لدى روسيا حلفاؤها الجدد: العراق، والإمارات، والأردن، ومصر، وإسرائيل، إلا أن تدخلها في سوريا سيكون بمثابة المغناطيس الذي يجذب المقاتلين السنة من كل حدب وصوب. ما الخلل الذي يمكن أن يطرأ؟
بعد مرور عام ونصف على اللحظة التي اكتشف فيها معمر القذافي مختبئا في أنبوب مجاري، ما لبث بعدها أن قتل على أيدي بعض الغوغائيين، ظهر شريط فيديو على يوتيوب يدين باللغة الروسية رئيس الوزراء ديمتري ميدفيديف ويتهمه بالخيانة. مدة الشريط ساعة كاملة، بمستوى راق من الإنتاج والإخراج، تستضاف فيه نخبة من علية القوم على رأسهم مسؤول الشرق الأوسط في وكالة المخابرات السوفياتية (كيه جي بي) سابقا المخضرم إفجيني بريماكوف. كان يعتقد في البداية أن الشريط إنما هو من صناعة جهاز المخابرات الروسي الحالي (إف إس بي) الذي حل محل الكيه جي بي.
موضوع الفيديو هو كالتالي: ميدفيديف خائن؛ لأنه وقع على قرارات الأمم المتحدة التي سمحت بالتدخل في ليبيا. يتهم الشريط رئيس الوزراء الروسي بأنه ضعيف وعلى استعداد للتنازل عن مصالح روسيا لأمريكا المتآمرة عليها.
أما مصالح روسيا في ليبيا، فهي التي يعرفها ليونيد إيفاشوف، وهو جنرال متقاعد ورئيس أكاديمية القضايا الجيوسياسية، على النحو التالي: “لقد خسرنا حليفا مهما، وشريكا استراتيجيا مهما، وتكبد اقتصادنا وصناعتنا الدفاعية خسارة تقدر بالمليارات”.
وتظهر في الفيديو مجموعة من العمال في مصنع هندسي يتبع كيه بي ماشينوستروينيه خارج موسكو. وهنا يقول ليونيد سيزوف: “إلى جانب الخسائر المادية هناك خسارة معنوية أيضا، وذلك حينما تشعر بأن كل ما عملت من أجله على مدى أعوام مديدة لم يعد له حاجة”.
غضب إف إس بي تجاه ميدفيديف يؤيد الفكرة التي تقول إن الذكريات المريرة المتعلقة بليبيا هي التي حفزت مشروع بوتين الحالي على تولي زمام القيادة في سوريا وليس الإهانات القديمة التي تعرض لها الروس في كل من أفغانستان وكوسوفو والشيشان.
في المنتديات الأخرى، يتواجد المعلقون الروس من أصحاب المزاجات المتقلبة -والذين كانوا في عهد بوريس يلتسين مؤيدين للغرب بشكل مذل ومهين ولكنهم في عهد بوتين أعادوا إنتاج أنفسهم في صورة قوميين وطنيين- حيث يتناقشون حول الربيع العربي، ويخلصون بإجماع إلى أنه لا يوجد شيء اسمه ربيع عربي، ويتفقون فيما بينهم على أن تونس وميدان التحرير لم تكن سوى عمليات خاصة للمخابرات المركزية الأمريكية (سي آي إيه)، تماما كما كان عليه حال الثورات الملونة التي انطلقت في شرق أوروبا.
نفس هؤلاء المحللين الذين يتقاضون رواتبهم من الكريملين ظنوا أن الإطاحة بالقذافي لم يكن لها أدنى علاقة بانتفاضة مدنية ضد نظام وحشي، وإنما كان ذلك تسلطا من الأمريكان للاستئثار بالنفط، وأن الأمريكان بلغت بهم الحماقة أن يستخدموا الجهاديين وكيلا لهم، تماما كما فعلوا من قبل في أفغانستان في حربهم ضد الجيش السوفياتي. ويرى هؤلاء المحللون أن ليبيا كانت، في نهاية المطاف، حديقة روسيا الخلفية في شمال أفريقيا.
هناك عدة أخطاء في مثل هذا التحليل، ليس أقلها فرضية أن كل ما يجري في الشرق الأوسط إنما هو تعبير عن علاقة بوتين الوسواسية بأمريكا. ولا إنكار في هذا المجال للتشابهات القائمة بين سلوك بوش في العراق وسلوك كلينتون في روسيا.
إن الغرور الذي هيمن على بوش وجعله يعتقد في عام 2003 أن بإمكانه كسر الدولة العراقية ثم إعادة تركيبها، وأن قذائف الديمقراطية الجفرسونية ستنطلق من مدافع الدبابات الأمريكية، سبقته إليه إدارة كلينتون التي ظنت أن بإمكانها إعادة صياغة الدولة الروسية بعد عام 1992. كلا المشروعين باء بالفشل، ولكنهما كانا أبناء الأيديولوجية الأم ذاتها، التي كانت ترى أنه بعد انهيار الشيوعية، وقبل ظهور البحرية الصينية، تحررت طموحات القوة الأمريكية من كل القيود.
