نشرت جريدة الجارديان مؤخرًا تقريرًا تحت اسم: “المدن المريضة”، تحدث الكاتب في هذا التقرير عن بحث تم إجراؤه في جامعة مانهايم في ألمانيا عن أثر المعيشة في المدن على الصحة النفسية، تمت الدراسة عن طريق إجراء مسوح الرنين المغناطيسي على عدد من المتطوعين من سكان المدن الكبيرة، وأثبتت ارتباطًا بين المعيشة في المدن الكبيرة وارتفاع معدلات المرض النفسي.
وهنا يصح الحديث عن علاقة المرض النفسي بشكل عام بالإنتاج الفني والثقافي، تربط الكثير من المعتقدات السائدة “الجنون” بـ “العبقرية”، ويظهر هذا في كثير من الأدبيات والمعتقدات الشعبية، إلا أن إشكالية تعريف كل من العبقرية والجنون تفرض علينا الابتعاد عن هذه التصنيفات والحديث عن مجموعة أخرى من التصنيفات، وبالتالي يمكن الحديث عن التعبير الفني بشكل عام وعلاقته بالمعاناة الإنسانية، إذ يمكن ربط المرور بتجارب نفسية حادة وصعبة إلى حد ما بالحاجة إلى التعبير عنها بشكل مختلف، إذ يأتي هذا نتيجة لعدم رضا الإنسان عن وعاء اللغة العادية كوسيلة كافية لوصف ما يشعر به؛ وهنا تنبع الحاجة إلى وسائل التعبير الأخرى؛ أي في كلمات أخرى: الفن
ينطلق هذا المقال من النتيجة السابقة نحو مجموعة من التساؤلات والملاحظات عن المعيشة في المدن الكبيرة بشكلٍ عام، وقد تكون الملاحظة الهامة أيضًا هنا هي احتفاء المدن بمعاناة عدد من سكانها وإعادة إنتاجها في صورة أدب وسينما وموسيقى وغيرها من الفنون، تدعو هذه الملاحظة تحديدًا عن ربطها بنتائج البحث السابق ذكره إلى التساؤل عن إنسانية المدن التي نعيش بها.
ربما يصبح من المناسب إلقاء نظرة سريعة على تاريخ المدينة كتجمع بشري كبداية، فأول أشكال لتجمع بشري يمكن إطلاق لفظة المدينة عليه كان منذ قرابة سبعة آلاف عام، حيث سمح التطور التكنولوجي في طرق الزراعة بإنتاج فائض غذائي واقتصادي يكفي لتمويل مشاريع بناء وعدد من الموظفين لا يختصون بالزراعة بشكل مباشر، مما يعني أن المدن بالأساس بنيت على نموذج ينتج فيه أغلبية من الناس؛ وتحصل قلة أخرى على المال من غير المشاركة في الإنتاج، أي أن بذور غياب العدالة الاقتصادية والاجتماعية هي صفة بنيوية للمدينة منذ ظهرت كشكل اجتماعي.
أدى التوسع الاقتصادي التدريجي للصناعة إلى نمو المدن أكثر وأكثر، وأصبحت المدن هي الموقع الرئيسي للنشاطات السياسية والطبقات الحاكمة؛ وما يتبعها من طبقات سياسية وخدمية كالطبقات الدينية والبيروقراطية، ووصل التوسع الاقتصادي للمدن إلى أكبر صوره مع نضوج الثورة الصناعية في أوروبا والولايات المتحدة مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين، وأصبحت المدن العملاقة في الدول المتقدمة على سعتها الحالية وحجمها العملاق كنيويورك وشيكاغو في الولايات المتحدة وباريس ولندن ومانشستر وميونخ في أوروبا.
إلا أن ما فرضه التوسع الاقتصادي والتصنيع هو جلب الملايين من الأيدي العاملة من الظهائر الزراعية لهذه المدن وتسكينها في ظروف شديدة السوء في أعماق المدن؛ على جوانب المصانع ومخلفاتها.
ومع التطور السياسي والاقتصادي للدول الغربية تحديدًا؛ استمرت المدن في النمو والتغير على الرغم من أنوف سكانها، ربما يمكن النظر إلى شعر تشارل بودليير تحديدًا كنموذج شديد الوضوح على هذا، ففي كل بيت من أبيات بودليير يستطيع القارئ أن يلاحظ ألمه من تغير وجه باريس شديد السرعة وفقًا لخطط البارون هاوسمان.
“انتهت باريس القديمة … إذ لا يستطيع قلب الإنسان أن يضاهي وجه المدينة في سرعة التحول” تشارل بودليير
إلا أن هذا التغير تحديدًا قد أخذ مسارًا واضحًا في دول الغربية المتقدمة؛ إذ انتقلت بخطوات شبه واثقة إلى حداثة ناضجة يظللها التقدم الاقتصادي والنمو الثقافي والمعرفي.
