يعشق القائمون على مجلة شارلي إيبدو الفرنسية إثارة الجدل وإحداث نوع من الصدمة بين القراء، وهي ليست مسألة دعائية كما قد يظن البعض ولكنها جزء من فلسفتهم غير الغريبة على الثقافة والفكر في فرنسا، وهو ما دفع بالكثيرين إلى استهجان الكاريكاتير الذي رسمه أحد رسامي المجلة منذ بضعة أسابيع ساخرًا على ما يبدو من الطفل السوري الغارق إيلان كُردي، ليظهر في الرسم طفل غارق على بعد خطوات من شاطئ رُفعَت عليه لافتة دعائية لمطعم ماكدونالدز بينما كُتِبَت فوق الطفل عبارة “كان قريبًا جدًا من الهدف”.
في الحقيقة لم تكن شارلي إيبدو تسخر من الطفل، كما ذهب المتحفزون ضد المجلة نتيجة سجلها السيء في التعامل مع الإسلام والمسلمين، ولكنها كانت هذه المرة تسخر من أوروبا وأساليب معاملتها للاجئين من ناحية، وبشكل أوسع تسخر من الحضارة الأوروبية ورغبة الملايين القدوم إليها، فالرسامون في شارلي إيبدو لا يشاركون السوريين ولعهم بأوروبا، وهم يرون بوضوح أن نظامها الاقتصادي الاستهلاكي شديد السوء باعتبار المجلة محسوبة على اليسار الراديكالي.
في نفس العدد أصدرت المجلة رسمًا آخر بطفل غارق أيضًا يقف بجانبه شخص أشبه بالمسيح وهو يقول إن المسلمين فقط هم من يغرقون في حين ينجو المسيحيون، وهي مرة أخرى عبارة اعتقد معها نقاد شارلي إيبدو أنها لفتة عنصرية، في حين كانت في الواقع سخرية من اليمين المتطرف المتربص بمسلمي أوروبا والمسلمين القادمين من سوريا من ناحية، وسخرية كذلك من البلدان الأوروبية التي قالت بأنها ستستقبل المسيحيين فقط، وهو ما ارتأت المجلة التي تميل للإلحاد أنه أمر مشين وغير إنساني.
المنظومة الأوروبية الحالية واليمين الأوروبي المتطرف والإسلام في أوروبا هي المواضيع التي تسخر منها شارلي إيبدو باستمرار وتثير الجدل في فرنسا، البلد الذي يُعَد قلب أوروبا الثقافي والسياسي وإن كان الثقل الاقتصادي كله يقبع إلى شرقه في ألمانيا، والجو العام في فرنسا منذ عدة أعوام لا يبشر بالخير أبدًا، فالكُل هنا يتكلم عن نهاية فرنسا وانتحارها واضمحلال أوروبا بينما تتنامى أعداد المهاجرين المسلمين من أسفل وتتوسع سلطات الاتحاد الأوروبي المكروه من أعلى لتقتل فرنسا نهائيًا، وهي أفكار ليست رائجة في فرنسا فقط، ولكن في معظم أنحاء شمال وغرب أوروبا.
الخريف الأوروبي
غاضب هو شباب أوروبا، فهو يفقد وزنه الذي طالما تمتع به نتيجة تضاؤل عدده بوجه الأعداد المتزايدة لمن يكبرونه سنًا، وهي ظاهرة ديمغرافية تعاني منها أوروبا واليابان عامة نتيجة عزوف البعض عن الإنجاب أو تأخره في ذلك أو اكتفائه بطفل واحد، وهو ما يعني أن الديمقراطية ببساطة تتخذ وجهًا محافظًا تُمليه الأجيال الأكبر سنًا، كما نرى من صعود الأحزاب المحافظة واليمينية في معظم البلدان بالقارة العجوز، وتراجع الأحزاب العمالية والديمقراطية الاجتماعية والخضراء، فالأحزاب الإصلاحية الأخيرة هي التي يتجه لها الشباب عامة، في حين يفضل الكبار الأكثر عقلانية أحزاب المحافظين.
