الذعر يصيب الإسرائيليين مجددًا، ولكنه يأتي هذه المرة دون سابق إنذار كما جرت العادة مع صواريخ حماس القادمة من غزة، والتي تسبقها صفارات الإنذار في المدن الإسرائيلية، وهو لا يأتي من السماء، بل من الخلف أو ربما في الوجه والرقبة مباشرة، دون الحاجة إلى أموال أو تركيب وتفكيك أو مجموعة منظمة مثل حركات المقاومة المعروفة لإسرائيل والتي يمكن استهدافها بسهولة بالصواريخ، فالخطر هذه المرة يتحرك منفردًا بين جموع الإسرائيليين مصعبًا كثيرًا المهمة على الجيش الإسرائيلي.
ظن القياديون في الجيش الإسرائيلي ربما أن القبة الحديدية تكفي لمنع صواريخ حماس، “الميليشيا” القابعة في غزة، والتي لم يستطيعوا على مدار حروبهم المتتالية في السنوات الأخيرة اقتلاعها من هناك بعد أن أحكمت سيطرتها على قطاع غزة عام 2008، فالميليشيات والتنظيمات “دون الدولة” كما تُعرَف مُرهقة لجيش إسرائيل النظامي الذي سحق نظيره المصري في ستة أيام عام 1967، وفشل في تجاوز بضعة كيلومترات داخل لبنان بوجه “ميليشيا” حزب الله عام 2006.
كابوس الميليشيات لن يكون الأخير على ما يبدو، إذ أن هناك الآن ما هو حتى دون الميليشيا: إنهم قاطنو الضفة الغربية الذين يعيشون في ظل السلطة الفلسطينية العازفة تمامًا عن خيار المقاومة المسلحة منذ حوالي عقدين، والمنكبة على الانتهاء من أوراق الاعتراف بها في كل مكان بالعالم رُغم عدم استيفائها لأهم شرط وهو وجود سيادة لها على قطعة أرض صَغُرَت أو كَبُرَت، فبينما يتلاشى بشكل واضح حلم تلك الدولة أو شبه الدولة الفلسطينية، وتبدأ جولة جديدة من الصراع بين الفلسطينيين والسلطات الإسرائيلية على المسجد الأقصى، قرر سكان الضفة أن يخرجوا عن صمتهم، ويمارسوا الطريقة الوحيدة للمقاومة المتاحة لهم.
الثورة البدائية: من الحجر إلى السكين
آلة حادة معدنية تتحرك ببساطة وبسرعة إلى جسد العدو، من كان يتصور أن تكون تلك الطريقة التقليدية والبدائية، القديمة قدم الإنسان نفسه ربما، واحدة من الأخطار بوجه مجتمع يحظى بحماية جيش من أقوى جيوش العالم؟ في الحقيقة قد تبدو تلك الطريقة غير منطقية ولكنها في الواقع توقع ضحايا أقل من الفلسطينيين، فمقابل الطعنة التي يتلقاها الإسرائيلي هنا أو هناك وربما يموت على أثرها، لا يبدو أن أعدادًا من الشهداء ستنهمر على الناحية الأخرى، بل فلسطيني واحد فقط والذي قام بالطعن ليس إلا.
السكاكين تنقل المعركة إذن بشكل زئبقي إلى داخل إسرائيل، وبطريقة تلغي جدوى معظم الأسلحة التي يملكها جيشها، بل وتغيّر المعادلة الشهيرة التي كان يموت بمقتضاها عدد أكبر من الفلسطينيين مقابل كل إسرائيلي، علاوة على أن دقة التصويب الفلسطينية الآن إما أن تقتل أو تصيب على أقل تقدير، فخلال هجمات الأيام الماضية قُتِل أربعة إسرائيليين مقابل سبعة فلسطينيين، في حين تمت إصابة العشرات، فلا مجال هنا إذن لصواريخ بسيطة لم تصل لهدفها المرجو ولم تُحدِث سوي ثقبًا في حديقة خلفية.
ماذا أعدت إسرائيل لتلك السكاكين والآلات الحادة إذن، والتي لا تنفع معها قبة حديدية ولا رقابة عبر الأقمار الصناعية، ولا يمكن استهدافها إذا كُشفَت بالطائرات؟ قامت ببساطة ببدء نشر بوابات إلكترونية على مداخل القدس القديمة لتكشف عن أي آلات معدنية موجودة لدى الوافدين من وإلى القدس يوميًا، والذين تبلغ أعدادهم الآلاف، فقد تم وضعها عند بابي يافا ودمشق وشارع الواد.
لم تُعلمنا إسرائيل ما إذا كان كل المارة سيخضعون للمرور عبر تلك البوابات أم أنها ستلتقط المشتبه فيهم فقط، لا سيما وأن إجبار حوالي عشرة آلاف يوميًا على المرور منها سيكون مسألة شديدة الصعوبة، وهو ما دفع إسحاق بيندروس، المواطن الإسرائيلي وأحد أعضاء مجلس مدينة القدس، للسخرية من خطوات الحكومة الإسرائيلية تلك، “لا أصدق عيني، هذا باب يافا وليس مطار بن جوريون أو مدخل لاستاد كرة قدم، بدلًا من قيام الشرطة بعملها كل ما نقوم به هو تحصين أنفسنا بذلك الشكل الذي يبث عنا صورة شديدة الهشاشة والضعف.”
