نشرت مجلة دير شبيغل الألمانية بالأمس تقريرًا صحافيًا استنادًا لمصادرها تشير فيه إلى أن التدخل الروسي الأخير في سوريا أتى بعد لجوء بشار الأسد إلى موسكو مؤخرًا بحثًا عن الدعم، لا بوجه أعدائه من الثوار والمسلحين، ولكن بوجه حليفه الرئيسي كما يُفتَرَض، وهو النظام الإيراني، وهو ما أكده لها مصدر مسؤول روسي عمل طويلًا في سفارة روسيا بدمشق تحدّث للمجلة، حيث قال بأن الأسد ومعاونيه يتخوفون من إيران، وأنهم غاضبون من عجرفتها في التعامل مع نظام الأسد وسوريا بأكملها كمستعمرة خاصة بهم، ولا يثقون بأهدافها والتي قد لا يكون بقاء الأسد مهمًا لها هذه الأيام، وهو ما لجأ بهم إلى جذب موسكو إلى الساحة.
قد يبدو هذا الكلام غير منطقي نظرًا للواقع الذي يعرفه الجميع على الأرض، فلولا حلفاء إيران الشيعة في لبنان والعراق، ودعمهم للأسد سياسيًا وميدانيًا تحت إشراف الحرس الثوري الإيراني، لانهار نظام الأسد في سنة الثورة الأولى، غير أنه بالنظر الدقيق لأحداث كثيرة وقعت مؤخرًا، تبدو الصورة التي يقدمها لنا الدبلوماسي الروسي، والذي رفض الكشف عن هويته، أكثر منطقية، وتشي بصراع قوى معقد أكثر مما نعتقد في سوريا.
الإيرانيون في سوريا لا يحتاجون للأسد
على مدار السنوات التي اندلعت فيها، ولا تزال، الثورة السورية، كان الحرس الثوري الإيراني مسؤولًا عن معظم وأهم العمليات العسكرية التي قام بها النظام السوري، بما فيها الضربات التي وُجِهَت لحلب في الشمال ودرعا في الجنوب منذ حوالي عامين، وإن كان البعض يظن أن أهداف العمليات الإيرانية كانت دعم النظام القديم ليس إلا، فإن الواقع هو أنها تتجاوز مجرد الإبقاء على المنظومة السورية البعثية، وأصبحت في الحقيقة ترمي إلى ترسيخ وجود مباشر لها في سوريا شاء الأسد، الضعيف بدونها، أم أبي.
أبرز مناطق الخلاف مع النظام السوري وجيشه النظامي، والذي يعتمد عليه الأسد، هي تضاؤل أهميته على الأرض مقابل قوات الدفاع الوطني المعروفة بـ “الشبيحة”، والتي تأسست لحماية النظام منذ بضعة أعوام، وتُعَد ذراعًا للأهداف الإيرانية بآلاف من المقاتلين المدرّبين في إيران، وهي قوات غير نظامية يزداد تفككها مع الوقت إلى ميليشيات مختلفة وثيقة الارتباط بحزب الله اللبناني فيما يشبه “السلسلة الإيرانية” الممتدة من حلفاء إيران الشيعة في جنوب العراق وحتى جنوب لبنان، وهي سلسلة تتضاءل فيها بشكل يوم جدوى بقاء الأسد ونظامه فيها، وكذلك سلطته وسلطة جيشه عليها.
في خضم هذه التحركات الإيرانية، لم يكن غريبًا أن يتمدد نفوذها الشيعي مباشرة، في بلد لا يمثل مذهب الشيعة الجعفرية فيه سوى نسبة ضئيلة، فقد أمرت الحكومة السورية بتدريس المواد الشيعية منذ عام، كما أن بعض الحسينيات الشيعية قد افتُتِحَت في اللاذقية ودمشق مؤخرًا لنشر المذهب الشيعي بشكل أثار حفيظة العلويين أنفسهم نتيجة الاختلافات بينهم وبين الشيعة الجعفرية، وعدم استعدادهم لرؤية النفوذ الإيراني الثقافي المباشر في حياتهم اليومية كما قال أحدهم، “الإيرانيون يعودون بنا ألف سنة للخلف، فنحن لا نلبس الحجاب مثلهم ولسنا شيعة أصلًا”.
التمدد الثقافي لا ينفك بالطبع عن التمدد الاقتصادي المباشر، حيث انتشرت مؤخرًا مجموعات من رجال الأعمال الإيرانيين الذي انكبوا على شراء الأراضي والبنايات في دمشق، ليسيطروا بشكل شبه كامل على الحي اليهودي القديم فيها، وهو ما يعتبره طالب إبراهيم، أحد علويي سوريا ممن تركوا البلاد واتجهوا لأوروبا، سببًا رئيسيًا في لجوء الأسد مؤخرًا لروسيا ورغبته في الاعتماد على تدخلها المباشر، “الأسد يريد الإيرانيين كمقاتلين بجانبه ليس إلا، ولكنهم في الحقيقة يتدخلون بشكل أيديولوجي في شؤون سوريا الداخلية، أما الروس فهم لا يفعلون ذلك أبدًا”.
