حاول مؤسس حزب نداء تونس أن يجمع في كيانه السياسي الذي أوصله فيما بعد لرئاسة الجمهورية ما يسميه الملاحظون بالتناقضات صعبة التجميع، باحثًا عن توليفة عابرة للأيديولوجيات يخلق بها التوازن السياسي الذي فٌقد إبان الانتخابات الأولى في تونس سنة 2011؛ توليفة جمع فيها وجوهًا يسارية ونقابية افتكت مؤقتًا قيادة الحزب من جهة، ورصيد حزب التجمع المنحل، حزب المخلوع بن علي، ليشكلوا جسمه من جهة أخرى.
ومع التغيرات التي شهدتها الساحة السياسية في تونس والاتجاه نحو خلق أو فرض حالة من السلام السياسي مع أنصار النظام القديم في البلاد، تعاظمت طموحات من أصبحوا يقدمون أنفسهم على أنهم دساترة – نسبة للحزب الدستوري الذي خاض معركة الاستقلال في جانبها السياسي – خاصة مع التباين الواضح المسجل على مستوى موازين القوى الداخلية، فرغم أنهم يشكلون أغلب قواعد الحزب، ظل الدساترة بدون تمثيل حقيقي يعكس وزنهم في الأجهزة التنفيذية للحزب.
في خضم كل هذه الحسابات الداخلية، يتجه نداء تونس لعقد مؤتمره التأسيسي الذي سيفرز هياكل منتخبة من شأنها أن تُنهي هذا السجال الذي أدخل الحزب الحاكم ومن ورائه الحكومة التي يقودها في جملة من الاضطرابات انعكست على الوضع العام للبلاد الهش بطبيعته.
استقالة العكرمي: استعداد لساعة الحسم
بداية هذا الأسبوع لم تكن هادئة خاصة مع تقديم القيادي في نداء تونس، الأزهر العكرمي، الوزير المكلف بالعلاقة مع مجلس النواب استقالته من الحكومة التي يقودها حزبه، ولئن كانت الاستقالة في حد ذاتها كفيلة بإسالة كثير من الحبر وخوض العديد من النقاشات وتأليف عشرات التحليلات، كان لنص الاستقالة الوارد في سبعة صفحات الوقع الأبرز لما حمله من تلميحات وتصريحات تؤذن بانعطافة جديدة في منطقة من مناطق المشهد السياسي في تونس.
رسالة استقالة الأزهر العكرمي كانت سياسية بامتياز ولم تكن كما جرت العادة إنشائية تؤدي الأدنى المطلوب منها، رسالة يسهل الاستنتاج خلال قراءتها أن كل كلمة تم انتقاءها بدقة كبيرة؛ بدأ العكرمي رسالته بالحديث عن الحقيبة الوزارية التي أسندت إليه وأنها كانت مهمة غير واضحة ما اضطره للاتفاق مع رئيس الحكومة حتى تكون مهمته في الحكومة تتمثل في السهر على التنسيق اليومي لإسناد الحكومة سياسيًا، وهو ما لم يحصل بحسب نص الاستقالة وتم نكث هذا الاتفاق في مرحلته الأولى.
ومن بين النقاط التي أثارها نص الاستقالة هو ما عبر عنه العكرمي بأنه وجد نفسه بعيدًا عن سلطة القرار داخل الحكومة “لا يستشار ولا يشرك”، وزيرًا منح له كمكتب داخل قصر الحكومة “غرفة نوم الباي” ليشعر بأنه في “زنزانة سياسية انفرداية” بعيدة عن مناطق طبخ القرار ورسم إستراتيجيات السياسات العمومية.
وزير سياسي في حالة عطالة أشار إلى ملفات فساد بعينها فوجد نفسه “كمن يصيح في الربع الخالي” والأخطر من ذلك كله أنه ينتمي لحكومة “قيل إن أيديها مرتعشة وأنا أقول إن لا أيادي لها أصلا لترتعش”، وبالإضافة إلى مسألة العطالة الوزارية، قال العكرمي إنه أصبح يتساءل إن كانت هناك إرادة فعلية للتصدي للفساد، مشيرًا إلى أنه لا يمكن محاربة الفساد بمسؤولين فاسدين على حد تعبيره، وأضاف أن القرارات التي تتخذ والتعيينات التي تمضى والتوجهات التي تصاغ تصلهم عبر وسائل الإعلام ثم يطلبون منهم الدفاع عن الحكومة بتعلة أن الفريق الحكومي يجب أن يكون متضامنًا، حسب ما جاء في نص الاستقالة.
