البعد الوطني في فكر الحركات الإسلامية

b11ad293f1ec4fd7799f3569fee21bc4

مضى أكثر من 80 عامًا على تأسيس أول حركة إسلامية، أخذت على عاتقها المثابرة لإعادة الحضارة العربية الإسلامية إلى جادة التأثير في المحيط الوطني والإقليمي والدولي، وتوالت الأحداث منذ القرن الماضي في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، شهدت خلالها الفكرة الإسلامية مراحل استقرار ومراحل انتكاسات واضطهاد.

إثر الربيع العربي دخلت الفكرة الإسلامية اختبارًا عويصًا بصعود حركات الإسلام السياسي إلى الحكم في عدة دول عربية، ما جعلها تكون محط أنظار الداعمين لها، وكذلك المناوئين، وبعد مضي أكثر من أربع سنوات على اندلاع الربيع العربي تراجع دور الحركات الإسلامية في المشهد السياسي بين العودة إلى مربع الصدام مع النظام، مثلما يحدث مع الإخوان المسلمين في مصر إثر الانقلاب على الرئيس محمد مرسي، والتراجع من الحزب القائد للحكم إلى مشارك فيه، وهو ما يحدث مع حركة النهضة في تونس.

وصار لزامًا الوقوف للتأمل في هذا المسار الطويل من الكفاح والنضال، لأن الفكرة الإسلامية تحتاج إلى تجديد في المفاهيم، ليس من أجل إعادة الحركات الإسلامية إلى الحكم فحسب بل من أجل بناء أساسًا قويًا يمّكن الأجيال القادمة من العيش في جو من الحرية والقدرة على الإبداع في شتى المجالات.

إن الفكرة الإسلامية باعتبارها فكرة شاملة تفرض على من يتعامل بها ومعها أن ينظر في تمثلاتها الفكرية والسياسية والثقافية كل منها على حدة، لأن تقييم هذه الفكرة الراقية بنظرة شمولية سريعة هو تسطيح لها.

إن الفكرة الإسلامية تحتاج من الحركة الإسلامية، إحداث تمايز بين العمل الدعوي والعمل السياسي.

مستقبل العمل الدعوي

– الدعوة كما بدأها حسن البنا

إن الحركة الإسلامية تعرّف نفسها كحركة تطمح إلى إقناع الناس بالوسائل السلمية والديمقراطية لتبني الإسلام كمرجعية للحياة، باعتبار أن الإسلام دين الحرية والإقناع بالحجة والبرهان وليس دين قهر واستبداد، لذلك بنت الحركة الإسلامية عبر مفكريها ودعاتها تصورها الخاص للدعوة والتعامل مع محيطها الاجتماعي وخاصة في المساجد.

فنجد أن الإمام حسن البنا كان داعية حاز العلوم الشرعية وسلك طريق التصوف في الطريقة الحصافية، وانعكس ذلك على ممارساته الدعوية؛ فقد أقر لأعضاء جماعة الإخوان المسلمين منهجًا يربي الفرد على تزكية النفس، وتعلم العقيدة والأساسيات الفقهية التي يحتاجه المسلم، والاطلاع على الأفكار والأيديولوجيات الأخرى المنتشرة في العالم.

روحيًا: أقر أورادًا من شأنها تقوية الوازع الفردي في تزكية النفس، وتقوية الرابطة الأخوية ونشرها في “رسالة المأثورات”.

عقديًا: حسم الخلاف العقدي بين الفرق الإسلامية بطريقة في غاية الدبلوماسية، وكتب رسالة العقائد ليؤكد فيها على أشعرية العقيدة التي يتبناها.

فقهيًا: شجع منتسبي الجماعة على تعلم الفقه في مدارس الأزهر الشريف، وهي مدارس تعلم الفقه في أغلبها على المذهبين الشافعي والحنفي.

فكريًا: دعا أعضاء الجماعة إلى الأخذ بعلوم العصر والاطلاع على المستجدات، والتعرف على الأفكار والأيديولوجيات، وتعلم الشبهات التي تثار من منتسبي الأديان الأخرى حول الإسلام والرد عليها.

هذه الحكمة في البناء المتوازن لم تدم طويلًا في مصر وشهدت الحركات الإسلامية في باقي دول العالم اختلافًا في مناهجها العقدية والتربوية؛ فبعد وفاة الإمام البنا ودخول الإخوان في محنة السجون زمن عبد الناصر، اضطر الكثير منهم للهجرة إلى الخليج العربي وتأثروا بـ”الدعوة السلفية”، من خلال التركيز على ترديد الأحاديث والتمسك بالمظاهر والمباني دون التركيز على تزكية النفوس والاهتمام بالمعاني ومقاصد الشريعة، لأن المنهج السلفي، يحول العبادات إلى عادات ومظاهر جامدة لا روح فيها، في حين أن منهج الوسطية يقوم على تزكية النفس والاهتمام بمقاصد الشريعة.

كما أن التضييق الذي قادته الأنظمة العربية ضد الحركات الإسلامية، وعمليات تجفيف المنابع، ويضاف إليها الدعم المهول والمنظم الذي قدمه الملك السعودي، الراحل مؤخرًا، لدعاة السلفية في العالم من أجل تشويه الدعاة الوسطيين ورواد الفكر المقاصدي مثل الشيخ يوسف القرضاوي، الطاهر بن عاشور، عبد العزيز الثعالبي، أحمد الريسوني، علي الصلابي، راشد الغنوشي، محمد الغزالي، وغيرهم، جعل الشباب المسلم ينصرف إلى متابعة دعاة السلفية الذين لا يتجاوز تكوينهم سوى إتقان الدعوة بعض الرقائق والإفتاء على المذهب الحنبلي في أحسن الأحوال.

