هناك علامات لا تخطئها أذن السّامع ولا عين المتابع تفيد بوجود خطب ما على مستوى التحالف الرباعي الّذي يقود الحكم في تونس، لكن هل يرتقي هذا الخطب إلى مستوى المأزق أو الأزمة ذلك هو السؤال الذّي تبحث له أطراف عدّة عن إجابة واضحة، على رأس الأطراف المعنية بالإجابة عن هذا السؤال، المعارضة التيّ تعيش بدورها مأزقًا من نوع آخر.
إذا ألقينا نظرة عن كثب على التحالف الرباعي الحاكم سنقف على عدد من التناقضات الجوهرية فالحزبان اللذان يمتلكان أكبر عدد من المقاعد البرلمانية واللذان يشكلان قلب هذا التحالف الرباعي، بنى كل منهما حملته الانتخابية على شيطنة الآخر حيث كان حزب “نداء تونس” يعتبر شريكه في الحكم حزب ” النهضة” حزبًا إخوانيًا ذا مرجعية إسلامية متطرّفة، كما كان يحمّله مسؤولية الاغتيالات السياسية والإرهاب في البلاد، وفي المقابل يعتبر النهضويون حزب النّداء الذراع الرئيسي للقوى المضادة للثورة وأنه سليل حزب التجمّع المنحل بعد الثورة، كما يعتبرونه المتسبب في ما عرفته البلاد من فساد و استبداد زمن حكم الرئيسين بورقيبة و بن علي.
هذا التراشق بالاتهامات خفت وطئته بعد دخول الطرفين في ائتلاف حاكم، رغم ذلك لا يبدو أن موقف قاعدة كل حزب من الحزب الآخر قد تغيّر حتى أن محاولة راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة استحضار شخصية عبد العزيز الثعالبي مؤسس الحزب الحر الدستوري التونسي كرصيد مشترك وكأصل جامع بين الإسلاميين و الدستوريين -الذين تحول الغالب الأعم منهم إلى تجمّعيين- رفضها جزء مهم من الندائيين على رأسهم الأمين العام لنداء تونس محسن مرزوق الّذي أنكر هذا “النسب” السياسي المشترك قائلًا: “نحن بورقيبيون جدد و ليس للندائيين جدّ مشترك مع أيّ طرف سياسي يختلف معه فكريًا وأيديولوجيًا”.
هذا الرّد الصارم في وضوحه و قطعيّته يفسّر جانبًا من تناقضات الائتلاف الحاكم فَمَن يُعْرفُونَ بيسار النّداء يَتَهِمون النهضة بتأجيج الخلاف الداخلي بينهم وبين الدستورين هدف النهضة في ذلك حسب زعمهم تقويةَ الدستوريين الأقربَ فكريًا إلى النهضة وإضعافُ اليسارِ الّذي يعتبره الإسلاميون استئصاليًا، حديث الغنوشي عن الجد المشترك واستحضاره للثعالبي كقاسم مشترك مع الدستوريين وتهيئة الطريق أمام حافظ قائد السبسي ليحظى باستقبال رسمي في تركيا ويلتقي بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بالإضافة إلى عبارات الغزل السياسي والثناء المتبادلة بين الدستوريين والنهضويين، تفاصيل لم تمر دون انتباه مرزوق و يسار حزب النّداء ودون أن تحدث لديهم حالة من التوجّس من مساعي استمالة الدستوريين ومن الانقسامات بسبب اختلاف توجهات الفريقين.
استمالة لا يُعرف هل تتم بضمانات أو بدونها فالكثير من النهضويين قيادة وقواعد لا يثقون مطلقًا في الدستوريين ويقرّون أن العقل الدستوري يلازمه قلب تجمّعي وأن التجمّعي الّذي كان سببًا في سنوات من الإذلال والقمع والتنكيل بالحركة الإسلامية لا يمكن أن يكون شريكًا صادقًا في استكمال البناء الديمقراطي.
