تُعد السياسة الميدان الوحيد المتاح لجميع الأفراد والأشخاص دخوله والعمل به على النقيض من التخصصات الأخرى التي تحتاج إلى خبرة واتقان مُحكم لممارستها مثل الطب والهندسة وما شابه، ولكن ليس كل من يدخل الميدان السياسي يمكن اعتباره مُحنك سياسيًا فهناك بعض السياسيين من يترك بصمة مثالية يُحتذى بها وهناك البعض الآخر الذي يُعتبر مثال سياسي فاشل تُؤخذ العبرة من فشله.
الرجل الحكيم:
يُعرف الرجل الحكيم حسب القاموس العربي بأنه الرجل الذي تصدر عنه أعمال وقرارات وأفعال وأقوال عن روية ورأي سديد ودون استعجال أو عواطف واندفعات شخصية.
السياسة:
تُعرف السياسة بأبسط تعريفاتها بأنها فن صناعة الحلول وليس كما يعتقد الكثير بأنها فن صناعة النقاشات والخلافات والتجادل.
عبد الله غُل “حياته وتاريخه السياسي“:
وُلد عبد الله غُل بتاريخ 29 تشرين الأول/ أكتوبر 1950 في مدينة قيصري الواقعة في وسط تركيا، أنهى مرحلته التعليمية الابتدائية والإعدادية والثانوية في مدينة قيصري وبعد ذلك درس في جامعة إسطنبول الاقتصاد وأنهى دراساته العليا إلى مرحلة الدكتوراة في نفس الجامعة وفي عام 1974 بدأ العمل كدكتور أكاديمي في جامعة سكاريا.
في عام 1983 انتقل إلى جدة في المملكة العربية السعودية للعمل في بنك التنمية الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي كمستشار اقتصادي وبعد ثمان سنوات من العمل في جدة في ذلك المجال رجع عام 1989 للعمل من جديد في جامعة سكاريا.
رُشح عام 1991 نائب عن مدينة قيصري باسم حزب الرفاه واستطاع دخول البرلمان في تلك الانتخابات وفي عام 1993 أصبح مساعد زعيم حزب الرفاه واستطاع دخول البرلمان مرة أخرى عام 1995 كنائب عن مدينة قيصري.
عمل كوزير دولة وناطق باسم الحكومة التي تأسست عام 1996 عن طريق الاتفاق بين حزب الطريق الصحيح وحزب الرفاه، بعد إغلاق حزب الرفاه بقرار من المحكمة الدستورية عام 1998 انتقل عبد الله غُل إلى حزب الفضيلة واستطاع دخول البرلمان للمرة الثالثة باسم حزب الفضيلة عام 1999 ترأس حركة المجددين التي تأسست عام 2000 داخل بنية حزب الفضيلة ولكن بعد اغلاق المحكمة الدستورية لحزب الفضيلة بتاريخ 22 حزيران/ يونيو 2001 قام عبد الله غُل بتاريخ 14 آب/ أغسطس 2001 بالتعاون مع ثلة منفصلة عن حزب الفضيلة بتأسيس حزب العدالة والتنمية وعمل كنائب أول لزعيم حزب العدالة والتنمية.
أصبح رئيس الوزراء الأول لحكومة حزب العدالة والتنمية التي تأسست بتاريخ 18 تشرين الثاني/ نوفمبر 2002 وبعد رفع الحظر السياسي عن رجب طيب أردوغان ترشح أردوغان للانتخابات الاستثنائية عام 2003 وفاز بها وتولى ذلك رئاسة الحكومة من عبد الله غُل وأصبح عبد الله غُل مساعدًا لرئيس الوزراء ووزير الخارجية في ذلك الحكومة.
استمر في منصبه إلى تاريخ 24 نيسان/ أبريل 2007 حيث تم اختياره من قبل حزب العدالة والتنمية كمرشح لرئاسة الجمهورية وبتاريخ 28 آب/ أغسطس 2007 تم اختياره كرئيس جمهورية من قبل البرلمان كرئيس للجمهورية التركية واستمر في منصبه كرئيس للجمهورية إلى تاريخ 28 آب/ أغسطس 2014 وبعد تركه لمنصب رئاسة الجمهورية توقع الكثير توليه منصب زعيم حزب العدالة والتنمية بديلًا لرجب طيب أردوغان الذي أصبح رئيس للجمهورية التركية بعد إجراء انتخابات الرئاسة بتاريخ 10 أغسطس 2014.
وبعد تجريد عبد الله غُل من جميع مناصبه بدأت وسائل الإعلام المضادة والمناصرة لحزب العدالة والتنمية تلمّح إلى وجود خلافات حادة بين عبد الله غُل وقيادات الحزب، ولكن لم يأتي أي تصريح رسمي بذلك إلا أن قام عبد الله غُل بانتقاد السياسة الخارجية لحكومة حزب العدالة والتنمية في أحد الإفطارات الجماعية التي دعى إليها الحزب في إسطنبول وبعد الانتقاد الحاد الموجه من قبل عبد الله غُل إلى السياسة الخارجية الخاصة بالحزب خرج رجب طيب أردوغان ورد عليه ضمنيًا وقال “هناك بعض الجبناء الذين كانوا سيخربون مسيرتنا التقدمية ولكن نحن تركناهم خلفنا كي لا تتأثر مسيرتنا التنموية والمناصرة للمظلوم”. وبعد هذه الحادثة تبين أنه بالفعل هناك خلاف حاد بين قيادات الحزب وبعد ذلك بدأت تتجلى حكمة عبد الله غُل.
