هل يمكن التنبؤ بالخطوة التالية للرئيس الروسي بوتين على رقعة الشطرنج؟ يحلو للكثير وصف الدخول الروسي في سورية بأنه مقامرة، ربما كان من الممكن اعتبارها مقامرة لو حدثت قبل هذه اللحظة أو ربما بعدها، ولكن وبالنظر إلى التوقيت الذي اختاره بوتين فإن الدخول إلى سورية لا يعد مغامرة بل خطوة مدروسة بإحكام، إذن ما هي الخصائص التي تمتعت بها هذه اللحظة، والتي اختارها بوتن دون غيرها، لتنفيذ خطوته الإستراتيجية المحسوبة بإحكام، والدخول الفعلي والقوي في الأزمة السورية؟
أول هذه الخصائص وربما من أهمها هو التردد الأمريكي، وبشكل شخصي تردد الرئيس الأمريكي بارك أوباما النابع من قناعته المتأصلة بأن مصلحة الولايات المتحدة تنبع بالاكتفاء بالحد الأدنى من الانخراط في أزمات الشرق الأوسط المعقدة، وعند المقارنة بين تردد القوي الأمريكي، وجرأته الأضعف منه الروسي، يصدق كلام السياسي الألماني المحنك في القرن التاسع عشر بسمارك حينما قال: “نعيش في زمن عجيب! حيث القوي ضعيف جراء تردده الوسواسي، والضعيف قوي جراء جرأته المتهورة”، وقد ترتب على التردد الأمريكي عدم وضوح إستراتيجيتها المتبعة في التوفيق بين مصالحها القومية وأهدافها الجيوإستراتيجية، وقد وفر عدم الوضوح هذا هامشًا واسعًا استطاعت روسيا النفاذ منه، والاستحواذ على الكلمة الفصل في الأزمة السورية المحورية.
ربما كان الوضوح في السياسة الأمريكية الشرق أوسطية مقتصر على مستوى الخطاب، فواشنطن ما فتئت تؤكد على عزمها القوي والشديد في محاربة تنظيم الدولة “داعش”، وضرورة رحيل الأسد، ولكنها بقيت عاجزة حتى هذه اللحظة عن تقديم إستراتيجية فعالة وواضحة لتحقيق هذه الأهداف، خصوصًا في ضوء المؤشرات التي تدل على العافية التي مازال يتمتع بها تنظيم الدولة مقارنة بخصومه على الأرض رغم الضربات الجوية للتحالف الأمريكي منذ أكثر من عام.
أما الخاصية الثانية فهي انشغال التحالف – الأمر الواقع المُكوَّن من الدول الإقليمية الداعمة للمعارضة السورية وهي تركيا والسعودية وقطر – بأزماته الداخلية والحدودية، فتركيا تعيش حالة من التأزم والقلق السياسي على وقع فشل الانتخابات البرلمانية السابقة في تكوين حكومة ائتلافية، وتجدد المواجهات العسكرية مع حزب العمال الكردستاتي الذي يمثل ذروة الخطر الإستراتيجي على الأمن القومي التركي لامتداداته الإقليمية، وقدرة الحركة الكردية على تحقيق إنجازات كبيرة على الأرض في الشمال السوري بما يشجع من النزعات الانفصالية لأكراد تركيا، في حين تنخرط السعودية ومعها قطر وأغلبية الدول الخليجية في حرب استنزاف كبيرة في اليمن، ورغم الإنجازات التي حققها التحالف العربي والمقاومة الشعبية في اليمن ضد جماعة الحوثي وقوات الرئيس المخلوع علي عبد الصالح إلا أنه مازال من المبكر جدًا الحديث عن استتباب الأمور في اليمن لصالح التحالف العربي، وعودته إلى حالة من الاستقرار بما لا يفرض تهديدًا أمنيًا على جارته الشمالية، وإذا أضيف لهذا التهديد الأمني التهديد الاقتصادي جراء استمرار تهاوي أسعار النفط فإن الصورة حول أزمة السعودية ودول الخليج تصبح شبه مكتملة، فالسعودية على سبيل المثال وضعت موازناتها المالية على أساس أن سعر برميل البترول يراوح حول الـ95 دولارًا أمريكيًا للبرميل الواحد، بينما سعره الفعلي حاليًا يترواح حول 45 دولارًا للبرميل الحالي، أي نصف ما كان متوقعًا، ولا توجد مؤشرات لتعافي أسعار النفط على المدى القريب.