نصيب كبير من الغضب موجّه أيضًا للمسلمين، فهم بأعدادهم المتزايدة قد يديرون دفة الديمقراطية بأصواتهم ويختارون بالطبع نفس الأحزاب الإصلاحية تلك لأنها تعاملهم أفضل بدعوى يساريتها واحترامها الأكبر للتعددية الثقافية والهجرة والمجتمع المفتوح، في نفس الوقت الذي تمارس فيها تلك المجتمعات المسلمة بشكل متزايد نوعًا من الانغلاق على الذات، أو على أقل تقدير الاستمرار في اتباع الكثير من الأفكار المحافظة في المجال الخاص، وهو ما تعتبره شرائح أوروبية عديدة استغلالًا من المسلمين للديمقراطية، وهي مسألة تؤثر بالطبع على أجندات أحزاب يسار الوسط نتيجة تزايد اعتمادها، كما في الحالة الفرنسية، على أصوات المسلمين، ليصبح الصوت “اليساري” في المستقبل أجوف وبلا معنى.
الكثيرون في أوروبا غاضبون كذلك من ازدواجية حكامهم “الديمقراطيين” الذين ضحكوا عليهم في حربي العراق وأفغانستان، وأنفقوا المليارات لنشر الديمقراطية بينما تشهد بلدانهم لأول مرة تراجعًا اقتصاديًا وتراجعًا في مستويات الرفاهة، وتزايد هيمنة مؤسسات الاتحاد الأوروبي غير المنتخب على حساب الدول القومية الديمقراطية كما يُفتَرَض، مما يجعل مبدأ الديمقراطية الذي طالما تغنّى به الغرب ناقصًا في وجهة نظرهم، بل ويُفقِد المنظومة كلها الشرعية، وهو ما يتجلي بتراجع أعداد المصوّتين من الشباب في الكثير من البلدان، فالبرلمان ليس يعبر فقط بشكل متزايد عن الأجيال الأكبر سنًا، بل وتتضاءل سلطته أصلًا لصالح بروكسل.
“بوتينومانيا” أو الهوس ببوتين، الرئيس الروسي، هي ظاهرة منتشرة بين هؤلاء الغاضبين حاليًا، وهم ليسوا مهووسين ببوتين فعليًا بالطبع، والذي لا تمتلك بلده أية ديمقراطية من الأصل، ولكنهم معجبون بقدرته على إزعاج الغرب، وكأنهم بالدفاع عن روسيا والضجيج الذي يثيرونه بتعليقاتهم المعادية لحكامهم عبر الإنترنت، والتي تبدو كما لو أنها صادرة من قوميين عرب في الستينيات أو شيوعيين قادمين من الصين، يتحدون الثقافة “الديمقراطية” المزيفة القائمة في نظرهم، تمامًا كما يصرخ مشجعو الكرة الإنجليز ويتجاوزون الخطوط الحمراء عمدًا ليُظهروا تحديهم بوجه النظام القائم.
المؤسسات الأوروبية: هل نجحت في توحيد أوروبا أم فشلت في كسب الشرعية بين مجتمعاتها المختلفة؟
على خطى فلسفة ما بعد الحداثة نوعًا ما، والتي أنتجت العديد من الأنماط التي تتحدى المنظومة فقط بطرح ما يزعجها ولا يطرح بديلًا لها، أو إخراج لسانها لها إن جاز القول، يمكن تفسير اتجاه مئات الآلاف إلى الخطاب الفاشي والنازي، وهم يشملون في الحقيقة شرائح من مشجعي كرة القدم فعليًا، أو الـ”هوليغانز” كما يُعرَفون، والحق أن إحراج النظام العام والديمقراطية الغربية ليس فقط السبب الوحيد لصعود الخطاب النازي الجديد، بل وكذلك نتيجة انجذاب بعض الشباب لفكرة القائد المُلهِم التي يجسدها شخص مثل بوتين والأفكار الراديكالية غير الديمقراطية في مقابل رتابة وعقلانية المؤسسات الديمقراطية الأوروبية الصرفة. (انظر قائمة حركات أوروبا المتطرفة هنا)
مملة هي الديمقراطية في نظر أصحابها هذه الأيام، خاصة في أوروبا حيث خطاب الهوية الأوروبية الرتيب والخالي من المعنى، فنجوم أوروبا الذهبية التي تدور على خلفية زرقاء وترفرف في أعلام 28 دولة تبدو بلا أي معنى حقيقي، فما هي أوروبا أصلًا، وهل هي هوية جامعة بالفعل، أم أنها كيان غير ديمقراطي يحاول أن يقتل الثقافات القومية ويخلق كيانًا فيدراليًا تحكمه ألمانيا بسلطانها الاقتصادي من فرانكفورت وبشروط رأسمالية لا تناسب مجتمعات الجنوب والشرق الأوروبي؟ لو قمنا باستطلاع في أوروبا حاليًا لمالت الكفة لصالح الجواب الأخير، فخطاب الوحدة الأوروبية يراه الكثيرون خطابًا مزيّفًا يقهر تمامًا النزعات القومية المتفردة داخل كل بلد، والتي شكلت قاعدة الدولة القومية فيها.
