ترجمة وتحرير نون بوست
بدأ الربيع العربي كثورة محلية، تقودها المظالم والتطلعات والقوى المحلية، وشعار المتظاهرين حينها، الخبز والكرامة والحرية، كان شاهداً على الطبيعة المحلية التي استثارت ثورات الربيع العربي، ولكن رغم طبيعتها المحلية، تطورت ثورات الربيع العربي ليتم تحديد مصيرها إلى حد كبير من قِبل القوى الإقليمية والدولية، ويتبدا هذا الطابع في أجلى صوره في سياق الوضع السوري المعقد.
جميع اللاعبين الرئيسيين حرصوا على إيصال أصواتهم ضمن الأزمة السورية؛ ففي معظم التحليلات التي تفسر الوضع السوري، يُؤخذ بعين الاعتبار مواقف ومطالب كافة القوى الإقليمية والدولية بغض النظر عن مطالب الشعب السوري، وبشكل عام، كلما استقطب الصراع السوري المزيد من الأطراف الثالثة، كلما أولينا اهتماماً أكبر لأنشطة وتصريحات هذه الأطراف متغاضين عن الحقائق الجارية على أرض الواقع، وذلك لسبب بسيط جداً، يتمثل بأن قدراً كبيراً من الحقائق على أرض الواقع تقررها القوى الإقليمية والدولية، وهذا الواقع انعكس بشكل ملموس على الضجيج الإعلامي الذي أحاط الحشد العسكري الروسي في سورية، وتصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الأخيرة حول الأزمة السورية، التي جرى تصحيحها في الآونة الأخيرة.
في خضم حديثه إلى الصحفيين في إسطنبول، عقب زيارته لروسيا لحضور حفل افتتاح مسجد موسكو الكبير برفقة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، قال أردوغان “يمكننا القيام بالعملية بدون الأسد، أو شيء من قبيل وجود الأسد خلال الفترة الانتقالية”، وهذه التصريحات أشعلت على الفور انتباه وسائل الإعلام التركية والعالمية، وسارع المحللون والنقاد إلى استنتاج مفاده أن هذا التصريح هو بشير لتغيير سياسة تركيا “الفاشلة” في سورية، وحقيقة أن هذه التصريحات جاءت بعد لقاء أردوغان مع بوتين، وبالتزامن مع حشد روسيا العسكري في سورية، أعطت هذه الحجج والتفسيرات بعضاً من المعقولية.
ولكن لم يمض الكثير من الوقت حتى أدرك المراقبون بأن حكمهم كان متسرعاً وسابقاً لأوانه، وذلك بعد أن تدارك أردوغان الموقف وصحح كلماته، نافياً أي تغيير في سياسة أنقرة، ومصراً على أن تركيا لا ترى أي دور مستقبلي للأسد في سورية، حتى ولو كان هذا الدور انتقالياً، وموضحاً عدم حصول أي تغيير في سياسية أنقرة بهذا الصدد، ومن جهته، كان موقف رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو من الأسد واضحاً أيضاً ولا لبس فيه، حيث أكد على موقف تركيا المعارض لأي دور للأسد في مستقبل سورية.
خلال زيارته الأخيرة لبروكسل، وفي معرض حديثه حول أزمة اللاجئين، كرر أردوغان تصريحات داوود أوغلو، موضحاً بأن المعالجة الشاملة لأزمة اللاجئين، ينبغي أن تنطلق من تحقيق ثلاثة معايير أساسية، أولها توسيع برنامج تدريب وتسليح المعارضة السورية المعترف بها شرعياً، وثانياً إنشاء منطقة آمنة للفارين من نظام بشار الأسد، وأخيراً إعلان منطقة حظر للطيران.
إذن، بالمجمل، جميع هذه التصريحات العلنية، المتوافقة مع تصريحات كبار صناع القرار في أنقرة، تعكس بوضوح عدم حصول أي تغيير في موقف تركيا من الأزمة السورية؛ ففي نهاية المطاف، تركيا لا تزال تحتفظ بذات ترتيب الأولويات في سورية، فهي تريد هيكلاً موحداً لسورية بدون الأسد، وهذا يعني بأنها تعارض ظهور أي ترتيبات انفصالية إدارية ضمن الداخل السوري، سيما انفصال حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (PYD) في شمال البلاد، كما أنها تعارض تأسيس مناطق نفوذ ضمن سورية تهيمن عليها القوى الإقليمية والدولية.
التحديات التي تواجه السياسة التركية
على أرض الواقع، الأولويات التركية والواقع السوري الحالي يتناقضان بشكل حاد، فرغم كل الفظائع التي ارتكبها نظام الأسد، وجميع الخطوط الحمراء التي تجاوزها، تمكّن الأسد من التشبث بالسلطة، وإن كانت سلطته تنحصر في مناطق سورية مجتزأة، وذلك بفضل جميع أنواع المساعدات المقدمة من إيران وروسيا وحزب الله والعراق .