على الجانب الآخر، فإن محور النظام السوري وإيران والمليشيات المسلحة الداعمه له قد أصابه التعب والارهاق، فالنظام السوري لم يعد يسيطر إلا على ربع الأراضي السورية، ويعاني من مشاكل كبيرة في الروح المعنوية لجنوده وقدرته على التعبئة، في حين تعرض حزب الله لحالة استنزاف كبيرة وأصيبت كتائب النخبة لدية بعطب كبير؛ الأمر الذي اضطر الحزب لسحبها من سورية إلى لبنان لإعادة ترميمها من جديد، أما إيران فإن دعمها الكبير للنظام السوري طيلة أربعة سنوات لم يحسم المعركة لصالحها، فتراجع النظام السوري هو في الحقيقة تراجع لها أيضًا، وإذا كانت طهران قد أثبتت قدرات كبيرة على التدخل والتأثير عبر وكلائها في الدول العربية فإنها فشلت في إثبات القدرة على السيطرة والاستمرار، فبالإضافة إلى وضعها المتأزم في سورية، فإن وكلاءها في كل من اليمن والعراق يعانون من تخبطات كبيرة على مستوى إدارة المعركة وإدامتها، وربما كانت المظاهرات الشعبية الأخيرة في العراق والتي نادت من ضمن ما نادت به بضرورة خروج الإيرانيين من العراق دليل على وهم استتباب النفوذ الإيراني في هذا البلد الذي يعتبر الساحة الرئيسية للفضاء الجيوسياسي لإيران في المنطقة.
كان واضحًا أن طريقة وحجم الدخول الروسي في الأزمة السورية يدل على أن روسيا جاءت لتتولى زمان القيادة وليس الاكتفاء بتوفير الدعم فقط كما فعلت أمريكا مع حلفائها من قبل، وبلا شك فإن ضعف محور الأسد – إيران من شأنه أن يدفع إيران إلى الخلف، وإذا صحت التقارير التي تشير إلى رفض الروس إشراك الإيرانيين في عمليات إدارة الأزمة والتخطيط لها فإنه يصبح من الواضح أن شكل العلاقة بين هذا المحور وبين روسيا لم يعد يتبع منطق المشاركة بل منطق التبعية وهو ما يضع جميع مفاتيح حل الأزمة السورية في يد الروس.
بناء على ما سبق يمكن الاستنتاج أن مصلحة روسيا في ضمان نجاح أهدافها في سورية هو باستدامة حالة الفوضى والتأزم التي يعيشها الفرقاء على الطرف الآخر، بالنسبة لروسيا على أمريكا أن تبقى مترددة وحائرة في التعاطي مع تنظيم الدولة، وهنا بات واضحًا أن الروس لا يعنيهم (في الوقت الحالي على أقل تقدير) مواجهة تنظيم الدولة إلا بالقدر الذي يدعم تبريراتهم في دخول سورية، أما السعودية فعليها أن تبقى في حالة استنزاف بسبب معاركها في اليمن، وعلى إيران أن تبقى مستنزفه بسبب توسعها غير المتناسب مع قدراتها الذاتية.
وربما لأهمية ومحورية الدور التركي في الأزمة السورية، وموقعها الجغرافي بالغ الأهمية في توجيه دفة الأزمة، فإن من مصلحة روسيا أن تبقى تركيا غارقة في أزماتها السياسية الداخلية، والمواجهة مع حزب العمال الكردستاني، وكلما زاد الاضطراب الداخلي في تركيا، كلما امتلكت روسيا هامشًا أوسع للمناورة مع أنقرة حول الأزمة السورية، وبلا شك فإن التفجير الذي وقع في أنقرة اليوم وأودى بحياة العشرات ومئات الجرحى سوف يصب في مصلحة روسيا ووكلائها في المنطقة، وبناء على ذلك فإن يتوجب على الأتراك أن يدركوا أن المخاطرة باستقرارهم الداخلي سوف يفتح أبواب جهنم على تركيا من الداخل والخارج، وأن أفضل سلاح يمكن به مجابهة هذه المخاطر هو بوضع جميع الخلافات السياسية بين الفرقاء على الرف، والاتفاق على مشروع وطني متكامل لحماية ليس فقط سيادة تركيا وأمنها بل ووحدة أراضيها.