وأكد أنه نبه إلى ملفات بعينها وإلى أشخاص متورطين لا تستحق فقط الطرد بل المحاسبة الفورية والسجن “فوجد نفسه كمن يصيح في الربع الخالي أو من يجدف في بحيرة لا ماء فيها في حكومة قيل إن أيديها مرتعشة وأنا أقول إن لا أيادي لها أصلا لترتعش” حسب تعبيره، وتابع الوزير المستقيل أنه يخجل من نفسه عندما يرى ثقة عشرات الآلاف يحولها إلى راتب شهري وزاري يأتي من جيوب المكلفين بالضريبة الذين يئنون تحت وطأة غلاء الأسعار، مضيفًا أنه يرفض السيارة والبنزين المجاني دون عمل يقوم به.
واعتذر لزهر العكرمي في ختام رسالة الاستقالة لناخبي دائرة بن عروس قائلاً “أرفض أن أكون جنديًا يحمل نياشين وأوسمة مغموسة في مذلة السلطة والمناصب التي لو دامت لغيرك لما وصلت إليك”.
هذه الاستقالة وهذا النص رغم ما حمله من شعارات تتعلق بمقاومة الفساد وعدم الرضى عن كيفية تسيير الحكومة ولا على المنصب الممنوح لصاحبها، تندرج بحسب ملاحظين في إطار الاستعداد للمؤتمر التأسيسي لنداء تونس، وقد تستبطن أيضًا رأيًا داخل نداء تونس يقدر أنها باتت تحتاج لتغيير جزئي أو كلي ستسرعه مثل هذه القرارات، فبعد استقالة محسن مرزوق من منصبه كمستشار لرئيس الجمهورية ورجوعه للحزب في منصب أمين عام، التحق به العكرمي اليوم بهدف تقوية الشق اليساري في صراعه الداخلي مع الشق الدستوري.
حافظ قائد السبسي يواصل عمله التعبوي
وعلى صعيد آخر، يواصل نجل السبسي، حافظ قائد السبسي، نشاطه الداخلي التعبوي رغم نجاح باقي أعضاء المكتب السياسي في سحب مهمة الإشراف على الهياكل منه منذ أشهر، حيث واصل هذا الأخير تنظيم الاجتماعات وآخرها كان بالقيروان، وهو ما اعتبر ضربًا لقرار المكتب السياسي، كما تم اعتبار اجتماع القيروان اجتماعًا موازيًا، ووصل الأمر إلى إصدار بيان من طرف تنسيقية الحزب في الجهة، وهو أعلى سلطة محلية في هيكلة الحزب، اعتبر فيه الاجتماع “عملا مستفزًا”، من جهته، قال عبد المجيد الصحرواي، القيادي في نداء تونس، إن هذا الاجتماع الذي عقده حافظ قائد السبسي هو مواصلة لمحاولة الانقلاب على الحزب وتجاهل لمكتبه السياسي ولقراراته.
هذه الاجتماعات التي يعكف على تنظيمها حافظ قائد السبسي تثير استياء قيادات من المكتب السياسي للنداء من منطلق أنه لا يزال يواصل صلاحياته كمدير للإدارة المركزية للهياكل والتعبئة، وكذلك دون أخذ موافقة المكتب، وينظر لاجتماعات حافظ قائد السبسي بعدد من المنسقين الجهويين الموالين له على أنها تأتي في إطار التحضير للمؤتمر وهي تعد اجتماعات موازية للاجتماعات التي يقوم بها الأمين العام للحركة، اليساري محسن مرزوق.
كل ما سبق يؤكد أن منطق المغالبة والتحشيد حاضر وبقوة في أروقة الحزب الحاكم في تونس أسابيع قبل عقد مؤتمره التأسيسي، وأيا كانت القراءة التي تفصل في هذا الانقسام بين من يراه على أساس التقدير السياسي المحض وبين من يدفع نحو تشاركية سياسية مع القوى الوطنية ويعتبر حزب حركة النهضة أبرزها، وبين من لم يتخلص من ماضيه اليساري المتطرف في موقفه من الإسلاميين، وبين من يرى في هذا الانقسام صراع تموقع داخلي عادي لا علاقة له بالمرجعيات الفكرية التي قد لا يكون هناك تباين حقيقي بخصوصها، يبدو أنه لا مكان لتسوية بين الروافد المختلفة قبل المؤتمر.