مع اقتراب الأزمة السورية من دخول عامها الخامس بدا أن الصراع المفتوح هناك يتجه أكثر نحو تجديد الاصطفافات والتحالفات بعد أن أعلنت روسيا مشاركتها رسميا في العمليات العسكرية دعما للنظام السوري.
خلال سنوات الأزمة السورية كان الموقف الروسي الذي شكّل حاجز الحماية الأول لنظام الأسد في المحافل الدولية فضلا عن الدعم اللوجستي لجيشه قد تدرّج في مواقفه السياسية تجاه الأزمة، إذ تقدم في عام الثورة الأول بمبادرة رفضتها أمريكا والغرب كانت ستفضي إلى تنحي الرئيس بشار الأسد عن السلطة مقابل الخروج الآمن ووقف تسليح المعارضة وذلك بحسب تصريحات أدلى بها الرئيس الفنلندي السابق (مارتي أهتيساري) لصحيفة الجارديان البريطانية في أيلول 2015، ثم تبلور الموقف الروسي نحو رؤية تقوم على عدم إقصاء الأسد وفي المقابل فتح الباب أمام إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية حرة ونزيهة وذلك في ختام المفاوضات المتعلقة بالأزمة السورية في جينيف منتصف العام 2012، مرورا برفض أي تدخل خارجي في الأزمة مع التأكيد بأن روسيا رغم ذلك لن تدخل في حرب مع أحد في سورية وذلك في أعقاب التهديدات الأمريكية بقصف لمواقع تابعة للنظام في العام 2013، وصولا إلى موقف أكثر صرامة وسفوراً في انحيازه للنظام السوري عبّر عنه لافروف في الأول من أيلول المنصرم عندما أكد على شرعية الأسد كرئيس لسوريا لا تملك أي قوة خارجية حق مطالبته بالرحيل وذلك قبل الإعلان رسميا عن التدخل العسكري في سوريا.
يتفق المراقبون على أن لروسيا مصلحة كبيرة في دعم نظام الأسد، غير أن البعض يرى أن عقود التسليح بين روسيا والنظام السوري إضافة لميناء طرطوس لا يشكلان الدافع الرئيس لوقوف روسيا موقفا متشدداً في دعم حليفها السوري، ذلك أن معظم الدول العربية فضلا عن غيرها يرتبطون بعقود تسليح بمبالغ ضخمة مع روسيا ولا يقف الأمر عند سوريا فقط، بينما بالنسبة لميناء طرطوس فقدْ فَقَدَ أهميته بالنسبة لروسيا لأسباب عدة منها تجديد اتفاقية أسطول البحر الأسود مع أوكرانيا والقاضية ببقاء تواجد الأسطول الروسي في ميناء (سيفاستوبول) الأوكراني في شبه جزيرة القرم لـ 25 عاماً إضافية تبدأ من تاريخ انتهاء العقد الحالي في العام 2017م، وهو ما يعني بقاء الأسطول الروسي في البحر الأسود لغاية العام 2042م، ومع ضم شبه جزيرة القرم لروسيا في العام 2014.
لم يعد لميناء طرطوس أهمية تذكر بالنسبة لروسيا حيث بات لها منفذ بحري يوصلها للبحر المتوسط، غير أن هناك عوامل أخرى ذات أهمية تجعل روسيا تقف موقف الداعم لنظام الأسد خلال الأزمة السورية يكمن أهمها في العداء التاريخي بين روسيا والإسلاميين، إذ كان الإسلاميون السبب المباشر في هزيمة الاتحاد السوفيتي بأفغانستان، فضلا عن الحرب بين الإسلاميين في الشيشان وروسيا والتي اشتد أوجها في تسعينات القرن الماضي وبدايات العقد المنصرم وكلفت روسيا الكثير حتى استطاعت إخماد الثورة هناك، وليس خفياً أن روسيا لا تنظر بعين الريبة تجاه الجهاديين فقط، بل تشمل تلك النظرة حتى جماعة الإخوان المسلمين الذين تعتبرها روسيا تنظيما إرهابيا، ولا شك أن الساحة السورية شكلت جاذبا هاما للإسلاميين من كل العالم، وهو ما يعني بالنسبة لها أن انتصارهم في سوريا سيشكل تهديدا لأمنها القومي، وخطرا محدقا قد يقود لاضطرابات في روسيا والدول الإسلامية المحيطة بها حيث لا تستبعد أن يتم تصدير الثورات إلى هناك، كما أن روسيا تنظر للمسألة السورية على أنها ساحة لتصفية الحسابات مع أمريكا التي استطاعت خداع بوتين عبر إقناعه بالموافقة على تدخل دولي في ليبيا لحماية المدنيين أفضى في النهاية إلى إسقاط القذافي وإضاعة عقود تسليح بالمليارات على روسيا، فضلا عن استمرار أمريكا في بناء الدرع الصاروخي في وسط وشرق أوروبا الأمر الذي يشكّل تهديدا لقوة الردع الروسية.
