اتصال منتصف الليل

441

إنها الواحدة فجرًا، الجو عاصف، الكهرباء مقطوعة، كعادة ليالي فبراير في لبنان، سكون وهدوء.

يرن هاتفي الخليوي، أستيقظ على مضض، أرفع الغطاء عن وجهي بتثاقل، أنظر إلى شاشة الهاتف لأرى رقم المتصل، عيناي لا تساعدانني، أركز من جديد، خيرًا، من هذا الذي يتصل بي في هذا الوقت المتأخر من الليل ليهتك أستار السكون؟!

– ألو .. نعم؟

– السلام عليكم .. كيف حالك، صحيتك من النوم؟

– نعم، كنت نائمًا، خير إن شاء الله؟

– هل تذهب معنا إلى غزة؟

– ماذا؟!

– (مكررًا سؤاله): هل تذهب معنا إلى غزة؟

هنا توقفت عندي عقارب الساعة عن الدوران، وتاهت مني الأفكار وحلقت بي الأحلام، غزة، وما أدراك ما غزة؟! غزة الحصار والنار، غزة المقاومة، غزة القسام، الرنتيسي والياسين، الشهداء ، الجرحى، الأسرى، المعتقلون، تتقافز الصور، تترى، تتقلب.

أعود إلى رشدي وإلى ذلك الاتصال الغريب، لأسأل محدثي: تتصل بي في هذه الساعة المتأخرة، لتقول لي تذهب معنا إلى غزة؟ ما خطبك يا صديقي ألا تسمع الأخبار؟ ألم تسمع بالتصعيد القائم بين المقاومة والعدو الإسرائيلي؟

– (بهدوء المتيقن): وإذا كان هناك تصعيد؟!، إذا لم نكن مع إخواننا في غزة في هذه الأوضاع فمن يكون؟

– (يعيد السؤال مجددًا): هل تريد أن تذهب معنا حتى أضيف اسمك إلى قائمة القافلة؟

أعود إلى ضياعي، ما هذا الشعور الذي أمرّ به في هذه الساعة، هل أنا صاحٍ أم أنها كوابيس وأحلام منتصف الليل؟ لا أنا لا أحلم، ها أنا ذا أتكلم مع صديقي، أنا لا أحلم، إنها ساعة الحقيقة، وإنه السؤال الصعب، وإنها الإجابة الأصعب؛ هل أقول له نعم أنا معك بلا تفكير أو تدبير، دون الرجوع لأهلي وزوجتي وأولادي؟ أم أعتذر وتفوتني رحلة العمر، لا بل حلم العمر؟ آه منك ومن اتصالاتك، أليس عندك احتمالات؟  ألا يوجد لديك خيارات؟ أليس هناك وقت كاف لدراسة الموضوع، لاتخاذ مثل هكذا قرارات؟

– ألو .. أين ذهبت، ماذا قررت؟

– (أجاب لساني دون وعي): توكل على الله، أنا معكم إن شاء الله.

وعاد جوالي إلى النوم من جديد.

في هذه اللحظات تستيقظ زوجتي بانزعاج ، وتسألني باستغراب: من المتصل؟

أجيبها ممازحًا: أكملي نومك، إنه صديقي، يتصل ليدعوني للذهاب معه إلى غزة.

– غزة!! (وكأنه زلزال بقوة سبع درجات ضرب الغرفة شعر به كل سكان لبنان): يتصل بك في هذا الوقت المتأخر ليدعوك للذهاب معه إلى غزة، ما هذا الجنون؟!

– نامي يا عزيزتي، لدينا عمل في الصباح يجب أن نتوجه إليه.

مرت أيام بل أسابيع، وأخذتني الحياة بمشاغلها ومتاعبها، وخطفت مني أحلامي وأشعاري وأنستني حلمي الذي ما كدت أصدقه، أنستني ذلك الاتصال الغريب في تلك الليلة الغريبة ونسيت معه حلمي بزيارة غزة.