في الحقيقة، يلفت النظر في نفس السياق ما يشعر به الكثير من شباب أوروبا المسلم ممن تربى فيها ربما لجيلين أو ثلاثة، ويتجه هذه الأيام لصفوف داعش، إذ لا يمكن غض الطرف عن اعتبارهم أوروبيين بقدر ما هم مسلمين، ومحاولة تفسير هوسهم بداعش في نفس سياق هوس الشباب الأوروبي عامة بالأفكار الراديكالية والمتطرفة، وكل بالطبع حسب دينه وقوميته، فالألماني المتطرف إن كان اتجاهه نحو الفاشية للتعبير عن غضبه نحو الأجيال الأكبر سنًا، ونحو تزايد أعداد المسلمين، فإن رد الفعل المنطقي قد يكون ببساطة انتشار التطرف المضاد على الناحية الأخرى بين الشباب المسلم، وهو ربما تفسير لظاهرة تدفق شباب أوروبا المسلم لداعش، فهُم أوروبيون أيضًا بحُكم السياق، ويزداد كفرهم بالديمقراطية أكثر من أقرانهم في العالم العربي والإسلامي لنفس الأسباب.
الربيع العربي
على الناحية الأخرى من المتوسط، وعلى النقيض مما يجري في القارة العجوز، تعج البلدان العربية بغضب عارم تجاه الدولة القومية التقليدية، والتي يبدو وأنها هي التي دشنت خطابًا مزيفًا وخادعًا على مدار عقود محى الروابط الأصيلة الممتدة بين البلدان أولًا، وقضى على طموحات الشباب ثانيًا، وهو شباب يمثل هنا الأغلبية الكاسحة على عكس أوروبا، ويبدو أن الغضب الذي بداخله إما يدفعه للهجرة لأوروبا، للتمتع بمزايا المنظومة الديمقراطية التي لا يقدرها أصحابها كما يقدرها الوافدون عليها، وإما للحراك في الشارع بكافة أشكاله من السلمي وحتى المتطرف.
باستخدام مصطلح الربيع العربي إذن فنحن لا نشير للربيع “الكلاسيكي” الذي رآه البعض في الأحداث المتوالية منذ عام 2011 في إطار الدول القومية كمحاولة للإصلاح وإسقاط النظم الحاكمة بالمعنى التقليدي، وهو ربيع تلقى ضربات موجعة في الحقيقة، ولكننا نشير لربيع آخر ممتد منذ مطلع الألفية بتزايد الحراك الثقافي والسياسي بين الشباب في البلدان العربية، وهو حراك وصل لأوجه عام 2011 ليس إلا، ويبحث عن بدائل على العكس من الحراك الفاشي السلبي في غرب وشمال أوروبا، وهو لا يزال مستمرًا وإن تعرض للهزيمة على مستوى السلطة، فتبدد الكتل الشبابية بابتعادها عن “المراكز القومية” للأنظمة العربية المضادة للثورات في دمشق والقاهرة لم يقتلها، ولكنه أبقى على حراكها بأشكال مختلفة، وهو ما يعني أن عودتها للقلب مجددًا ليس مستحيلًا.
