لعل من أكثر ما يربك العقل المسلم اليوم هو علاقته بدينه ..تعريفها وحدودها وتطورها.
ورغم ذلك فالإنسان المسلم يدرك أن الإسلام ببعده المملموس والمباشر شيء يمكن فهمه وممارسته دون أي إشكال أو إرباك، فهو حين يصلي أو يصوم أو يحج أو يزكي يلامس جوهر الدين، فلا أحد ينكر أو يؤول تلك الفرائض التي نص عليها الإسلام بشيء على غير حقيقتها. ولا تجد اليوم اثنان يختلفان عليها، ولكن ماذا عن روحانية الدين؟ ماذا عن مكنونه وفلسفته ؟ ماذا عن كلمات نسمعها كل يوم أصبحت ملتصقة به وكأنها ولدت معه، التجديد الديني، الإصلاح الديني، ثورية الإسلام..إلى آخر تلك المصطلحات والجمل.
فإن قلنا أن في الدين تجديد، فهل نعني الكلمة بحرفيتها؟ وإن قلنا أن الإسلام يُشكّل في داخله وتعالمية ثورة، فهل نقصد ذلك بإسقاط تعريف الثورة المتأخر أم هي حالة وصف بها الإسلام متأخرا كانت بسبب ما نتعرض إليه من مفاهيم جديدة؟
يبدو واضحا أننا كمسلمين أردنا للإسلام أن يصبغ حياتنا، ويغيّرها بكل ما فيها، لكننا لم نعي أن هذا يعني عكس المراد أيضا، فإن قلنا أن في الإسلام ثورة، فذلك لا يعني فقط أن الدين يقف مع المظلوم ضد الظالم كمبدأ ثوري، بل يعني أيضا أن الدين استلهم هذه المعاني وصبغها بأحداث متأخرة جدا عن الإسلام لحظة ولادته، وبالتالي تغيّر وصفنا للإسلام معها.
إننا حين نقرأ القرآن نقرأه وكأنه كتاب تعاليم مباشرة، فهو يأمرنا وينهانا، والحقيقة أنه كتاب يصنع الواقع بقدر، ويصنعه الواقع بقدر ..فلولا حالة الشرك التي تنافي التوحيد التي سادت مكه، لما نزل الوحي برسالة جديدة تقوم على أساس مضاد للواقع الشركي.
ولو لا حادثة الإفك مثلا ..لما نزلت تلك الآيات لتقرر ما الذي ينبغي عمله في مثل تلك الحالات.
إنه كتاب تفاعلي من طرفين وليس من طرف واحد. إنه كتاب أحداث يصنعها الإنسان، ويرد عليه الإله ليقرر ما إذا كان الفعل حسنا فيحث عليه أو سيئا فيدعو لتغييره.
من هنا كانت فلسفة فهم الوحي قائمة على فهم العلاقة التي يؤثر بها من جهة ويتأثر بها من جهة ثانية.
وليس أدل على ذلك من قصة حفظ القرآن نفسه. لقد كنت أقرأ آية (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) على أنها تحدي لأي تحريف قد ينال القرآن، هو تحدي إلهي مباشر بأن هذا الكتاب لن يكون مصيره التحريف البشري كبقية الكتب السابقة، لكن ماذا يقول لنا الواقع؟
إن الآية تقول لنا أنها مسؤولية الله، لكننا نرى عملية حفظ القرآن سارت ضمن تحديات وظروف، تسببت في أزمات وإشكاليات حتى وصلنا القرآن على ما هو عليه اليوم.
ولولا قرارات بشرية حاسمة، لما وصل إلينا القرآن وحفظ كما هو عليه اليوم!
وليس غرضي هنا الخوض في كيف وصل إلينا القرآن، أو كيف تم حفظه؟ بل التأكيد على أن أي أمر قرآني موجّه من الله للبشر يقوم على أساس بشري ليبقى، ولا أدل من ذلك على إنزال رسالات سماوية متعددة، أو رسل وأنبياء على مر الأزمان، وبقدر ما انحرفت الرسالة عن مضمونها تقوم الحاجة لإصلاحها من خلال رسالة جديدة أو نبي جديد، وتلك رسالة في غاية الأهمية تقول لنا بشكل مباشر: إن الدين يحتاج للإنسان بقدر ما يحتاج الإنسان الدين. تلك هي المعادلة التي علينا أن نفهم فلسفتها اليوم.
تعني هذه الفلسفة أننا نؤثر في الدين كما يؤثر فينا، ونشكّله بعد أن نفهمه لنُعيد قولبته في حياتنا بأشكال مختلفة ومتعددة، هذه الحقيقة يعتبرها البعض تعدي على الدين، أمّا البعض الآخر فيقاتل من أجلها اليوم باعتبارها روح الدين وفلسفته.
وإذا حاولنا الغوص أكثر في الموضوع فسنجد أن الجزء الأهم من الدين وهو الإيمان..يزيد وينقص، ولا يمكن أن نرى أثر انعكاسه متساويا بين الناس، رغم أن الإيمان له دلالات مباشرة وملموسة علينا، كالصلاة والزكاة وغيرها من الفرائض، إلا أنه انعكاسه لا يكاد يكون متساويا بين اثنين فما بالنا بملايين المؤمنين.
إننا نحتاج لفهم الدين بطريقة مختلفة عن التلقينات والتعريفات، فإن كنا قبلنا توصيفه وتعريفه مصطلحيا وفقيها كمادة أكاديمية، فلا يمكن قياس أثره وانعكاساته اجتماعيا وروحيا بنفس الأدوات والمناهج التي أعتدنا أن نرى من خلالها الدين كتعريف محدد وثابت.
إن كل محاولة تعريفية للدين تجعل منه قانونا صلبا تتنافي مع مسلمة أن الدين صالح لكل زمان ومكان. وليس هذا بسبب الدين، بل بسبب الإنسان. فالإنسان هو العامل المتحول الذي لا يبقى على حال، فكيف بنا والبشرية تمر بأزمنة متغيّرة ومتقلّبة، تنقل الإنسان وتغيّر حياته رأسا على عقب.
من هنا كان على الدين أن يكون قابلا للتمدد بحسب تغيّر أحوال الإنسان، قابلا للتجديد بحسب تطور الإنسان وعقله، قابلا للفهم بحسب ما يستجد من وقائع وأحداث، قابلا للتطبيق بحسب معطيات الواقع وظروفه.
ولعل من المهم التأكيد على أن العوامل المتغيرة التي تحكم علاقة الإنسان بالدين تقف على قاعدة ثابتة من المفاهيم الأساسية ..فرغم كل الكلام عن التجديد والإصلاح والثورة في الإسلام ..إلا أنه لا يمكن لمجادل أن يقول أن هناك تغييرا أو تطويرا يمس المعنى الأساسي للتوحيد، أو المعنى الأساسي في الإيمان، أو أن هناك فرائض نص عليها الدين يمكن أن تتطور لتأخذ أشكالا أخرى.
إن معادلة الإنسان والدين تحوي أبعادا ثابتة، تقوم عليها عوامل متغيرة، فالعالم يتحرك من حولنا، والإنسان يتطور عقله وتختلف احتياجاته ورغباته، ومن هنا كان فهم هذه المعادلة المطلب الأساس في فهم علاقة الإنسان بالدين، ومن هنا تبدأ فلسفة حاجة الدين للإنسان تماما كحاجة الإنسان للدين.
إنها معادلة ذات بعدين، وليست معركة ذات طرفين ..من هنا علينا أن نجدد الفهم ..فهمنا لأنفسنا وفهمنا لديننا.