على العكس تمامًا من دول ألقي بها في ركب التحديث كأيتام لم يعدهم أحد بالرعاية منذ زمن، تلك الدول المعروفة بالدول النامية، فهي الدول الذي لم ينلها من حظ التحديث والتقدم سوى أنها تسير في مسيرة لا تنتهي للوصول إلى هدف متحرك وهو التقدم والنمو الاقتصادي الكافي لحياة كريمة. وبالرغم من عقبات بحجم الاستعمار والاستغلال الدولي؛ تستمر هذه الدول في تقديم التنازلات للحاق بمكان على مسار التحديث عبر القفز على مبادئ مهمة رسختها الحداثة كالديموقراطية والعدالة.
نستطيع أن نرى في مدن هذه الدول غيابًا تامًا للعدالة بين سكانها، وأسئلة من ماضيها وواقعها لم يتم الإجابة عنها في سبيل مستقبل براق ومضيء، نرى المساكن العشوائية جنباً لجنب مع ناطحات السحاب والمطارات الفاخرة، ونرى طرق دولية تسير عليها أفخر السيارات بينما لا يوجد رصيف يسمح بسير الفقراء من المشاة أو ركاب الدراجات.
هنا تحديدًا يمكن أن نلاحظ كيف تستطيع مدننا أن ترسخ الحزن في نفوس أهلها، فكما قلنا إن المدن امتازت على طول عمرها بغياب واضح للعدالة؛ إلا أن مدننا النامية تقوم بإظهار وتشكيل هذا الغياب للعدالة بشكل غير مسبوق، يصبح من الممكن للفرد الذي يحيى بها أن يرى الفقر والثروة متجسدين جنبًا إلى جنب، يستطيع الفرد أن يرى كل ما ليس هو عليه في أي مكان حوله.
يجابه المرء عمارة عملاقة متعالية، تظهر هذه العمارة للشخص ضآلة نفسه مقارنة بها، وتظهر بوضوح أن تغيير مجريات الأمور والتأثير على المدينة التي يعيش بها الفرد هي أشياء خارج نطاق الممكن.
وفي نفس الوقت تعتاد عين المار بالمدينة على مشاهدة من التناقضات الصارخة بين الفقر والثروة، وبين الحاضر والماضي، والماضي هنا تحديدًا يأخذ شكل مجموعة من الأسئلة لم يتم الإجابة عليها، ومجموعة من الممكنات التي لم يتم استكشافها.
كما تفرض طبيعة المدينة تجمع عدد ضخم جدًا من الناس في مساحة صغيرة نسبيًا؛ فإنها في ذات الوقت بصورتها الحديثة تؤكد وتحث على الشعور بالفردية، ولذلك فإنها تفرض تناقض جديد على أهلها، تناقض الوحدة مع وجود الآلاف من حولك.
كل التناقضات السابقة وبلا شك تلعب دور ما في تضاعف أعراض فصام الشخصية الطبي في سكان المدن الكبيرة عن غيرهم؛ والذي ذكرته الدراسة أعلاه.
يمكن لنا في هذه الحالة أن نربط المعاناة النفسية الناتجة من تناقضات الوحدة والضآلة وغياب العدالة الاجتماعية في المدن بظهور فن لا يمكن له أن يظهر سوى في هذا السياق.
وهنا يمكن لنا العودة إلى عنوان المقال: لماذا تحتفي المدينة بمعاناة أهلها؟
الإجابة تأتي بأن قدرة كل مدينة على إرهاق وأذى عدد من سكانها وهم القلة الأكثر تعرضًا للمرض النفسي تتبلور لاحقًا في صورة إنتاج فني لبعض من هذه القلة، وهذا الإنتاج الفني غالبًا ما يعيد إنتاج المدينة بأشكال مختلفة؛ كصور فوتوغرافية وأبيات شعر وأفلام وروايات، وهكذا تبدأ صورة كل مدينة بالتشكل بشكل مختلف عبر عيون ضحاياها.
وإذ تعيد المدينة نشر هذه الصور عبر أركانها وحول العالم؛ ترتسم صورة المدينة في عيون أهلها والعالم أجمع، إذ تحقق المدينة أسطورتها الشخصية ويعرفها العالم أجمع بهذا الشكل، ويمكن أخذ مدينة كباريس في أعمال بودليير وألبير كامو الأدبية، وجان لوك جودار السينمائية كمثال براق.
أو القاهرة في أعمال نجيب محفوظ الأدبية وصلاح أبوسيف السينمائية.
يتم تشكيل صورة المدينة من معاناة هؤلاء الأفراد، وتلتفت المدينة لهذا وتفخر به كشخصيتها الفريدة، وهذا الفخر بحد ذاته يصبح كفيلًا بإغراء المزيد من الضحايا الأكثر عرضة للاغتراب والأمراض النفسية للسفر إليها بحثًا عن أسطورتهم وتجربتهم الشخصية، وتستمر الدائرة.