المصدر: مؤمنون بلا حدود
يصعب على من لا يدرك كنه التصوف وعمقه أن يفهم تأثيراته الاجتماعية والنفسية وتأثره بالمقابل داخل أنساق التفاعل الإنساني والبنى السوسيو سياسية المنتجة عبر التاريخ، وأبعاد المواقف التي تصدر عن المنتسبين إليه بمختلف أطيافهم في علاقتهم بالسلطة والمجتمع، ذلك لأن عملية تصريف الروحي على مستوى الواقع تتسم عموما بتعقدها وإبهامها سواء على مستوى الأفعال أو الأقوال، انطلاقا من خاصية التعالي المميزة للخطاب الديني ككل وحمولاته القيمية الأخلاقية.
ولأنها بمجرد تجسدها كممارسة وسلوك فارق على المستوى العام ستصطدم بأشكال من التفكيروالممارسة التقليدية المكرسة تاريخيا بفعل عدد من العوامل البيئية المتداخلة أو بنوازع النفس البشرية المتحررة، التي يصعب تفكيكها دونما الدخول في مواجهة مباشرة عنيفة معها، وهو الأمر الذي سعى التصوف كظاهرة روحية ونمط سلوكي وأخلاقي إلى تلافيه لطبيعته السلمية ومنهجه المستند على التربية والتزكية. المؤسس على مبدأ المزج بين الشريعة والطريقة الذي يخول للمريد إدراك الحقيقة الربانية الكونية و فهم تجلياتها .
بالإضافة إلى عدم قدرة الآخر خارج المنظومة المعرفية الصوفية على إدراك الحقائق الصوفية في بعدها الإشراقي الكوني، والتفاعل معها بوسائل التواصل البسيطة الظاهرة دون اللجوء للتأويل، الذي غالبا ما يفضي للشك كنتيجة طبيعية لتعدد أوجهه وطرقه واحتمالاته الدلالية، ومن تم إلى الرفض والصراعوالمواجهة في الختام كما هو شأن فقهاء الظاهر مع المتصوفة عبر التاريخ الإسلامي .
وإذا كانت هذه الصفة هي الغالبة على علاقة التصوف الإسلامي في حقل الممارسة الدينية مع باقي التيارات والمذاهب الإسلامية التي منها من يتهم المنتسبين إليه بالبدعية والخروج عن صحيح الدينوالشطح إلخ …فإنه في المجال السياسي بدوره، لم يستطع التصوف الإسلامي الانفلات من مأزق الشك الأنطولوجي الذي صاحب بروزه كفاعل سوسيو سياسي في التاريخ الإسلامي منذ القرن الثاني للهجرة في مستوياته الفردية، ومن ربقة العلاقة المتذبذبة مع السلطة إيجابا وسلبا على المستوى الجماعي نظرا لتميزه منذ القرن السابع الهجري بالقدرة التنظيمية والامتداد الجماهيري الشعبي في إطار ما سمي بالزاوية أو الزاوية ـ الطريقة وبعلاقة التبعية الناشئة التي تفرضها مركزية الشيوخ في عملية التربية والتلقين الصوفي، والذين قد تفوق سلطاتهم الروحية والزمنية في علاقتهم بالأتباع والمريدين كل معايير التصنيف السياسي، خاصة وأنها تعتمد في مستويات التأسيس والاستقطاب الشعبي على محددات خارقة وغير موضوعية، كان يصعب من وجهة نظر السلطة الزمنية الركون إليها بسهولة والتسليم بها كأمر واقع خاصة في نظام أحادي القطب لا يعترف إلا بإمارة واحدة للمؤمنين تجمع في ثناياها الديني والزمني .
وهو ما يدفع بالسلطة غالبا إلى الرغبة في القضاء على الزاوية ـ المشيخة، باعتبارها منافسا أو إلى محاولة احتوائها والسيطرة عليها حسب ما تستدعيه متطلبات المرحلة وضرورات التدبير السياسي القائمة كذلك على الولاءات والتحالفات، بالإضافة إلى القوة كمحدد مركزي لاستمرارية الحكم.