وقد أدى ذلك إلى وجود ضبابية لدى الشباب المتعاطف مع الحركات الإسلامية في التمييز بين المنهج الوسطي المقاصدي، الذي تتبناه الحركة الإسلامية، وبين المنهج السلفي الحرفي.

هذه العزلة الممنهجة التي مورست على الحركات الإسلامية، بالإضافة إلي تلك الضبابية في استيعاب الفكرة الإسلامية لدى الشباب، أدوا إلى انتشار أفكار مسبقة سلبية لدى عامة الناس حول الحركات الإسلامية، وفي الحقيقة يُعتبر ذلك سوء فهم، ولا يقدر أحد على حله سوى القيادات الحالية للحركات الإسلامية.

لذلك فإن الوضع السياسي والفكري الراهن، الذي يتميز بالفوضى، يدعو الحركات الإسلامية اليوم إلى بذل جهودًا أكبر في إبراز دعاة يتمايزون بصفة عميقة عن المنهج السلفي الحرفي وتأسيس كيانات مدنية تعين الشباب على البناء الروحي المتوازن وتوجههم نحو الإقبال على علماء المدرسة الوسطية، الذين تخرجوا من الأزهر الشريف والجامع الأموي في مصر والزيتونة في تونس والقرويين، وذلك من أجل حمايتهم من آفة الإرهاب والجماعات المتطرفة.

كما أن عامة الناس يبدون رغبة جامحة في التعلق بالموروث الديني التقليدي، لذلك فإن التماهي مع الموروث التقليدي الإسلامي سيجعل من الحركات الإسلامية الطرف الأقدر على حفظ الموروث الديني التقليدي في مختلف البلاد العربية، وسيضفي ذلك انطلاقة فكرية جديدة على هذه الحركات، التي لطالما حرمت من التفاعل مع هذا الموروث الكبير الذي ورثته الشعوب الإسلامية عن علمائها ومصلحيها.

مستقبل العمل السياسي للإسلاميين

لقد مثّل الانقلاب المصري والحوار الوطني في تونس منعرجًا هامًا في تاريخ الحركات الإسلامية في العالم، لقد أضفت هذه التطورات نقلة في الفعل السياسي للإسلاميين، إذ أثبت الواقع أن الأحزاب السياسية ذات الخلفية الإسلامية تحتاج إلى تطوير أدائها لمجارات الواقع والتأثير فيه، والكف عن النسك المفرط بالشعارات الأيديولوجية التي تضر الفكرة الإسلامية أكثر من نفعها.

بعد الثورات العربية، ارتفعت حدة المطالب الاقتصادية وتغيرت الخارطة السياسية في العالم العربي، وأصبحت الأيدولوجيا عنصرًا ثانويًا في تقييم الشارع العربي للأحزاب السياسية، لذلك فان النظرة المقاصدية التي تحملها الحركات الإسلامية للفعل السياسي تجعل منها، نظريًا، الأقدر على مجارات هذه المتغيرات، إذ يؤكد الشيخ راشد الغنوشي في كتابه “الحريات العامة للدولة الإسلامية” أن الدولة موجودة لخدمة المواطن ورعاية متطلباته، ما يعني أن منطلق الفعل السياسي للحركة الإسلامية يجب أن يكون بناء كيانات سياسية وطنية تركز على الجانب الاقتصادي والخدماتي، ما يعني أن تحول الأحزاب الإسلامية إلى أحزاب وطنية بات ضرورة ملحة لتحقيق الانفتاح ودمج الخبرات الوطنية ضمن هياكلها، بحيث يكون معيار الكفاءة المعيار الأهم في الممارسة السياسية داخل هذه الأحزاب.

يمكن للكثير من الإسلاميين “التقليديين” بأن يعتبروا هذه التوجهات من قبيل “البدعة” و”التخلي عن المرجعية الإسلامية”، لذلك نحتاج أحيانًا إلى العودة إلى تاريخنا الإسلامي ونتذكر بأن محمد الفاتح استعان بحداد مسيحي لصناعة مدفع ضخم لفتح القسطنطينية، عينة أخرى من التاريخ المعاصر، فقد كان للإمام حسن البنا مقولة رائعة ” كم فينا وليس منا، وكم منا وليس فينا” يؤكد فيها أن الفكرة الإسلامية لا يحدها الانتماء التنظيمي، وبالتالي فإن الشورى تقتضي الاستعانة بأكبر قدر ممكن من الخبرات والكفاءات من أجل صياغة قرارات سياسية مؤثرة وفعالة.

ولم يكتفِ حسن البنا بذلك فقد كتب رسالة مهمة بعنوان”هل نحن قوم عمليون”، أكد فيها بأن الواجب الوطني على الإخوان المسلمين يفرض عليهم المساهمة في تدعيم مناعة الاقتصاد المصري، عبر بناء المصانع، فتح المدارس، توفير فرص عمل للفقراء، وفتح دور لإيواء النساء اللاتي انقطعن عن ممارسة الرذيلة وتوفير عمل يكفل لهن حياة كريمة.

لماذا كل ذلك؟ لأن الفكرة الإسلامية فكرة لا يختصرها تنظيم ولا يتبناها “المتدينون” فقط، لأن الفكرة الإسلامية هي المدرسة والمصنع والمختبر والمستشفى والبرلمان، وهي حلم يتعلق به كل طامح للرقي الروحي والمادي.