ما تقدمه من محتوى تكويني وبين ما تطلبه سوق الشغل، إذ تشير أغلب الدراسات إلى وجود حالة من الانعزال لنظم التعليم في أغلب الدول النامية وعلى رأسها الدول العربية عن الحياة العملية داخل سوق العمل وهو ما أفضى إلى فجوة كبيرة بين مخرجات العملية التعليمية وما تقدمه، وبين سوق العمل وما يتطلبه من مواصفات معينة، فبدلًا من أن يكون التعليم هو الأداة التي تساعد على إخراج الكفاءات التي يتطلبها سوق العمل أصبح بمَثابة العائق الأكبر أمام إيجاد الكفاءات والخِبرات التي يتطلبها سوق العمل باستمرار، فلئن كان سوق العمل هو السبب الرئيس في استِحداث الكثير من التخصصات في البلدان الحية، والتي يتم التوسع فيها أيضًا وفقًا لحاجة سوق العمل، فإنه يظل في بلداننا منفصلاً عن البرامج التكوينية.
في الشعوب المتقدمة، ما يحدد الخيارات الجامعية والتعليمية هو مهارات الفرد وإمكانيات الخلق والإبداع في أحدها، وهو ما يغيب في مجتمعاتنا لأن الهاجس الأول مادي بحت فمهن الهندسة والطب مهن مربحة ماديًا وتعتبر أقلها تضررًا من آفة البطالة، والهاجس الثاني يتمثل في ذلك الموروث الاجتماعي الذي خلق ما يشبه طبقية في الاختصاصات العلمية.
واقع سيء للتعليم المهني
هذه الثقافة المجتمعية لم تساهم فقط في حصر النخب الطلابية في مجالات محدودة قد تكون دولنا حصلت حاجتها منها وزيادة بل وأصبحت السوق غير قادرة على استيعابها (مثال الأردن الذي أعلن مؤخرًا أن من بين 33 تخصصًا هندسيًا، هنالك 24 تخصصًا يعاني من البطالة، مقابل 13 مشبعًا)، بل ساهمت في تهميش مراكز التكوين المهني التي تكون التقنيين في مجالات عملية تفرز يدًا عاملة متخصصة يسهل إدماجها في سوق الشغل؛ في تونس مثلًا ورغم مضي الدولة في اعتماد هذه المراكز كأحد سبل التحصيل الجامعي، إلا أنها ظلت مجتمعيًا وواقعيًا قبلة الفاشلين دراسيًا ولم تستهو المتفوقين، ومن يقصدها للدراسة وفي رأسه هذه الفكرة من الطبيعي ألا يكون منتجًا.
ومن بين التجارب الأخرى في هذا السياق، نذكر التجربة اللبنانية التي استوردت النظام التعليمي المهني من ألمانيا وهو الذي يمنح الطالب فرصة اختيار تعلم مهنة ضمن عدة تخصصات متاحة في بحر ثلاث سنوات تؤهله لممارسة المهنة، ويتميز هذا التأهيل بالمزاوجة بين التعلم النظري والممارسة التطبيقية حتى تتضمن سنواته الثلاث نصيبًا من الخبرة التي يطلبها سوق الشغل، ورغم أن اعتماد لبنان على هذا النظام الألماني يعود إلى سنة 1995 وتركيزه في أكثر من 22 مدرسة، إلا أنه لا يزال يعاني من عدم إقبال أرباب العمل على خريجيه لغياب الثقة في المؤهلات التقنية التي تمكن منها الطالب.