الانسجام بين مكونات الحكومة التونسية (حزب النهضة، وحزب النداء، وحزب أفاق تونس، وحزب الاتحاد الوطني الحر) لا يتجاوز الحدّ الأدنى المطلوب لتسيير دواليب الدولة بشكل عادي، وعدى التناقضات الجوهرية بين النهضة والنداء فإننا نجد أن التصوّر العام لمشروع الحكومة الحالية لا يختلف في أي من أبعاده العامة عن مشاريع سابقة دون ابتكار ومبادرة وجرأة أو تجديد، وكأن هذه الحكومة -أو هكذا يراد لها- بتركيبتها الرباعية هي مجرّد استحقاق سياسي للمشاركين فيها دورها لا يتعدى تصريف الأعمال حتى تُعِدَّ البلاد لاستحقاق انتخابي وسياسي تنبثق عنه تشكيلة حكومية جديدة ببرنامج مغاير.
أما عن مطبخ الحكومة الداخلي في ظل كل هذه التعقيدات فالمشهد يكاد يكون سرياليًا، فحكومة الحزب الحاكم ليست محل إجماع داخل هذا الحزب، وهو ما يهدد في كل لحظة وجودها فهناك من نواب الحزب من ينادي بمراجعة تركيبتها بشكل جذري، وقد سبق أن سمعنا وزير الخارجية الطيب البكوش المنتمي لنفس الحزب يقول أنه سيعارض النهضة من داخل الحكومة، وسمعنا عن عريضة قدمها ثلاثون نائبًا من الحزب الحاكم لمسائلة وزير التعليم العالي الذي عينه نفس الحزب، وأيضًا سمعنا ورأينا وزير الشؤون الدينية عثمان بطيخ يكاد يثير تصدّعًا في العلاقة بين الحزبين الأغلبيين بسبب استهدافه المتواصل لأئمة مساجد تشكلوا في أطر نقابية لمعارضة سياساته في الوزارة، وشاهد الجميع استقالة مدويّة للوزير المكلف بالعلاقات مع مجلس النواب وعضو المكتب السياسي لنداء تونس لزهر العكرمي والّذي قدم استقالته منذ أيام بسبب ما اعتبره تفشيًا للفساد عجزت حكومة الأيادي المرتعشة -حسب وصفه عن التعامل معه-.
جملة التناقضات في علاقة الأحزاب المكونة للحكومة ببعضها البعض واهتزاز تماسك البيت الداخلي للحزب الحاكم انعكس على مستوى الأداء الحكومي وزاد من تعقيد الوضع ضربات إرهابية موجعة في العاصمة وفي مدينة سوسة السياحية، إذ لم تتجاوز نسبة النمو الاقتصادي 0.7% حسب ما أفاد به وزير المالية، كما أن إحصائيات الأشهر الأولى من سنة 2015 تبيّن كذلك ارتفاع نسبة البطالة من جديد وهي التي انخفضت بشكل متواصل منذ أواخر 2011 ، ناهيك عن تراجع غير مسبوق في عدد السياح القادمين نحو تونس والذي تسبب في مغادرة أسماء عالمية في عالم الفندقة مثل مجمع ريو، وكذلك إلغاء وكالات أسفار معروفة مثل توماس كوك كل سفراتها نحو تونس في ما تبقى من موسم 2015.
هذه التوليفة السياسية بين الأحزاب الأربعة بالإضافة إلى كونها شديدة الهشاشة فإن استمرارها رهين بوجود الرئيس السبسي في قصر قرطاج، وأنه في حالة عجز أو وفاة هذا الأخير سيكون من الصعب أن تتواصل في ضل ما يعيشه حزب النداء من انقسامات ظهرت بوضوح بعد محاولة الاغتيال التي تعرض لها النائب عن الحزب بجهة سوسة رضا شرف الدين، وهي تبدو مرشّحة للتفاقم مع اقتراب مؤتمر الحزب و الّذي لا يُعرَفُ لهُ بَعْدُ تاريخُ انعقاد.