ماذا بعد التدخل الروسي؟
يرى البعض أن التدخل الروسي لن يغير كثيراً في معادلة الصراع، ذلك أنه سيعمل على حماية الساحل وميناء طرطوس والحفاظ على المناطق التي تقع تحت سيطرة النظام السوري من الوقوع في يد التنظيمات المعارضة، وهو رأي على وجاهته قد لا يكون دقيقاً بشكل كامل، إذ أن هدف حماية مناطق نفوذ النظام السوري قد تكون مرحلة أولى يعقبها تدخل روسي أوسع بتحالف مع إيران وحزب الله من أجل بسط السيطرة على المزيد من الأراضي التي فقدها النظام، وبالتالي تضييق الخناق على الجماعات الإسلامية المسلحة التي تمكنت من تحقيق انتصارات ملموسة في الشهور الأخيرة على النظام السوري، وقد بدأت تقارير إخبارية تتحدث عن دخول مئات المقاتلين الإيرانيين وكذلك مقاتلي حزب الله من لبنان إلى سوريا استعدادا لعمليات برية بغطاء جوي روسي بهدف طرد معارضي النظام من مناطق وقعت تحت سيطرتهم، غير أن محاولات روسيا ومعها كلاً من إيران وحزب الله للسيطرة على المزيد من الأراضي قد تدفع بالغرب إلى السماح بدعم قوى مسلحة في سبيل منع خطط روسيا وحلفائها في سوريا.
فضلا عن أن محاذير أخرى ستدخل في حسابات الروس أثناء عملهم داخل سوريا أهمها أن التدخل الروسي المباشر سيجعل من الإسلاميين في بقاع العالم أكثر تحفزّا للقدوم إلى سوريا والقتال ضد نظام الأسد والقوات الروسية المتواجدة هناك أو حتى استهداف المصالح الروسية في مناطق مختلفة من العالم، كما أن التدخل الروسي سيفيد إيران بشكل كبير الأمر الذي لن تقف عنده السعودية مكتوفة اليدين إذ أنه من المتوقع أن تقوم بزيادة دعمها للجماعات الإسلامية بغية منع تحقيق روسيا وإيران وحزب الله أية انتصارات في سوريا، كما أن أمريكا لن تقف صامتة حيال ازدياد نفوذ روسيا في المنطقة، وبالتالي ربما سيتكرر سيناريو الاحتلال السوفيتي لأفغانستان لكن بتفاصيل مختلفة.
غالبا فإن أمريكا لن تكون غاضبة وهي تشاهد روسيا تغرق في الوحل السوري وتتعرض لضربات الجماعات الإسلامية المختلفة، حيث ستصبح سوريا بؤرة استنزاف لروسيا كما حالها الآن مع إيران وحزب الله، فضلا عن أنها ستجني مكاسب مالية كبيرة نتيجة عقود شراء السلاح اللازم لاستمرار الصراع في سوريا
المرحلة المقبلة ستشهد تصعيدا في الصراع لا تضمن روسيا وأحلافها الانتصار فيه، لكنه سيحتوي على عدة سيناريوهات تتراوح ما بين تراجع الجماعات المعارضة وتقدم للقوات السورية، أو تكرار سيناريو الاحتلال السوفيتي لأفغانستان واتجاه الأوضاع حينها نحو استقرار درجة الصراع لكن بالحد الذي يضمن عدم انتصار أي فريق على الآخر تمهيدا للدخول في سيناريو التقسيم وبروز “سوريا المفيدة” التي تقع تحت سيطرة النظام السوري وتضم الشريط الساحلي والمناطق ذات الكثافة السكانية الكبيرة، بينما لا يبدو في الأفق المنظور ما ينبئ بسقوط نظام الأسد على الأقل خلال العامين القادمين.