وهذا الأمر لم ينتج بالمصادفة، فقد اعتبر السلوك الصوفي الفردي في البداية بالإضافة إلى كونه احتجاجا على ظواهر سلوكية اجتماعية سلبية وانحرافات أخلاقية معينة سادت في المجتمع الإسلامي خلال مرحلة الخلافة العباسية، نوعا من الاحتجاج المبطن على تجاوزات حكامها وخروجا عن شرعية السلطة العباسية التي تميزت بالقمع السياسي للمعارضة خاصة معارضة آل البيت، وبالتالي فقد حمل التصوف الفردي في حد ذاته البذور الأولى للاحتجاج الاجتماعي، مع حركة الزهد والانعزال عن المجتمع وكذلك بالنسبة لمواقف رواد ومؤسسي المنهج الصوفي من الظواهر الاجتماعية التي كانت سائدة إبانه مع كل من معروف الكرخي وأبا يزيد البسطامي والجنيد وغيرهم قبل أن يتطور إلى شكل من أشكال الاحتجاج المعرفي في سياق السجال الذي كان دائراً بين الكلاميين والفلاسفة والفقهاء .
لذلك، فقد اتهم التصوف المتأخر في شكله الجماعي أو الطرقي بأنه حامل لرسالة سياسية معينة كنتيجة طبيعية لتأثيره الاجتماعي والنفسي في صفوف الفقراء والطبقات الشعبية المعوزة التي وجدت في الزواياوالرباطات ملاجئ ومآوي توفر إلى جانب الطعام والمبيت، التعليم والفقه والتربية والتدريب العسكري، وهو ما سيحولها إلى بؤر للمعارضة السياسية المنظمة، خاصة في الغرب الإسلامي ( المغرب والأندلس) من خلال نموذج ثورة المريدين ضد السلطتين المرابطية والموحدية، الذي مثله إسماعيل بن عبد الله الرعيني وابن قسي وابن ايدر الدكالي، هذا وإن كنا نتحفظ كثيرا على مسألة الحسم في الانتساب الصادق لهؤلاء للتصوف والحكم على حركاتهم بأنها ذات منطلقات صوفية إجمالا دون الأخذ بعين الاعتبار باقي العوامل التي لا يمكن استثناءها في عملية التحليل التاريخي لظروف ثوراتهم .
إلا أن التصوف سيأخذ بعدا أكثر إيجابية وأعظم تأثيرا، حينما حافظ على سنية الدولة الإسلامية إبان العهد السلجوقي في مواجهة الباطنية والمد الشيعي العبيدي، من خلال منظومة الرباط والزاوية والتكية التي مارس عبرها أدواره الاجتماعية والمعرفية، ونفس الأمر يصدق على التصوف في تاريخ المغرب الإسلامي، عندما سيقود حركة الجهاد ضد الغزو الصليبي الذي مثلته اسبانيا و البرتغال، حيث ستصبح الرباطات الصوفية والزوايا أساسا للتعبئة الشعبية والمقاومة المسلحة في فترة فراغ سياسي كانت تمر به منظومة الحكم في المغرب .
فلعبت الزاوية الريسونية مثلا، دورا حاسما في معركة وادي المخازن كما لعبت الزاوية الجازولية الشاذلية دورا مهما في قيادة عمليات الجهاد ضد البرتغال، ولم تكن في ذلك طامعة في حكم أو سلطة، بل يمكننا القول إن الزوايا هي من دعمت الشرفاء للإمساك بمقاليد الدولة وعبأت الجماهير من أجل قبول ذلك، وهذا ما ذهب إليه الدكتور محمد منصور حين قال: (….وكان للدور الذي لعبه الشرفاء في قيادة الجهاد أثر واضح في تعزيز شعبيتهم، وتطلع الناس إلى قيادتهم الدينية والسياسية، إن هذين العاملين من ضمن عوامل متعددة، قد هيئا الأرضية الملائمة لتلاحم الإيديولوجيتين الصوفية و الشريفية إلى درجة أصبح معها من الصعب التمييز بينهما، خاصة بالنسبة لما يسمى بالتصوف الشعبي، وقد تجلى هذا التلاحم بشكل جلي في التصوف الشاذلي ـ الجازولي الذي أصبح يدور حول إجلال الرسول وأهل بيته.) ص 266 ـ هيمنة القوى الدينية.
