أول أمس، وبعد ساعات من إعلان القوات الأفغانية عن تقدمها الكبير في السيطرة على شمال مدينة قندوز، عاد مقاتلو طالبان للإمساك بزمام الأمور، ليرفرف علمهم الأبيض من جديد فوق ميدان تشوك، ويتعزز تقدمهم بالسيارات الهامفي والشاحنات التي استولوا عليها من الجنود الأفغان، في تناقض صريح مع التصريحات الرسمية التي أدلى بها المسؤولون العسكريون الأمريكيون من أن كل شيء على ما يُرام وأن مقاتلي الحركة قد هربوا من معظم أنحاء المدينة.
“لقد تم إخراج العدو من المدينة بالأمس،” هكذا صرح الجنرال الأمريكي جون إف كامبل أمام لجنة الخدمات العسكرية بالكونجرس الأمريكي في واشنطن، في نفس الوقت الذي كانت روايات قاطني المدينة، وضباط أفغان ممن لم يفصحوا عن هوياتهم، تؤكد أن الأمر استتب لطالبان في أكثر من نصف مساحة المدينة، “لم تعد أي من الشوارع في شمال المدينة وجنوبها آمنة بما يكفي لقواتنا الأمنية، فنحن نتعرض للهجوم مباشرة حال ظهورنا فيها،” هكذا قال ضابط عسكري أفغاني.
طبقًا لنفس الروايات، كانت المعارك على أشدها في قندوز على مدار الأيام القليلة الماضية، حيث تغيّر العلم فوق ميدان تشوك أربع مرات، قبل أن ينتهي به الأمر أبيضًا مشيرًا لانتصار طالبان، وهو نفس العلم الذي يرفرف أيضًا فوق ميدان سينما القريب، والذي كان متنازعًا عليه في السابق قبل أن تحوزه طالبان هو الآخر.
قندوز من الألمان إلى الأفغان
منذ أربعة عشر عامًا تقريبًا كانت نفس المدينة تشهد استستلام حركة طالبان لصالح قوات التحالف الشمالي، والتي قررت دخول أفغانستان بعد حادثة الحادي عشر من سبتمبر كما نعرف، وبينما كانت أصوات الطائرات تهيمن على المدينة الواقعة في قبضة الأمريكيين، كان المجاهدون ومقاتلو القاعدة يخرجون بأعداد كبيرة مع قياديي طالبان كنازحين، حيث سمحت لهم القوات الأمريكية وفق اتفاقها مع باكستان بترك المدينة بعد استسلامهم، في مفاجأة لكل الصحافيين الأجانب الموجودين على الأرض آنذاك.
لذلك، لم تكن “الهزيمة” التي تلقتها طالبان هزيمة حقيقية تقضي على جذورها بالفعل وتخلق توازنًا جديد يبقى لعقود، كما العادة مع الحروب التقليدية، ولكنها كانت مرحلة تحققت فيها الهزيمة تكتيكيًا بصفقة مع الباكستانيين في وقت كانت واشنطن تحتاج فيه إلى الانتصار السريع في “الحرب على الإرهاب،” لتنتقل تلك الأعداد من مقاتلي طالبان وغيرها إلى المناطق القبلية بباكستان وتحصل على استراحة محارب، قبل أن تضرب من جديد مع بدء انسحاب الأمريكيين.
لاحقًا، تم توكيل مهمة حماية قندوز لمجموعة من قوات حفظ السلام الألمانية، ومع أواخر العقد الماضي عاودت طالبان الظهور بشكل هادئ، في حين ازدادت شكاوى المسؤولين العسكريين الأمريكيين والبريطانيين من تباطؤ الألمان في الاشتباك مع “العدو،” والذين رفضوا أن يجوبوا الشوارع في المساء أو يخرجوا من قواعدهم أصلًا، قيما عده الكثيرون ضوءًا أخضر ألماني لطالبان لتتحرك بحريتها في المدينة في تلك الأوقات.