وللأسف، الواقع يبين بأن سورية تم تقسيمها عملياً إلى أربعة مناطق نفوذ، فالسلطة والسيادة التي يجب أن تنحصر بالحالة الطبيعية بيد جهة شرعية واحد، تتقاسمها اليوم أربع قوى رئيسية، نظام الأسد، داعش، المعارضة السورية المعتدلة، والأكراد، وضمن هذه التقسيمات تتنافس المجموعات والفصائل لتشكيل مجالات سلطتها الخاصة، وكلما طال أمد الأزمة، سيصبح تفتيت سورية احتمالاً حقيقياً، إن لم يكن قد وقع فعلاً.
وعلاوة على ذلك، يتم استخدام وحشية داعش كستار لإخفاء الوجه الحقيقي للإبادة الجماعية التي يمارسها نظام الأسد؛ فالأخير يعتبر نفسه بشكل هزلي شريكاً في مكافحة التطرف، رغم أن وجوده وممارساته تعد وصفة مؤكدة لاستمرار الكوارث ولإحداث المزيد من التطرف.
تصريحات بوتين التي تزعم بأن محاربة التطرف تتطلب استعادة سلطة الدولة السورية وسيادتها تغفل بسفور السبب الذي أدى بالمقام الأول إلى انهيار الدولة السورية؛ فالسلطوية الخانقة، انعدم الشرعية والفعالية، والطبيعة القمعية للدولة السورية، هي الأسباب التي أدت إلى تمرد الشعب ضد الحكومة في المقام الأول، وهذا الواقع لم يشهد أي تغيير عملي, بل في الواقع، أُضيف اليوم مئات الآلاف من القتلى إلى رأس هذه الأسباب، نتيجة لحملة الإبادة الجماعية التي يمارسها النظام السوري ضد شعبه، وفي هذا الصدد، دعم “الدولة” السورية بشكلها الحالي يعني استعادة نظام القبضة الحديدية المتداعي، والذي يحتاج للتعويض عن انعدام شرعيته، لإمدادات مستمرة من القوى المحاربة، ووسائل مختلفة لارتكاب المزيد من أعمال العنف.
وفي خضم جميع ذلك، تشهد تركيا إصرار المعسكر المؤيد للأسد على الاحتفاظ به كرئيس للبلاد، والأهم من ذلك الاحتفاظ بنظامه الحاكم والمصالح التي يمثلها ضمن السلطة، واليوم، أصبح خطر تحويل النظام البعثي ليشكل العمود الفقري لبنية دولة ما بعد الأسد يشكل خطراً محدقاً وملموساً.
وبالمقابل، فإن المعسكر المؤيد- صورياً- للمعارضة، وبعبارة أخرى المعسكر الذي تقوده الولايات المتحدة المؤلف من الغرب والقوى الإقليمية مثل تركيا والسعودية وقطر، مازال منقسماً على نفسه وعاجزاً حتى الآن عن التوصل إلى موقف محدد حول سورية، ناهيك عن عجزه عن إقرار خطة يدعم موقفه من خلالها بالوسائل والالتزامات اللازمة، وهذا الوضع يخفض من احتمالية تنفيذ الأولويات التركية في سورية، ويجعل قسماً كبيراً من الإستراتيجيات والخيارات التركية تعول في وجودها على مواقف وأنشطة الدول والكيانات الأخرى، وهذا بدوره يبقي الباب مفتوحاً على الدوام لإعادة تقويم السياسات الخارجية تجاه الأزمة السورية، مهما كانت هذه التقويمات غير مستساغة.
بالإضافة إلى ما تقدم، فإن الحشد العسكري والوجود الروسي على الأرض، يقلل من إمكانية خلق المنطقة الآمنة ومنطقة حظر الطيران التي طالبت بها تركيا، رغم أن ضرورة وجود هذه المنطقة لم تتضاءل؛ فعلى أرض الواقع، احتماليات تنفيذ الرغبات التركية بمواجهة روسيا هي محدودة للغاية، فنتيجة لنمو اقتصادها الذي يتلازم مع الحاجة الماسة إلى مصادر الطاقة المختلفة، تعتمد تركيا حالياً على روسيا وإيران في مجال الطاقة، وهذا يقلل بشكل ملحوظ من حيز المناورة المتاح لها في وجه روسيا بسوريا، لأن تنفيذ الرغبات التركية المتعارضة مع المصالح الروسية يضع أمن الطاقة في تركيا بمرمى خطر.
أخيراً، يمكن اعتبار تصريحات أردوغان لدى عودته من موسكو انعكاساً لتفكيره بصوت عالٍ، بدلاً من اعتبارها نتيجة لإستراتيجية مدروسة بعناية أو لخطة مجهز لها مسبقاً، وبالتالي تبقى سياسة تركيا تجاه سورية ثابتة في الوقت الراهن، وذلك على الرغم من التحديات المتزايدة التي تواجهها، وفي نهاية المطاف، فإن تراجع الحكومة التركية عن مواقفها في وجه هذه التحديات هو أمر يتوقف إلى حد كبير على نتائج الانتخابات المبكرة في تركيا في 1 نوفمبر.
المصدر: ميدل إيست آي