لقد تراجع دور الزوايا والطرائق كثيرا منذ ذلك العهد، ولم تعد تلعب ذلك الدور الناظم بين حقل الممارسة الروحية والممارسة السياسية بغية تكاملهما وانصهارهما القيمي، لعدة عوامل يصعب تعدداها هنا، إلا أن أهمها في نظرنا هو أزمة الفكر الصوفي بحد ذاته المليء بالمتناقضات، والذي لم يستطع الحسم في منزلقات الممارسة الشعبية الخاطئة التي خلطت بين الطقوسية وزيارة الأضرحة والإيديولوجيا الشرفاويةوالصلحاوية، وبين تراث صوفي مزيج بين الفلسفي والعجائبي والتفسير الباطني لنصوص القرآن والسنةوالاستغراق في الحضرات والحيثيات ومحاولة تمثل نموذج الكمال النبوي في شخص الشيخ المربي، وهو ما لا يمكن إدراكه حتى بأرقى صنوف المجاهدة والخلوة، عدا عن سلوكيات بعض شيوخ صوفية الشكل والمظاهر البعيدة كل البعد عن أصول علم السلوك والتربية ومطامح التزكية .
إلا أن هذا التراجع المسجل على مستوى الأدوار التاريخية التي لعبها التصوف في تطور المجتمعات الإسلامية، أنتج بالمقابل أدوارا أخرى أريد للتصوف أن يلعبها في ساحة السلطة وفي خدمة الحاكم العربي كوسيلة إضافية لتدجين المواطن وصرف نظره عن شؤون الدولة وما يقع في دواليب السلطة، بحكم الطبيعة التربوية الأصيلة للتصوف وخياراته السلمية الفردية وتوجهات بعض طرائقه نحو الانعزالية والخلوتية التي تفضي الى عدم الاهتمام بالشأن العام وأمور الحكم، خاصة بعد تنامي ظاهرة أحزاب الإسلام السياسي الداعية إلى التغيير والمشاركة في تدبير شؤون السلطة عن طريق الانتخاب، وبروز التيارات السلفية الجهادية الداعية لاستخدام العنف في سبيل إقامة الحكم الشرعي، وإدارة الصراع مع الغرب الاستعماري المتدخل في شؤون البلاد الإسلامية ومواجهة التيارات العلمانية والحداثية المتواجدة في الساحة السياسية والثقافية، أولا من حيث قدرة التصوف على المنافسة من أجل الاستقطاب الديني، حيث يستطيع التصوف أن يعبئ الجماهير روحيا دون المس بأمور الحكم وثانيا، لأن مفهوم الجهاد في التصوف ينصب على التزكية والتربية والتسامح مع الغير لا على العنف المسلح.
وهذا الرهان على التصوف، باعتباره عنصرا منفسا للطلب الشعبي المتزايد على التدين المفرغ من حمولاته السياسية والتدين الشعبي المقتصر على الطقوسية، لم يقتصر فقط على بعض الأنظمة العربية، بل امتد ليشكل جزءاً مهما من سياسة الولايات المتحدة الأمريكية المتعلقة بالعالم الإسلامي بعد هجمات 11 سبتمبر 2001، في إطار محاربتها للإرهاب والتطرف الإسلامي، وحتى بالنسبة لروسيا في إطار احتوائها لمطالب الاستقلال الشيشانية، وفي سياسة الدول الغربية عموما من أجل احتواء المد الإسلاميوتدجينه كما هو الحال مع الطريقة النقشبندية التي تحظى بدعم كبير من طرف عدد من الحكومات الغربية كالمملكة المتحدة وقبرص، حيث يقيم شيخ الطريقة التي تعتبر اليوم من أكثر الطرائق أتباعا في أوروبا والعالم الإسلامي.
كما أنه حتى على مستوى الصراع الإقليمي بين دول منطقة المغرب العربي خاصة ( المغرب و الجزائر) أضحى التنافس على دعم بعض الطرق الصوفية عنصرا مهما في الحفاظ على التوازنات الإقليمية، ودعم العلاقات مع بلدان الساحل الإفريقي التي تملك فيها تلك الطرائق شعبية واسعة النطاق تصل إلى أعلى هرمية السلطة كما هو الحال بالنسبة للطريقة التجانية والطريقة المريدية في السنغال ومالي والنيجر، ونفس الشأن بالنسبة لموريتانيا فيما يتعلق بتوظيفها للتصوف كأداة لمواجهة المد السلفي الجهادي واستقطابه المتزايد لبعض الموريتانيين الذين تستعملهم القاعدة في المغرب الإسلامي في هجماتها ضد الأراضي الموريتانية واختطاف الأجانب بمنطقة الساحل.