جاء الربيع، وجاء معه الربيع العربي، وأصبحت ثورات الشعوب العربية هي الهواء الذي يتنفسه كل حرّ يطمح إلى الحرية، فكنا لا ننام قبل أن نسأل عن ثائري تونس، وقبل أن نغني: “يسقط  .. يسقط .. حكم العسكر” مع ثوار مصر، وقبل أن نسمع وقع أقدام ثوار طرابلس ومصراتة وبنغازي، قبل أن تصافح أرواحنا أرواح شهداء درعا وحمص وحماة، قبل أن نطمئن على المعتصمين في ساحات التحرير والتغيير في اليمن.

ما أروعها من نسمات كانت ترفرف بأجنحتها البيضاء في سماء وطننا العربي من المحيط إلى الخليج، ما أروعها من أحلام، أحلام خدرت نسماتها أوصالنا حتى حين.

حتى جاء ذلك العسكري الخائن الجبان ، جاء ليحرق الأحرار في ميدان رابعة ليقتل الشباب والنساء والشيوخ، ليحرق المسجد والمشفى، ليسرق الحلم ويغتال المستقبل، ليقتل وبدم بارد تلك الطفلة البريئة أسماء، ويعتقل أبيها، ويشرد أمها وأخاها.

لن أنسى نظراتك الاخيرة تلك يا صغيرتي وأنت تفارقين هذه الحياة، على مرأى ومسمع من العالم أجمع،  لتُفتح لك أبواب السماء بعد أن أقفلت في وجهك أبواب الأرض ولتقيم لك ملائكة الرحمن أعراس الشهادة في أعلى الجنان.

سامحيني يا صغيرتي، لكن عهدًا قطعوه إخوانك ولا نحسبهم إلا أوفياء بعهودهم، أن يأخذوا لك حقك وأن يقتصوا من قاتلك، وقريبًا سيأتي ذلك اليوم الذي تنتصر فيه دماؤك الزكية على قاتلك.

أعود إلى ذلك اليوم الربيعي الجميل، استيقظ هاتفي على وقع اتصال دولي:

– وسام، هل أصدرت التأشيرة إلى مصر؟!

– (ببرود وتهكم): تتكلم جدّيًا أم تسخر مني؟ تغيب كل هذه الأشهر لتقول لي: هل أصدرت التأشيرة؟ بالطبع لم أصدرها.

– (بغضب واهتياج): لماذا هذا التأخير؟ موعدنا الأربعاء القادم في القاهرة، والخميس إلى غزة.

هنا أيقنت أن الموضوع أكثر من جدّي، لكنه يوم الجمعة وغدًا تقفل السفارة إلى يوم الإثنين، والتأشيرة بحاجة إلى خمسة عشر يومًا لإصدارها.

 فكرت قليلًا، استشرت بعض الأصدقاء، فعلمت أنه بالإمكان الحصول عليها عبر بعض مكاتب السفر لقاء مبلغ من المال خلال يومين، وهذ ما كان.

أخبرت أهلي أني مسافر إلى القاهرة، ولم أخبرهم عن غزة .

جاء اليوم الموعود، دخلنا الأرض المباركة، كسرنا الحصار عن غزة، قبّلنا الثرى تحت أقدام القادة المجاهدين، رابطنا مع أبناء القسام الميامين، مسحنا دمعة الأيتام المساكين، وواسينا أمهات الأسرى والمعتقلين.

تحقق الحلم ..

عدت إلى حقيقتي بعد أيام رائعة قضيتها في غزة، عدت إلى بلدي وأهلي وأحبابي، عدت من رحلتي مطهرًا من أفكاري وأدراني.

عدت عزيزًا..

عدت أعرف مهمتي وهدفي في هذه الحياة، بعد أن تلقيت أعظم الدروس في مدرسة غزة، مدرسة الصمود والإعداد والجهاد.

عدت إلى ذلك الاتصال الجميل الذي لن أنساه ما حييت، ولن أنسى فضل صاحبه عليّ، إلى ذلك السؤال الجميل: تذهب معنا إلى غزة؟!

وتمرّ بي الأيام والأعوام ثكلى، وأنام وينام الهاتف تحت وسادتي، أنتظر اتصالًا من صديقي يقول لي فيه: لقد تحررت فلسطين، هل تذهب معنا إلى القدس؟!