أسباب ذلك بالطبع هي أن روسيا لا تملك ميليشيات على الأرض كإيران، ولكن تعتمد على تحالفها التقليدي مع النظام السوري، مما يجعله في النهاية الطرف الأكثر أهمية في التحالف الروسي، على العكس من التحالف الإيراني الذي لا يُعَد الأسد سوى غطاء له يمكن الاستغناء عنه في أي وقت، وهو ما يدلل عليه ما جرى مؤخرًا في مدينة الزبداني شمالي غربي دمشق، والتي يحاول حزب الله منذ ثلاث سنوات السيطرة عليها لتكون هيمنته قد انتشرت بطول الحدود اللبنانية، ففي يوليو بدأ حملة عسكرية جديدة لدخولها، لتَرُد المعارضة السورية بضرب قرى يتمركز فيها مقاتلو الحزب بالآلاف، وترغم طهران على التوسط بين المعارضة، بما فيها جبهة النصرة، وحزب الله.
كل ذلك تم والإدارة السورية في دمشق خارج الصورة تمامًا، وقد أدى في النهاية لصفقة سرية يتم بمقتضاها حماية مجموعة من القرى والمدن في المنطقة من الطيران السوري، كنوع من التمتّع بفوائد الحظر الجوي، في مقابل اتجاه كافة السنة القاطنين في الزبداني إلى إدلب والسماح للشيعة من مدينتي الفوعة وكفريا اللبنانيتين بالتوجه للزبداني، علاوة على إطلاق سراح خمسمائة ممن سجنهم النظام السوري، وهو اتفاق تقول شبيغل إن الأسد يحاول أن يقاوم تطبيقه.
محاولات شتى يقوم بها جنرالات في النظام السوري لمقاومة ذلك التمدد الإيراني المباشر، والذي يُغني طهران عن الأسد وبالتالي يهدده ويهدد معاونيه، وهي محاولات لا تخفى على إيران والتي تقوم بكل ببساطة باستهدافهم أو تهديدهم، ففي ديسمبر الماضي تم تفجير أحد منازل الجنرال رستم غزالة، رئيس إدارة الأمن السياسي بالنظام السوري، وتم تصوير الواقعة ورفعها على الإنترنت، لتقوم بعد أيام مجموعة بالاعتداء عليه بالضرب حتى الموت كان من بينها إيرانيين، والسر كما تقول شبيغل إنه كان من الرافضين لتوسيع التعاون مع الإيرانيين على الأرض، بل وأن تفجير منزله تم بأمره لكيلا تستخدمه الميليشيات الإيرانية كما أرادت.
تباعًا، أتى الدور على اللواء ذو الهمة شاليش قائد الحرس الرئاسي وأحد أقارب بشار الأسد، والذي انتشرت أخبار تفيد باعتقال النظام له، وأشارت إلى أن تُهَم الفساد هي السبب الرئيسي في ذلك نتيجة دوره في عالم تهريب المخدرات وتجارة السلاح والأراضي وغيرها، بيد أن تلك الادعاءات لم تكن منطقية نظرًا لأهمية شاليش على مدار عقود في التجارة غير القانونية للنظام السوري بعيدًا عن العقوبات الدولية، والتي جلب بها الأسد مئات الآلاف من الدولارات وأطنان من الأسلحة عن طريق بغداد قبل أن يكتشف الأمريكيون أمره إثر غزو العراق عام 2003، “منذ رحيل شاليش، أصبح الإيرانيون يتمتعون بتواصل مباشر مع الأسد، وهو ما يعني أن حمايته مباشرة تتم عن طريقهم وأنهم قد يتخلوا عنه إذا أرادوا بسهولة”، هكذا صرّح أحد الدبلوماسيين الأوروبيين لشبيغل.
التدخل الروسي إذن يحفظ للأسد نوعًا ما احتمالية أكبر للبقاء حال اضطلعت روسيا بدور أكبر في الوساطة بخصوص الملف السوري، خاصة وأن روسيا لا يمكن بحال أن تثق في كل ذلك النفوذ الإيراني والذي يخدم طهران فقط ليس إلا، وحال اكتمال التقارب بين إيران والغرب فإن الخلافات التاريخية بين الروس والإيرانيين ستعاود الظهور حتمًا بشكل لا يجعل للروس أي وزن في المنطقة، وهو ما يحتّم على روسيا الآن أكثر من أي وقت مضى أن تستلم زمام أمور وجودها في المنطقة بنفسها، بل وربما التنسيق مع أعداء إيران كما سمعنا من محادثات بين نتنياهو وبوتين سبقت مباشرة العمليات الروسية في سوريا.
يبقى أن نشير في النهاية إلى أن شبيغل الألمانية، والمعروفة بمحاولاتها تفهّم الموقف الروسي وتهدئة التوتر بين الغرب وروسيا، قد تكون بمقالها تحاول أن تخلق قاعدة عقلانية نسبيًا للضربات الروسية، بربطها باحتواء النفوذ الإيراني وربما احتمالية الإبقاء على نظام تقليدي يتم تصويره وكأنه يريد الفكاك من “جحيم” إيران بحثًا عن قوى أكثر اتزانًا، وهو ما قد يبدو للقارئ أحيانًا وكأنه تبرير للموقف الروسي وإن لم يكن كذلك.