إلا أنه رغم ذلك، يبقى التصوف والطرائق الصوفية ظاهرة هامشية في المشهد السياسي العربي، لم تستطع التأثير بشكل كبير في الأحداث الكبرى التي شهدها خلال العقود الأخيرة، وأفضل مثال على ذلك هو محدودية دور التصوف في الربيع العربي في دعمه للانتفاضات الشعبية ضد الديكتاتورية وقدرته على التعبئة في مواجهة قمع الأنظمة لشعوبها، حيث إنه في كثير من الأحيان لزم شيوخ الطرائق الصوفية الصمت أو وقفوا بجانب الأنظمة كما هو الحال عند بعض الطرقيين بمصر وسوريا، إلا أن الحال سيتغير بعد نجاح الثورات العربية، حيث سيعود التصوف ليحتل حيزا مهما في سياق الأحداث خاصة في مصر.
فبعد الانتفاضات الكبرى التي شهدتها كل من تونس ومصر خلال سنة 2011، وسقوط الرئيسين بن علي وحسني مبارك، كان واضحا وبالملموس أن الأرضية أصبحت ممهدة أكثر من أي وقت مضى أمام الحركات الإسلامية لتكتسح المجال، باعتبار قدرتها التنظيمية وموقعها في المعارضة وجاذبية الخطاب السياسي الإسلامي بشتى توجهاته في صفوف شرائح واسعة من الجماهير الشعبية، وهذا ما حدث بالضبط في تونس بعد تنظيم أول انتخابات ديمقراطية لتشكيل المجلس التأسيسي، حيث فاز حزب النهضة الإسلامي بفارق كبير عن منافسيه اليساريين والعلمانيين.
أما في مصر ما بعد حسني مبارك، فقد اتخذ الوضع منحى دراماتيكيا بسبب الاحتقان الطائفي بين الأقباط والمسلمين، والإسلاميين والتيارات العلمانية وفلول النظام السابق من جهة، ورغبة عدد من التوجهات الإسلامية في إضفاء الصبغة الإسلامية على الإصلاحات الدستورية ونظام الحكم خاصة الجماعات السلفية ذات الشعبية الواسعة، التي نزلت إلى الشارع بكل ثقلها من أجل الضغط على المجلس العسكري وباقي الفصائل، ووجدت المجال مفتوحا لتمرر بالإضافة إلى خطابها السياسي خطابا من نوع آخر يستهدف الصوفية والأضرحة والمواسم الدينية كنوع من سحب البساط من تحت أقدام مؤسسة الأزهر الذي عرف عن عدد من علمائه توجهاتهم الصوفية كالشيخ علي جمعة مفتي الجمهورية المصرية في إطار لعبة الشرعية وترويج الخطاب السلفي، استعدادا للانتخابات التشريعية التي ينافس عليها بعض الصوفية كذلك تحت جناح حزب التحرير المصري وحزب الإصلاح والائتلاف الصوفي .
فوجد التصوف نفسه في معمعة الصراع بين التقاطبات السياسية، خاصة وأن بعض المنتسبين إليه اختاروا التحالف مع التيار الليبرالي وأطلقوا حرب الفتاوى ضد التيار السلفي السياسي الداعي إلى تطبيق الشريعة وأسلمة الدولة .
وكمثال على ذلك ما عبر عنه الشيخ الزليتني بأن …أصوات المتصوفة لن تذهب لأي مرشح ينتمي للتيار السلفي في الانتخابات البرلمانية، مشيرا أن المتصوفة لن تعطي أصواتها للأفكار الجامدة، سواء كانت تنتمي للتيار السلفي أو أي تيار ديني آخر يقوم بتكفير الجميع، ويرفض قيم الدولة المدنية، ويؤسس لقيم التنافر والتباعد بين المسلمين… أو ما ذهب إليه أبو العزايم شيخ الطريقة العزمية الذي اعتبر أن التصويت للسلفيين خيانة لمصر.
وهذا المشهد السريالي المعبر عن مدى ما بلغه الاستخدام السياسوي للتصوف من قبل بعض المنتسبين إليه خطأً والمستفيدين بطبيعة الحال من الريع الاقتصادي الذي تدره الأضرحة والمزارات والمشيخة الزائفة،وبؤس الخطاب السلفي التقليدي الموظف في المجال السياسي، ليس إلا نموذجا للانحراف الفكري عن المنهجين الأصيلين الصوفي والسلفي من جهة، المؤدي إلى إنتاج صراع واه ونقاش خاطئ وغير عقلاني، يحيد بالأمة عن قضاياها الرئيسة التي انتفضت من أجلها، وهي الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية، ومن جهة أخرى هي عبارة عن عملية إجهاز منظمة على مكتسبات الثورة المصرية، وتغييب المضامين الكبرى للطرح الإسلامي المتكامل الذي يهدف بالأساس إلى خدمة الإنسان طبقا للآية الكريمة ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاًِ ﴾[الإسراء : 70]، في صيغتها الشمولية الراقية التي لا تتطلب تأويلا.