ما إذا كان هذا متفقًا عليه بالفعل أم أنه دلالة على النزعة العسكرية والحربية الضعيفة للغاية لدى الألمان، الحساسين من تاريخهم التوسعي النازي، هو أمر لا يُهِم كثيرًا، فالنتيجة على أي حال كانت بدء تخلخل السيطرة الغربية على قندوز عام 2010، والتي أدت لتعزيز الأمريكيين القوات الألمانية بـ25 ألف جندي، وهو تكتيك لم ينجح نظرًا لبدء جدولة انسحاب حلف الناتو المتفق عليها، والتي بدأت خلال ثلاث سنوات، ليُسلّم الألمان قندوز لقوات الحكومة الأفغانية، والتي لا نحتاج لمعرفة كفاءتها بعد أخبار سقوط قندوز في يد طالبان.
قندوز وبداية انفراط عقد المنظومة الجديدة
طائرة باكستانية في عرض عسكري
سقطت قندوز لأول مرة في قبضة طالبان في 28 سبتمبر الماضي، لتصبح أول عاصمة لولاية أفغانية تسيطر عليها الحركة منذ دخول الأمريكيين عام 2001، وهو انتصار تبعته طالبان باحتفالاتها في الشوارع، وإطلاق سراح المئات من المسجونين من أتباعها وربما مقاتلي الميليشيات الأخرى لتعزيز صفوفها، وبالطبع إعلان الشريعة كقانون رسمي، لتبدأ القوات الأفغانية المواجهة وتنجح في استعادة قندوز في الأول من أكتوبر بمساعدة الأمريكيين الذين قصفوا طالبان جوًا ودعموا قوات الأفغان تقنيًا على الأرض، ولكن ليس قبل أن تنتصر طالبان من جديد قبل أيام.
في وسط المعركة، وكعادتها، أصابت الطائرات الأمريكية 22 مدنيًا في مستشفى تابع لمنظمة أطباء بلا حدود، منهم المريض والطبيب، لتدلل مجددًا على فشل وسائلها البعيدة عن الأرض في أفغانستان ذات الجغرافيا الوعرة، في نفس الوقت الذي عانت فيه قوات الأفغان من عجزها المتكرر عن الوقوف بوجه مقاتلي طالبان شديدي الصلابة والحفاظ على مواقعها، لا سيما وأن قندوز هي معقل من معاقل قبائل البشتون التي ينحدر منها معظم مقاتلي طالبان، في الوقت الذي لا يسع فيه الأمريكيين العودة بقوة برية كافية، مثل 2001، لـ”هزيمتهم.”
لقد كانت قندوز واحدة من المدن التي وقعت متأخرًا للقوات الأمريكية عام 2001 نظرًا لتمركز طالبان والقاعدة فيها، وهو ما يعني أن عودتها إليهم مسألة متوقعة من ناحية، ولكنها إشارة إلى بدء انفراط عقد السيطرة الأمريكية على المساحات الأفغانية المعقدة، وهي سيطرة تمت أحيانًا بصفقات تحت الطاولة مع باكستان كما ذكرنا أنفًا في مجتمع فشل الإنجليز والروس في بسط سلطانهم عليه على مدار القرنين الماضيين، لتؤدي لظهور منظومة أفغانية قومية هشة تمامًا.
في نفس الوقت الذي تخفف فيه الولايات المتحدة وجودها في الشرق الأدنى بشكل عام وتعزز وجودها في شرق آسيا، لا يبدو أن المنظومة الجديدة التي استثمر فيها الأمريكيون كثيرًا ستُترَك لموجة طالبان، فالإيرانيون من ناحية راغبين في تثبيت تحالفاتهم لغرب أفغانستان وعدم السماح لطالبان بتكرار سيناريو التسعينيات، في نفس الوقت الذي تحاول فيه باكستان، كعادتها، توفيق الهدفين الأزليَّين المتناقضين، الإبقاء على علاقتها بطالبان تحت الطاولة لإحداث التوازن بينها وبين إيران، والاستمرار في كبح الحركة نفسها وتقليم أظافرها بشكل لا يهددها هي.