ـ عبد الله غُل حكيم السياسة التركية:
تستخدم العلوم السياسية نظام المقارنة السياسية لتوضيح ظاهرة أو شخص بشكل سلسل وبين أكثر، بمعنى لتوضيح فعالية وزارة الخارجية التركية يتم مقارنتها بوزارة الخارجية الروسية وبالتالي عن طريق توضيح مدى فعالية وزارة الخارجية الروسية يتم معرفة مدى فعالية وزارة الخارجية التركية.
ولتوضيح الأمر أكثر لنعرف أنظمة المقارنة السياسية، هناك نظامان للمقارنة السياسية:
ـ نظام الأكثر تشابهًا: وهنا تكون جميع الأسباب والعوامل والعناصر المُشكلة لحدثين أو شخصيتين أو مؤسستين شديدة التشابه ولكن نتيجة العمل مختلفة.
ـ نظام الأكثر اختلافًا: وهنا تكون جميع الأسباب والعوامل والعناصر المُشكلة لحدثين أو شخصيتين أو مؤسستين شديدة الاختلاف ولكن نتيجة العمل متشابهة.
ولتوضيح مدى حكمة عبد الله غُل لا بد لنا من مقارنته ضمن نظام الأكثر تشابهًا لنرى حكمته المختلفة عن الشخصية القيادية الأخرى التي تتشابه معه بكل شيء ولكن تختلف معه بالنتيجة وهي الحكمة، وإذا قارنّا عبد الله غُل بشخصية قيادية مشابهة له فلا بد لنا من اختيار رجب طيب أردوغان وذلك لأنهما خرجا في نفس الطريق وسارا في نفس النهج معًا وأصبحا قياديّين بشكل متشابه تقريبًا فأحدهما كان رئيسًا للوزراء والآخر كان رئيسًا للدولة.
العوامل والمسيرة السياسية والموقع القيادي للاثنين متشابهة جدًا ولكن النتيجة كانت مختلفة تمامًا إذ أصبح عبد الله غُل يوصف بحكيم السياسة التركية من قبل المعارضين والمناصرين بينما رجب طيب أردوغان يوصف بأنه رجل متسرع حماسي غير موضوعي.
أنا أحترم أردوغان جدًا وأقدره ولكن النتائج السياسية والتحليلية تصفه بالصفات السابق ذكرها، وتتجلى حكم عبد الله غُل مقارنة بأردوغان بالمثاليين التاليين:
ـ أثناء أحداث غيزي بارك كان عبد الله غُل يدعو الجميع بلا استثناء إلى ضبط النفس ودعم فكرة الاستماع للشباب المتظاهر دون أي انحياز ولكن رجب طيب أردوغان كان دومًا يخرج متحديًا للمتظاهرين وكأنه منافس ومتحدي سياسي وليس رئيسًا للوزراء وممثلًا لجميع الأطياف وتحدى المتظاهرين بأن لديه 50% من الشعب التركي مؤيد وهو جالس في البيت الآن وهدد بعدم اضطراره لدعوتهم إلى الشارع، تحدي أردوغان وأسلوبه التهديدي كان يطيبه عبدالله غول من خلال دعوة الجميع إلى ضبط النفس واستقبال ممثلين من الشباب المنتفض لتلبية مطالبهم وهنا بدأ الكثير بوصفه بحكيم السياسة التركية.
ـ بعد تجريد عبد الله غُل من جميع مناصبه السياسية لم يقم بإظهار انزاعجه إعلاميًا أبدًا بل تحلى بالصبر والحكمة وبين للصحفيين في أكثر من مرة بأنه على استعداد تام للسير في خدمة مسيرة الحزب التنموية سواء من داخل الحزب أو من خارج الحزب وليست لديه أي نية مبيتة بما يخص تأسيس حزب سياسي آخر منافس لحزب العدالة والتنمية، بينما عندما أصبح رجب طيب أردوغان رئيسًا للدولة عام 2014 وأصبح ذو صلاحيات دستورية محدودة لم يتحمل ذلك وأصبح يدعو لقلب النظام بالكامل من نظام برلماني إلى رئاسي لكي يتسنى له إكمال مسيرته التنموية ونزل إلى الميادين ليدعو إلى انتخاب حزب العدالة والتنمية وتمكينه من تغيير نظام الحكم في تركيا في سابقة هي الأولى من نوعها منذ تأسيس الجمهورية التركية، انصياع عبد الله غُل للقانون والدستور خلال عمله كرئيس وزراء ورئيس للجمهورية وعدم انصياع أردوغان لذلك جعل الكثير في هذه النقطة أيضًا يصورون عبد الله غُل بأنه حكيم السياسة التركية لهذا العصر في ظل الدور التنافسي والحماسي والتهديدي لرجب طيب أردوغان.
هاتان النقطتان تمثلان أحد أبسط وأهم الأمثلة الدالة على حكمة عبد الله غُل ورويّته وصبره، وإن من يصفه بحكيم السياسة التركية هو الشعب التركي، ولكن من خلال هذا المقال حاولت توضيح بعض النقاط التي جعلته يحصل على هذا اللقب، وليس الهدف من المقال التحامل على سيادة رئيس الدولة رجب طيب أردوغان بل هي محاولة لنقل الصوت السياسي للشارع التركي.