والحقيقة التي ينبغي أن ندركها، ونحن نستعرض الأحداث هو أن المكون الصوفي زج به قسرا في بوتقة الصراع السياسي في مصر ما بعد مبارك، كعنصر لخلط الأوراق السياسية، ولإجهاض مسلسل الانتقال الديمقراطي، مثله كمثل الطائفية تماما التي لعب عليها النظام السابق لشق صفوف الشعب المصري .
غير أن التصوف الحقيقي يبقى بعيدا كل البعد عن هذا الاستخدام غير المنسجم مع أصوله الصافية المستندة على الكتاب والسنة النبوية الشريفة، وعمل الصحابة ومبادئه المبنية على التربية والخلقوالمنهج الرباني القويم في تزكية الفرد والمجتمع، بل والتخلص من الاستبداد كما يذهب إلى ذلك الدكتور طه عبد الرحمن، حيث يعتبر أن العمل الصوفي عمل تكاملي ينظر إلى الحياة في كليتها وفق منظور ترتبط فيه الذات بنفسها، وبباريها، وبالآخرين من حولها، وبسائر الكائنات في هذا الوجود، وبأنه عمل استمراري ليست له نهاية، وإن كانت له بداية، فليست له وتيرة واحدة، وإنما هو في تبدل مستمر…) لا يمكن أن يصبح في يوم ما أداة في يد السلطة أو في يد أي كان. لذلك، فإن السلطة السياسية كلما سعت إلى التحكم فيه أجهزت عليه، لأن العمل الصوفي مرادف للحرية بشكلها الأخلاقي التعبدي الذي لا يتقيد بنزوات النفس البشرية وحاجاتها المادية ( فالحر هو من اختار أن يملكه الله بالكلية ) وترك ما دونه من مطالب الغرائز والشهوات والمنافع التي تفضي إلى الشحناء والصراع مع الآخر في سبيل تلبيتها ونوالها.
وعلى الرغم من أن الدكتور طه عبد الرحمن في تحليله لطبيعة التربية الصوفية يذهب إلى اعتبار أن هناك فروقا جوهرية بين التربية الوطنية المكرسة لمفهوم المواطنة، والولاء للدولة والتربية الروحية المنبنية على مفهوم المخالقة الذي هو أعم وأشمل، والذي يمكن من خلاله الاستغناء عن مفهوم المواطنة، لأن الإنسان أحوج ما يكون إلى المخالقة من المواطنة، إلا أن ذلك غير متفق تماما مع الفهم الصوفي السليم خاصة ما ذهب إليه الشيخ محمد بن عبد الكبير الكتاني الذي دمج المفهومين معا في مصطلح الوطنية الربانية المؤسسة على الصلاح كعنصر أساس في مظهر الاستخلاف، ولم ير أي تناقض بينهما ما داما ينبعان من مصدر أخلاقي ومعرفي واحد هو الطرح الرباني القرآني لمفهوم الوطن ( الأرض ) في قوله تعالى: ﴿ إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده ﴾ [الأعراف: 128] ثم عنصر الانتماء لزمرة الصالحين طبقا لقوله عز وجل ﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ﴾ [الأنبياء/105].
والذي يناقضه فعل الفساد المذموم الذي يدخل ضمن صنوفه كل أنواع الاستبداد والطغيان والديكتاتورية وهدر حقوق الناس وكرامتهم والاعتداء عليهم وسرقة مقدرات الوطن وثرواتها، وزمرة المفسدين في الأرض (الوطن) الذين مآلهم إلى زوال حتمي، حيث يقول الله عز وجل: ﴿ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [المائدة:33].
إن التصوف النابع من القرآن والسنة لا يمكن إلا أن يكون ثوريا بحكم استناده على الفهم السليم للسنن الإلهية الكونية التي تقوم على العدل والحرية والكرامة والتقوى والصلاح الذي يؤدي إلى الفلاح في الدنياوالآخرة في مواجهة الفساد والاستبداد والعلو في الأرض دون وجه حق، وهذا ما ينبغي أن يفهمه المتصوفة بجميع توجهاتهم اليوم دون الدخول في صراعات فارغة لا تخدم إلا مصالح من يريد تشرذم الأمة وضياعها.