كلما أطلعنا أكثر على ما يجري ببلدنا أو بالعالم العربي أو الغربي، نجد البون الشاسع، حققوا ما لم نحققه، وعالجوا واقعهم بمنطقهم وانطلاقًا من معتقداتهم وانسجموا معها وصدقوا فنالوا، على عكسنا لا مشينا كالغراب ولا قلدنا خطواته.
كان من مفاتيح هذه القفزة معركة التربية والتعليم، فظهرت على أيديهم الإنجازات، بينما لازلنا نجرب ونتخبط ونصرف الميزانيات وندور في حلقة مفرغة ونحن في أسفل الترتيب.
كاسترو بكوبا خلال 30 سنة قام بنهضة تعليمية محت الأمية في بلده وعممت التعليم بتعبئة عامة وهدف واضح، لم تكن دولة عشوائية، ولايزال “الجيران” الفرنسيون يذكرون بالثناء وزير تعليمهم جول فري، وكان المعلم في المدرسة اللائكية محور نشاط الحي والمدينة والقرية ومحطة إشعاع ثقافي وعامل توعية سياسية ومحرك تغيير.
المعلم واسطة عقد المنظومة، لكنه في بلدنا المغرب في الحضيض وآخر العنقود، حولته السياسة الرسمية والتوجيهات المتوالية إلى موظف أجير بدون معنى ولا قيمة ولا باعث ولا حافز، يتقاتل مع قوت يومه ومع الزمان، فضاع المجتمع وتفتتت الأخلاق وساب السلوك العام وتميع المشهد.
في الوقت الذي يحتفى به نفس المشهد الرسمي بالمغنين وتوضع لهم الميزانيات والمهرجانات وينفخ فيهم ويمجدون في الإعلام والإشهار ويحظون بالمكانة الاجتماعية والقيمة والتقدير والتطبيب والاحترام والحراسة في بعض الأحيان، سفه المدرس واحتقر وحورب وقزم، فصارت الفوضى والتمرد على القيم وعلو الأصوات وانتهاك الحرم والعنف، سلوكات يومية عادية في الكثير من الأقسام ولا حرج!
أين ذهبت آداب التعلم وحرمة المدرسة وإجلال المدرس؟
إن كان لا بد لنا من معالجة الواقع، فلا بد أن نصارح أنفسنا وغيرنا بما هو موجود، لن أبحث لكم عن نصوص وفصوص لقيمة المعلم والعلم، فقد فاضت بها جنبات الكتب وحواشيها وصفحاتها، ومع هذه الثورة الرقمية ما عليك إلا بالنقر على محرك البحث لتجد الكثير من بغيتك، لكن كيف السبيل إلى التحول الحقيقي؟ إلى التمثل العملي بما نحن بصدده؟ وأي تعليم يحررنا من ربقة التقليد والتبعية؟ هل هناك عزيمة حقيقية للنهوض بالتربية والتعليم ببلادنا العربية؟ وهل ينتظر المواطن حلول البادرة الرسمية لكي ينقذ أبناءه ومستقبله؟
أسئلة أترك لكم الإجابة عنها، فقد أعيانا الكلام لأمة رضعت الأنغام والأفلام!
إن كان التوقير والحب والتبجيل تحية واجبة على المتعلم للمعلم ويكون الرفق والنصيحة والرحمة واحترام الشخصية حقًا للمعلم إزاء المتعلم، فهذا مطلب صار “حالمًا” في مجتمع صار الأصل فيه الاعتداء على كرامة الأستاذ والتشهير به والنفخ في الحوادث العرضية العادية، وصار تحقير التلميذ من “البعض” ممن تسلطوا على المهمة في واقعنا ضريبة الاستعمار الذي رحل عنا وترك فينا هذه الوصمة، ورسخ فينا الرضوخ للسيد، ومحا التحاب بين المسلمين، فلم نعد نوقر الكبير أو نرحم الصغير.
لن ننتظر من معلم فاقد للكرامة، ضحية للمحسوبية في الإدارة ، والرشوة واللامسؤولية وغياب العدل في الفرص والتحفيزات والترقيات والحركات الانتقالية، والأجر الزهيد الذي لا يكفي حتى لسكن لائق وسيارة تنقله لعمله بكرامة، أن يكون ذا بال وعطاء في مجتمع نسفه الغلاء والجهلاء.
أستاذ مرهون بالمعاش لا فائدة منه، فقد خدش المال قيمته الاجتماعية، فلا شك تجده يبحث عن كل ما يمكنه من سد حاجيات أسرته وعائلته ووالديه في بيئة استهلاكية بامتياز.
وغالبا ما يعين الأستاذ الجديد بمختلف الأسلاك بالعالم القروي القادم من المدينة في بلدة نائية بعيدًا عن سكناه يضطر للتنقل في بعض الأحيان فوق دواب، سياسة قديمة لوضعه في ظروف بائسة ومزرية لا وقت فيها للاستقرار والإعمار، وعليه مع كل هذا أن يقوم بالواجب ويتعايش كي يقتل الوقت السائب ويتغاضى عن الراتب.
وبين المدارس والبنوك التي تعتمد الربح وتسعى للاقتراب من الزبون بالمنطق التجاري الصرف والاستثمار للمستقبل مقارنة تقنية بسيطة من حيث البنى التحتية والنظام العام، ماذا تفعله إزاء وكالاتها وموظفيها؟ وكيف تجد المكان حين تلجه؟ وما هي تعويضات اللباس الأنيق الذي يرتديه الموظف؟ بل ما هي الإستراتيجية الكاملة لهذا التطور المصرفي الربوي الكاسح؟
عناية راقية مدنية عالية الجودة لخدمات رفيعة المستوى وإدارة قريبة فعالة ومحاسبة يومية من أجل جلب الأموال ورفع الأرباح، وقد نصل يومًا لهذه الميكانيزمات ربما في تدبيرنا للتعليم جودة وعناية ورفعة عرفانًا بالعلم وأهله.
وإن كان ووجدت معلمًا بكل هذه المواصفات وسددت جوعته وأكرمت قيمته، فكل مجهود في غياب جو عام وخاص “سياسي” كمن سكب الماء في الرمل، لأن كل نهضة وثورة فكرية وعلومية وتعليمية إن لم يكن الإنفاق الغزير سندها والإرادة السياسية والهدف الواضح ديدنها كانت سرابًا وهباءً في هواء.