بكل هذه التناقضات والتقلبات تبدو الحكومة في حالة موت سريري في انتظار رصاصة أخيرة تنهي حالة الترقب القلق حول مصيرها و مصير البلاد أو معجزة تنقذ ما يمكن إنقاذه، الاحتمال الأول سيسعد أولئك الّذين ضاق صدرهم بوجود النهضة إلى جانبهم في الحكم أما الثاني فسيرضي دعاة التوافق و الترضيات.
على الجانب المقابل من أزمة الحكومة يتراءى لنا كذلك في ساحة المعارضة ما يشبه الأزمة، فالمعارضة التونسية على اختلاف أحزابها تتفق على التباعد والتنافر رغم اتفاقها على معارضتها نهج الرباعي الحاكم في الكثير من الملفات.
الجبهة الشعبية أكبر الكتل المعارضة في البرلمان ترفض الجلوس مع حزب المؤتمر من أجل الجمهورية (حزب الرئيس السابق منصف المرزوقي)، كما ترفض الجلوس إلى حزب التيار الشعبي المنشق عن حزب حركة الشعب وهو من مكوّنات الجبهة الشّعبية، وأما أحزاب ما يُعرف بالعائلة الديمقراطية الاجتماعية فقد قامت بخطوة أولى نحو توحيد جهود المعارضة عبر الدعوة لمسيرة يوم الـ12 من سبتمبر الماضي ضد قانون المصالحة الاقتصادية، رغم أنه لا يُعرف إلى اليوم من من أحزاب هذه العائلة قد طلب إقصاء حزب المؤتمر من التحضير للمسيرة ومن المشاركة فيها جنبًا إلى جنب مع بقية أحزابها.
العائلة الديمقراطية الاجتماعية التي أظهرت في الأسابيع الأخيرة منسوبًا واضحًا من التنسيق والتقارب تبطن توجسًا وحذرًا داخل مكوناتها حول مسألة الاستئثار بزعامة العائلة، وهناك داخلها ثلاث زعامات على الأقل أحمد نجيب الشابي بما يحمله من تاريخ نضالي كبير وطويل ضد الاستبداد، ومصطفى بن جعفر بما له من تجربة نضالية ومن إسهام في المرحلة الانتقالية كرئيس لثاني مجلس تأسيسي في تاريخ تونس، وكذلك محمد عبو بما له من تجربة نضالية وحضور ومن حظوة لدى الشباب، وبالتالي فإن الانطلاق الحقيقي لهذه العائلة السياسية لن يكون إلا بعد حسم مسألة الزعامة و إلا فإن هذا التقارب سيضل شكليًا و حذرًا.
وَعَدَ الرئيس التونسي الباجي قايد السبسي التونسيين قبل مجيئه إلى السلطة بكفاءات قادرة على تسيير أربعة دول، لكن وضع حكومته وحزبه بعد أقل من سنة على توليه زمام الحكم يبدو بعيدًا جدًا عن هذا الوعد، كما أن الأفق القريب لا يبدو حاملًا لبوادر حلحلة لتعقيدات الوضع على مستوى الحزب الحاكم، بل إن معطى جديدًا دخل على الخط وهو أن جانبًا من المراقبين بات يخشى أن الحرب داخل الحزب وعلى الحكومة قد دخلت بالفعل مرحلة التصفيات المافيوزية.
محاولة اغتيال النائب رضا شرف الدين بثلاثين رصاصة كاملة والتهديدات التي كانت وراء هروب الإعلامي معز بن غربية إلى سويسرا والتراشقات الإعلامية الحادة جدًا بين شقي الحزب الحاكم هي أوضح العلامات حسب هؤلاء، وهو ما يعني أن حكّام تونس اليوم في قلب أزمة خانقة سيكون لها ما بعدها من الاستتباعات ومن التحولات وحتى ذلك الحين يجد الرباعي الحاكم نفسه حائرًا حول الحل الممكن لهذه الأزمة، في المقابل لا تبدو المعارضة جاهزة لاقتناص اللحظة وهي التي تعيش بدورها تناقضاتها و حيرتها.
ملخّص الوضع التونسي اليوم…حيرة في السلطة وأخرى في المعارضة أما الشعب فله رب العالمين.