كذا الأمر في مصر، فمشروع “مبارك – كول” الذي أطلقه الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك والذي بذل من أجله الأموال الطائلة وكان له السبق في اعتماد البرنامج التعليمي المهني الألماني منذ تسعينات القرن المنقضي لم يحقق المرجو منه في إنشاء مسار جديد للتعليم المزدوج، فبالنسبة للتعليم المهني فإنه لا يمثل الخيار الأول لمن يلتحقون به (حوالي 45%) وإنما هم اضطروا إليه لأنهم لم يوفقوا في التعليم الأكاديمي، ولذلك فإنهم بالإضافة إلى حسهم بالدونية عن أقرانهم يتلقون تعليمًا غير متلائم مع متطلبات سوق العمل، بسبب الخلل في التنسيق بين مؤسسات التعليم ومؤسسات الاستخدام أو بسبب عدم توفر البنى التحتية والبرامج التدريبية الملائمة لمتطلبات سوق العمل، وتكون النتيجة أن نسبة كبيرة من خريجي التعليم المهني لا يجدون أعمالًا مناسبة فينتهون إلى البطالة كما انتهى أقرانهم من خريجي التعليم الأكاديمي، وهو ما تؤكده الأرقام الرسمية التي تقول بأن أكثر من 42% من خريجي هذا النظام التعليمي عاطلين عن العمل في حين يشتكي البقية من استغلال رؤساء المؤسسات لهم.
توجد فجوة بين المناهج التدريبية في نظم التعليم والتدريب المهنى والتقني في معظم الدول العربية واحتياجات سوق العمل وتفتقر المناهج والخطط الدراسية في كثير من الدول العربية إلى المرونة في التنفيذ والتطبيق لتلبية احتياجات سوق العمل ومواكبة التطور التكنولوجي حيث لا يتم تحديث المناهج لملاحقة هذه التغيرات، وهناك قصور في التجهيزات والمعدات والوسائل التدريبية في العديد من المؤسسات التدريبية مما يؤثر سلبًا على مستوى الخريجين كما لا يتم تحديث التجهيزات والقيام بأعمال الصيانة وأحيانًا لا تتوفر مستويات السلامة والصحة المهنية في مواقع التدريب العملي.
ثقافة التلقين بدلاً من التكوين
من بين الثقافات الأخرى التي تعاني منها الأنظمة التعليمية في بلداننا هی ما يعرف بثقافة التلقين والتحفيظ بدلاً من التعليم وتمكين النشأ من المهارات، فحتى اختبارات القياس التي تعتبر مفتاح الدخول إلى كليات القمة والتي تمايز بين المتفوقين والأقل تفوقًا، هي في الحقيقة محطات لقياس قدرة التلميذ على الحفظ بدل التفكير.
حافظ أم فاهم؟ سؤال طالما يتردد على الأذهان حين يراد التفريق بين الفهم وبين حشو الذهن بغير المفهوم من المعلومات وترديدها ببغائيًا، لكن سؤالاً كهذا يعبر أحيانًا عن أنماط تعليمية يدعو كثيرون لتجاوزها انطلاقًا من دلالتها على عصور عظمت برأيهم من شأن الحفظ الحرفي دون أن تهتم بما وراء ذلك من فهم وإبداع.
غير أن المدافعين عن أسلوب الحفظ ومنهم تربويون متخصصون يرفضون طرح السؤال بما يوهم بالتضاد ويرون في الحفظ ملكة عقلية أولية ينبني عليها الفهم ثم التحليل وسائر القدرات المعرفية، كما ينظر إلى الحفظ المقترن بالفهم والتدبر باعتباره جسرًا عبرت فوقه إلى الأجيال ثوابت التراث الديني إلى جانب الآداب وحقائق العلوم الرياضية والطبيعية التي أفنى العلماء في الوصول إليها أعمارهم.
وعند هذا المستوى، مايز المختصون بين عمليتي التلقي السلبي والإيجابي واعتبروا أن المثشكلة لا تكمن في التلقين أو الحفظ كملكة يحتاجها كل متعلم، وإنما في الطرح البيداغوجي الذي يحفز عقل المتلقي للمزاوجة بين امتلاك المعلومة واستيعابها في الآن ذاته، وهو ما فشلت فيه أغلب المناهج التربوية المحلية.