ولذلك، فقد كان يعرف بوتين أنه يغير قواعد اللعبة في سوريا، ولكنه لم يفعل ذلك دون أن يمهد الأرضية لذلك. فقد كان هو الآخر مشغولا في تشكيل تحالف الراغبين. من المهم أن نلاحظ في هذا الصدد أن بناء تحالف ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بحيث يكون بشار الأسد حجر الزاوية فيه بدأ على شكل تحرك إيراني روسي بعد النجاح الذي أسفرت عنه المحادثات النووية. إلا أن بوتين كان بحاجة إلى حلفاء عرب.
ما لبث بوتين أن وجد هؤلاء الحلفاء في الأردن ودولة الإمارات العربية المتحدة ومصر مزجا للعمل بمزيد من العمل، تمكن بوتين من جلب عاهل الأردن الملك عبد الله، وولي عهد أبو ظبي الشيخ محمد بن زايد آل نهيان من الإمارات العربية المتحدة ورئيس مصر عبد الفتاح السيسي للمشاركة في عرض جوي عسكري في موسكو في شهر آب/ أغسطس. من الجدير بالذكر، كما كان ورد في تقرير لموقع ميدل إيست آي، أن الأردن سحب مؤخرا دعمه للثوار السوريين الذين يقاتلون على الجبهة الجنوبية.
وها هي مصر، التي طالما تجنبت إظهار دعمها للأسد، تعلن جهارا نهارا تأييدها للتدخل الروسي نيابة عن الأسد. فقد صرح وزير الخارجية المصري سامح شكري يوم السبت بما يلي: “إن دخول مصر، بما لها من إمكانيات وقدرات، لهو شيء نرى أنه سيكون له تأثيره في الحد من الإرهاب في سوريا بل وفي القضاء عليه.”
وفي مقابلة مع تلفزيون المنار التابع لحزب الله، قال المحلل الروسي والدبلوماسي السابق فتيسلاف ماتوزوف إن روسيا تلقت دعما من دولة عربية لم يسمها، ولكنه ألمح بشكل عام إلى دولة الإمارات العربية المتحدة حين قال: “إن الموقف المصري المؤيد للضربات هو انعكاس لموقف أبوظبي”. وأضاف قائلا: “لا شك أن صوت القاهرة هو صوت خلفي لدول خليجية أخرى غير السعودية”.
هناك حليف رابع لروسيا في حملة القصف التي تشنها على سوريا، إنها إسرائيل. لقد حافظ نتنياهو على علاقته ببوتين بغض النظر عن الظروف والأحداث، في إحدى المرات حمل بوتين على استلام شحنة صواريخ أرض جو من طراز S300، وذلك من خطوط السكة الحديد التابعة لهم بينما كانت في طريقها إلى إيران. ويوم الأحد نقلت صحيفة معاريف عن مصدر عسكري إسرائيلي قوله إن استمرار الحرب الأهلية في سوريا يخدم المصالح الإسرائيلية.
وقال إن استمرار نظام الأسد، الذي يحظى باعتراف دولي، يعفي إسرائيل من عبء التدخل المباشر والتورط العميق في الحرب الدائرة هناك. وأشار إلى أن إسرائيل تتفق مع كل من روسيا وإيران حول هذه القضية، يعدّ ذلك تصريحا مثيرا للاهتمام إذا ما أخذنا بالاعتبار أن إيران هي الداعم الأساسي لحزب الله ولنظام الأسد في سوريا الذي يعتبر قناتها الوحيدة لتمرير الصواريخ طويلة المدى التي بإمكانها أن تضرب في العمق الإسرائيلي.
هذا فيما يتعلق بحلفاء بوتين في الشرق الأوسط، فماذا عن معارضيه؟ الدول الثلاث غير الغربية التي أصدرت بيانا مشتركا تدين فيه الهجمات الجوية الروسية هي: المملكة العربية السعودية وقطر وتركيا، وهي الدول الرئيسية الداعمة للمعارضة السورية. هذا البيان المشترك لم توقع عليه مصر ولا الأردن ولا الإمارات العربية المتحدة، وذلك بالرغم من الضغوط التي مارستها عليهم المملكة العربية السعودية.
ما من شك في أن في ذلك أمارات واضحة على الانقسام العربي. في هذه الأثناء وقعت مبارزة بين طائرة حربية روسية من طراز Su-24 وأخرى تركية من طراز F-16 داخل ما قالت أنقرة إنه المجال الجوي التركي. وقد علق على ذلك رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو قائلا إن سلاح الجو التركي سيفعل قواعد الاشتباك العسكرية مؤكدا أنه “حتى لو كان طائرا يطير بجناحيه فإنه سيجري اعتراضه”.
وقال ماتوزوف إن الروس يتفهمون معارضة السعودية لعملياتهم ضد تنظيم الدولة الإسلامية مبررا ذلك بالعلاقات الوثيقة للملكة مع واشنطن، هو أمر مسكون به الروس. تارة أخرى يخطئ الروس من حيث المبدأ في فهم ما يحدث في الشرق الأوسط، فما لبثت أمريكا تفقد السيطرة على حلفائها الذين بات كل واحد منهم يفعل ما يراه مناسبا من وجهة نظره. لقد عبر السعوديون عن غضبهم بسبب عدم رغبة أوباما في ضرب الأسد بعد الهجمات التي شنتها قواته بالغازات السامة خارج دمشق.