باكستان لا تزال بالطبع هي الشريك الأمريكي الأول، بل وحليف واشنطن الرئيسي في جنوب آسيا، وهو ما يعني أنها حريصة على النظام الأفغاني الجديد، والذي يمكن من خلاله الإبقاء على نفوذ طالبان في إطار سياسي يلجّمها، وفي نفس الوقت إحداث التوافق مع إيران والقوى الموالية لها عبره دون الحاجة لتأجيج نيران الصراع مجددًا، بيد أن ذلك سيحتاج بالطبع إلى استمرار المعركة بين باكستان وعمليات طالبان، استكمالًا للمهمة الأمريكية، والتي تشترك في أهدافها مع الأهداف الاستراتيجية الباكستانية عامة باستثناء القضاءالتام على طالبان، والمستحيل أصلًا.
لم تكن غريبة إذن الأخبار التي سمعناها في مطلع سبتمبر الماضي، بامتلاك باكستان رسميًا لتكنولوجيا تطوير طائرات بدون طيار لأول مرة، وهي تاسع دولة تفعل ذلك بعد أن بدأت برنامجًا عام 2009 بمساعدة صينية وفرنسية، والصينيون قريبون كما نعرف من باكستان نظرًا لرغبتهم في تحجيم الهند ومنعها من التوغل بنفوذها الاقتصادي في أفغانستان، وكانت النتيجة الناجحة لذلك البرنامج بإجراء أول تجربة هذا العام لطائرة “بُراق،” وهي تجربة أشعلت بالطبع سباق تطوير تلك التكنولوجيا مع الهند.
خلافة أمريكا في حملاتها بالطائرات دون طيار ستكون مهمة باكستان في الفترة المقبلة، وهي مهمة ربما ترفع الحرج عن الإدارة الباكستانية التي اضطرت مرارًا وتكرارًا تبرير سماحها للطائرات الأمريكية بقصف أهداف داخل بلادها أصابت مدنيين في أحيان كثيرة، بيد أنها مهمة ستزيد الدور الباكستاني تعقيدًا، وقد تثبت فشلها في نهاية المطاف مرة أخرى كما فعلت مع الأمريكيين، لتُجبر باكستان، كما اجبرت العشرات قبلها، على تسيير دفة الواقع الأفغاني ببطء وصعوبة انطلاقًا من الاشتباك به على الأرض.
***
بين التوازن العسكري الذي تحاول باكستان الحفاظ عليه مع الهند، والتي لا تتكافأ معها اقتصاديًا وديمغرافيًا، ومحاولة موازنة النفوذ الإيراني في أفغانستان وعدم السماح لروابط إيران الناشئة مع الغرب بالتأثير على مكانتها في واشنطن، والذي ستحاول الحفاظ عليه بإثبات نفسها كدولة تحارب الإرهاب وزيادة حملاتها ضد طالبان، يبدو وأن شعرة معاوية التي تُبقي عليها إسلام آباد بين مواجهة طالبان على أراضيها وكبح تمردها من ناحية، والمحافظة على تواصلها معها كفصيل أفغاني من تحت الطاولة من ناحية، شعرة رفيعة للغاية، وفي ظل عودة طالبان ربما بشكل أقوى من ذلك قبل بوجه نظام أفغاني هش، بل وفتح باب الحوار بين الحركة وبين إيران خوفًا من داعش، لا يبدو أن أحدًا سيتمكن من وقف الزحف الحتمي لقوى طالبان في شرق البلاد، وهو زحف سيكون صعبًا على باكستان تطويعه لصالحها كما اعتادت دومًا.
الأيام القادمة إذن تحمل لطالبان آفاقًا واسعة للحركة على الأرض، وكذلك في ممارسة لعبة السياسة من مكتبها في الدوحة بين طهران وإسلام آباد، بل ودلهي وبكين، في حين لا يبدو أنها تحمل أنباءً سعيدة للاستخبارات الباكستانية، التي ستتداخل لديها الكثير من الخيوط بشكل يصعب معه فك العُقدة الأفغانية.