السيطرة على ثورة السكاكين هذه لن تكون سهلة كما هو واضح، بالإضافة إلى أن البوابات الإلكترونية لن تكفي أبدًا، علاوة على أن إجبار المشتبه فيهم فقط على المرور سيخضع لاشتباه الضباط الواقفين لهم، وهي مسألة قد يشوبها الخطأ، لا سيما وأن الطعن بالسكين لا يقتصر على الشباب الفتي، كما قد يخيّل للشرطة الإسرائيلية، فقد قامت فتاة فلسطينية منذ أيام بطعن أحد الإسرائيليين في القدس القديمة قبل أن تقتلها الشرطة بالرصاص، وهو ما يعني أن أي شخص معافى اليدين ليس إلا سيكون داخل دائرة الاشتباه، والتي كلما اتسعت كلما أرهقت السلطات، وكلما أرهقتها كلما ازدادت فرص عبروها ووصولها لهدفها بالفعل.
ضحايا الهجوم بالسكاكين على معبد يهودي في القدس
أيضًا، ومع مرور الوقت، قد يطور الفلسطينيون آلات حادة غير معدنية، أو لا يمكن أن تُكشَف بتلك البوابات، فالطعن يمكن أن يصيب بآلة خشبية حادة أو ربما قطعة زجاج، وكذلك بآلة ثقيلة كالمعدن ولكن ليست معدنية كالسكاكين السيراميكية، ويمكن لأي منا أن يطلق العنان للبحث على جوجل عن السكاكين غير المعدنية ليجد الآلاف من الروابط حولها، وهو ما يعني ببساطة أن تلك البوابات سيتمكن الفلسطينيون من خداعها مع الوقت وبآلات لا تقل بساطة عن السكاكين وإن قلت قدرتها على القتل واكتفت بالإصابة.
في الحقيقة، يبدو أن الإصابة في تلك المرحلة من تاريخ إسرائيل أكثر إيلامًا من القتل، فالإصابة تبث إحساسًا لدى المصابين بالذعر يحملونه معهم فيما بعد، بل ويروونه أيضًا لكل من حولهم، وهو ما قد يساعد في بث الشعور بالفزع أكثر من القتل وفقدان صديق أو قريب، علاوة على أن تزايد تلك العمليات مع الوقت سيترك ندبة في كل شارع أو بيت إسرائيلي دون أن يقتل صاحبها، بشكل تصبح معه السكين تذكرة على استمرار الصراع بشكل أكبر من صور الضحايا الإسرائيليين المعلقة على الجدران وزيارات قبورهم مرة كل عام.
***
بالأمس إذن كانت ثورة الحجارة، والتي استخدمت هي الأخرى سلاحًا بدائيًا، ولكنها ثورة لم تتوقف عند ذلك الحد على ما يبدو، فالفلسطيني المحاصر والمحروم من كل ما يمكن أن يواكب به العالم من حوله في امتلاك الدولة وأدوات الحرب والتكنولوجيا وغيرها، يسير بثقة وثبات في عالمه البدائي الذي أجبرته إسرائيل على العيش فيه، متبعًا خطى قدماء البشر، والذين لا يملك سوى سننهم القديمة في الانتفاضة ضد أعدائه، وهي انتفاضة لا تزال مؤلمة بعد آلاف السنين لتذكرنا بأن المسألة أحيانًا ما تكون أشد بساطة مما نتصور.
كثيرًا ما سألنا عن أهل الضفة وأين هم مما يجري لفلسطين، ولماذا لم يشعل فيهم الربيع العربي أي حافز للانتفاضة من جديد، وما إذا كانت غزة هي جيب المقاومة الوحيد الباقي للقضية الفلسطينية، ولكن الرد أتانا سريعًا من شباب الضفة منفردًا هذه المرة برجاله ونسائه، وبشكل يذكرنا بالحركات الفردية التي أشعلت الثورات العربية أكثر من اتساقه مع أساليب المقاومة المنظمة المعروفة ضد الاحتلال.
ما إذا كانت تلك الموجة ستستمر أم لا هو أمر ستكشف عنه الأيام، ولكن ما نعرفه على وجه اليقين هو أن السكين أدخلت الضفة في معادلة المقاومة من جديد بشكل قوي، وأدخلت إسرائيل إلى معركة “زئبقية” جديدة أكثر صعوبة ودقة على أرضها هي، وهي معركة تحيل الطائرات والقبة الحديدية والعلاقات الإقليمية مع حلفاء الصهاينة والدبابات إلى التقاعد، بل ولعلها قريبًا تحيل البوابات الإلكترونية أيضًا إلى المخازن.