تلك هي النقطة التي تجعلنا نقول بأن ما يجري في أوروبا (إن استثنينا الجنوب) هو خريف فعليًا وإن كانت المنظومة القائمة ناجحة في تطبيق مبادئ إنسانية عدة، فالكُتَل المؤمنة بالمنظومة تتضاءل بشكل لا يسمح للمنظومة بالبقاء إلا بحلّين، إما الاتجاه لأساليب غير ديمقراطية، كما يفعل الاتحاد الأوروبي فعلًا بمؤسساته غير المنتخبة والتي لا يمكننا أن ننكر أنها سبب رئيسي في كبح الحركات المتطرفة والإبقاء على المبادئ الليبرالية والإنسانية التي طالما مثلتها أوروبا (اتفقنا أو اختلفنا معها)، وإما باستجلاب تعداد سكاني آخر، وهو أمر شبه مستحيل، ولا يمكن تصوره كما في الحالة الأمريكية نتيجة القومية الراسخة في الثقافة الأوروبية، ومعاداة المسلمين التي ستتزايد في الحقيقة مع طرح كهذا، وإن كان تدفق المسلمين كمهاجرين في مجتمعات بعينها مثل فرنسا يعده البعض من الأسباب التي ستحفظ بعض الديمقراطية وتشكل توازن مع اليمين المتطرف.
لم تكن غريبة إذن الضجة التي أحدثها الروائي الفرنسي المثير للجدل ميشيل ويلبِك بروايته الأخيرة، والتي يحكي فيها عن اتفاق أحزاب فرنسا المعتدلة على مرشح مسلم لهزيمة المرشحة اليمينية المتطرفة مارين لو بِن، في إشارة رمزية لقدرة التعداد المسلم على تشكيل المعادل لليمين المتطرف، ولكنها رواية ناقشت في نفس الوقت الاهتزاز الشديد الذي ستتعرض له فرنسا على المستوى الثقافي بـ”إسلامها” (وهو اسم الرواية) لقوة المسلمين، والذي سيظهر تدريجيًا وجههم الثقافي المحافظ فعليًا في الحياة العامة كثمن لضمان الإبقاء على المنظومة الأوروبية، والتي سيصبحون هم للمفارقة أكبر المستفيدين منها، كما هم بالفعل الآن ربما أشد الراغبين في العيش تحت ظلها.
مرة أخرى، لعل تلك من الأسباب التي يكمن فيها معنى من معاني الربيع العربي، وهو أن حراك الشباب العربي والأزمات التي أدى إليها يمتد بالفعل ويتداخل مع نظيره الأوروبي، وقد يحمل بشكل أو آخر بذور خلخلة المنظومة الأوروبية دون إسقاطها بشكل ربما بناء أكثر مما يفعل شباب أوروبا نفسه، كما رأينا في أزمة اللاجئين على سبيل المثال، فأزمة اللاجئين من ناحية هي ثمن تدفعه أوروبا الآن، إن جاز القول، نتيجة تباطؤها في دعم الربيع على الناحية الأخرى، والذي كان ليصُب في الحقيقة لأسباب كثيرة في الإبقاء على المنظومة الأوروبية مع زيادة احتمالات إصلاحها نتيجة التحول في العلاقات التجارية والسياسية والثقافية بجيرانها العرب في الجنوب.
في النهاية، بقى أن نقول إن الربيع والخريف المتجاورين ليسا معزولين، وبقدر ما يمكن للربيع أن يحدث مباشرة وبأعراضه الجانبية اهتزازات في أوروبا، فإن الخريف يمكن أن يتسلل أيضًا إلى الجنوب، والدرس الرئيسي الذي يمكن الاستفادة منه في كل ما مرت وتمر به أوروبا هو أن “الربيع” بمعناه التقليدي كما حاولت أوروبا تصويره لعله كان ليؤول إلى كابوس كما حدث مع الحلم الأوروبي، والذي انكب على الإجراءات ورسّخ مبادئ سياسية واقتصادية معيّنة دون الأخذ في الاعتبار الحاجة إلى إصلاحها مع الوقت والتعاطي مع المجتمعات القابعة تحت سلطانها، فالإصلاح الهيكلي الأعمى كما أراد البعض كهدف بذاته دون إصلاح مجتمعي أوسع ليس حلمًا بل كابوس، ولعل خروج داعش من ظل ذلك الكابوس يشابه في أوجه كثيرة خروج الحركات الفاشية في أوروبا من رحم نفس الكابوس.