تعتقد الرياض بأنها إذا لم تتصدر لمهمة حماية الأغلبية السنية من الناس في المنطقة فإن القاعدة أو الدولة الإسلامية ستفعل ذلك. وبذلك، ينتهي بنا الأمر إلى وضع تعدّ فيه روسيا قوة أجنبية معتدية وامبريالية من قبل دولتين هما من أغنى دول الخليج، وكذلك من قبل الدولة التي تملك أكبر جيش في المنطقة هي تركيا، ومن قبل أغلبية الناس في كل من تركيا ولبنان وسوريا والأردن ودول الخليج. بمعنى آخر، نحن بصدد معارضة معتبرة للنشاط الروسي في المنطقة.
لم تسع روسيا إلى تسويق تدخلها في سوريا بشكل مبالغ فيه، ولعلها اكتفت بإشادة الكنيسة الأرثوذكسية الروسية بالهجمات الجوية، وبكيلها المديح لبوتين الذي اعتبرت أنه يشن حربا مقدسة.
قال فزيفولود تشابلين، رئيس قسم الشؤون العامة في الكنيسة: “إن الحرب على الإرهاب معركة مقدسة، ولربما كانت بلادنا اليوم هي القوة الأكثر نشاطا في العالم في مجال الحرب على الإرهاب.” مثل هذا التفكير ليس جديدا أبدا. فقد استخدم بوش تقريبا الكلمات ذاتها حينما قال بعيد هجمات الحادي عشر من سبتمبر مباشرة إن “هذه الحرب الصليبية، هذه الحرب على الإرهاب، ستستغرق وقتا”. وبالفعل، لقد استغرقت وقتا.
واليوم تكرر روسيا بعد أربعة عشر عاما الخطأ ذاته الذي ارتكبه من قبل بوش وبلير، لدرجة استخدام العبارات ذاتها، وما من شك في أن ذلك يثبت كم هو خطير صياغة التعبير عن الاقتتال الذي يدور في بلد مسلم ضمن إطار ديني.
تعتبر مغامرة بوتين الأخيرة في سوريا بمثابة كارثة متحركة على عجلات نزعت منها فراملها. إذا كانت المقاتلات الروسية فوق أفغانستان البعيدة قد جذبت المقاتلين الجهاديين العرب من كل حدب وصوب، فللمرء أن يتصور تأثير تحليقها في أجواء سوريا والعراق على الشباب وإلى أي مدى سيعزز ذلك من قدرات تنظيم الدولة الإسلامية على تجنيد المتطوعين.
لا ينبغي على المرء أن يقلل من أهمية مشروع بوتين، فهذا هو أول استخدام للجيش الروسي في القيام بدور قتالي في الشرق الأوسط منذ زمن بعيد. كان الإسرائيليون قد رصدوا وجودا روسيا إلى جانب القوات المصرية التي كانت تقاتل في عهد ناصر ما بعد حرب عام 1967، ولكن الأمر لم يعترف به بشكل رسمي آنذاك. أما ما يجري الآن فهو معترف به رسميا.
يسلب هذا القتال من روسيا قدرتها على ضبط دعم الإيرانيين وحزب الله للأسد أو للتفاوض في جنيف على دور انتقالي. لقد أعادت روسيا بذلك إشعال صراع كان قد دخل طورا من الوهن، وبدأ يفسح المجال أمام إبرام سلسلة من اتفاقيات لوقف إطلاق النار في عدة مواقع محلية، أخذا بالاعتبار تلك المكاسب التي حققتها المعارضة في الجنوب.
تتجه روسيا بشكل واضح نحو تكرار جميع الأخطاء التي ارتكبتها القوى الإمبريالية التي استعمرت سوريا والعراق من قبل: الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا. كما تتجه نحو إقصاء واستعداء الغالبية العظمى من سكان المنطقة.
في تصريح لموقع ميدل إيست آي شرح آمر عراقي رسمي لماذا انجذبوا بقوة نحو العرض الذي قدمه الروس لهم، قائلا: “يرفض (التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة) ضرب السيارات الخاصة والمساجد والجسور والمدارس، بالرغم من أن مقاتلي داعش يتخذون بشكل أساسي من هذه الأماكن مقرات رئيسية لهم.” وقال ضابط آخر: “كيف تطلب مني التقيد بالقواعد بينما يقوم عدوي كل يوم بارتكاب أعمال القتل الوحشي ضد شعبي، ويسترق أخواتي ويدمر بلداتي ومدني. الروس لا توجد لديهم خطوط حمراء، ولا يتبعون قواعد معقدة أو مقيدة، ولذلك فإن التعامل معهم بالنسبة لنا أيسر”.
ما هو الخلل الذي يمكن أن يحصل؟ وكما يقولون بالروسي “بويتشالي”، أي هيا نذهب.
المصدر: هافنغتون بوست – ترجمة: عربي٢١