حاول الاحتلال الإسرائيلي، مرارًا وتكرارًا في العقود الماضية محاربة الشعب الفلسطيني الساعي إلى نيل حريته وتحرير أرضه وفك أسر مقدسات المسلمين، وقد استخدم الاحتلال طرق شتى في حربه الشعواء على الشعب الفلسطيني الصامد، فقد استخدم الآلة العسكرية، والجدران الكونكريتية والاعتقالات العشوائية والتضييق الاقتصادي وسرقة الأراضي ومصادرتها وطرد العوائل الفلسطينية من منازلها ومناطقها، وكان للمقاومة الفلسطينية في غزة دورًا كبيرًا في إظهار حجم الاحتلال الحقيقي بعد عجزه عن التقدم في أراضي غزة المحررة، الأمر الذي دفع الشباب الفلسطيني لاختيار المواجهة مع الاحتلال، ولهذا أيقن الاحتلال أن عليه اليوم أن يستخدم سلاحه السري خصوصًا مع انتفاضة عشرات الآلاف من الفلسطينين في القدس والضفة الغربية ومناطق الداخل الفلسطيني، وهذا السلاح كان وحدات المستعربين.
من هم “المستعربون”؟
المستعربون، أو “المستعرفيم” بالعبرية، هي وحدة خاصة في جيش الاحتلال الإسرائيلي لها جنرالاتها، وهي مدرَّبة تدريبًا عاليًا وقاسيًا جدًا، وتشكلت بعد اندلاع الانتفاضة الأولى عام 1987م من نخبة القوات الصهيونية، يُختلف فيهم الرأي أمن أصول عربية أم يهودية (شرقية)، و لا فرق، يتم اختيارهم بملامح شرقية. يلبسون لبس الشباب الفلسطيني المقاوم وينخرطون وسطهم في المواجهات وفجأة يستفردون بهم ويقتادوهم للاعتقال، وهم مدربون ويتكلمون العربية واللهجة الفلسطينية المحلية بطلاقة، والأدهى أنهم يدخلون الضفة الغربية بلباس عربي مدني.
وأنشأ جيش الاحتلال معهدًا خاصًا لتدريب وتأهيل المستعربين يقع في معسكر (أدام) الواقع شمال طريق القدس ـ تل أبيب، ولكنه معهد غير تقليدي، فهو قرية صناعية تحاكي قرية فلسطينية بكل تفاصيلها الدقيقة ويعيش فيها المستعربون كل تفاصيل الحياة الفلسطينية حتى أنهم يؤدون الصلوات ويقرأون القرآن.
وما يسمح به لجنود الاحتلال لا يسمح به لوحدات المستعربين، فيحظر عليهم توسيع علاقاتهم الاجتماعية، واستخدام مواقع التواصل الاجتماعي.
ويرى الكاتب الفلسطيني محمد الهديب: أن “المأساة الإنسانية الأعمق فتتمثل في زواج المستعربين من فلسطينيات وتكوين أسر وإنجاب أطفال، كان مؤسس وحدة المستعربين الأوائل صموئيل موريا الشهير باسم “سامي موريا” هو من رعى عام 1953 فكرة الاستقرار في قرى عربية فلسطينية بهدف التجسس، ومن ذلك يلفق المستعرب حكاية تجعل أهل القرية يحتضنونه باعتباره أحد أبناء القرى البعيدة، أو عربيًا ضلّ طريقه، ولكن ما يحدث دائمًا أن مهمته ليست أبدية، وسيأتي قرار وظيفي بالاستدعاء، فلا يعود هناك مجال أمام المستعرب سوى كشف هويته لزوجته وأبنائه.
دور المستعربين في ثورات الشعب الفلسطيني
عن دور المستعربين في انتفاضتي 1987 و2000، يقول الصحفي موتي كريشنباوم إن السبب في إقامة تلك الوحدات “أنهم جربوا كل الوسائل والطرق لإيقاف الانتفاضة وإخمادها، جربوا ألف طريقة لإخماد الانتفاضة”، مشيرًا إلى أن الطريقة الوحيدة للسماح للجندي الإسرائيلي بالدخول إلى الشارع الفلسطيني دون تمييزه مباشرة كانت التنكر بهيئة فلسطينيين.
وقد نشر الصحفي الإسرائيلي يوسي ميلمان تقريرًا في جريدة هآرتس عام 1998، يتحدث عن أول وحدة مستعربين اندمج أفرادها في الوسط العربي الفلسطيني حتى وصل الأمر إلى الزواج من فلسطينيات، الأمر الذي يقول ميلمان إن السلطات الأمنية أخفته لمدة أربعين عامًا.
يقول الكاتب الفلسطيني محمد هديب: “في بداية خمسينيات القرن المنصرم اقترح بن غوريون (أول رئيس وزراء لإسرائيل بعد نكبة 1948) الغطاء الاجتماعي للمستعربين، وكان المقصود بذلك أن تتعمق مهمة المستعرب الإسرائيلي بحيث يصبح جزءًا من المجتمع الفلسطيني، وتأهيل المستعرب يتطلب عملاً طويل المدى وتدريبات تمتد إلى سنة كاملة، منها ثلاثة أشهر يرسل فيها الأفراد للاختلاط بسكان التجمعات العربية، وفي المهام الميدانية يكفي أن يرتدي الجنود الشعر الاصطناعي وتمثيل دور عجائز بعكازات، وارتداء أزياء تجار فلسطينيين أو ثياب فضفاضة لإخفاء الأسلحة، وتغطية الوجه بلثام يمنع كشف ملامحه، تنتهي المهمة مع نصب كمين للمقاوم الفلسطيني وإلقاء القبض عليه بسرعة وتسليمه لقوات الأمن أو اغتياله والانسحاب”.
كيفية إخفاء المسدسات لدى المستعربين
“نكسة المستعربين”
في لقاء أجراه موقع “واللا” العبري مع قائد وحدة المستعربين الصهيونية الخاصة والأكثر سرية فيها “الدوفدفان” الملقب “ي”، فإن أكثر ما يخشاه الأخير هو النيران الصديقة أو عملية خطف مستعرب أثناء أدائه لمهمته.
وتحدث “ي” عن أهم إنجازات وانتكاسات هذه الوحدة وسلط الضوء على طبيعة عملها السري، واعتبر أن أكبر كارثة حلت بالوحدة كانت خلال شهر سبتمبر من العام 2000 حين تورطت قواته بكمين مزدوج نصبته في الضفة في حينها قائد كتائب القسام في الضفة محمود أبو هنود في بلدة عصيرة الشمالية قرب نابلس، واشتبكت مع بعضها البعض عن طريق الخطأ الأمر الذي أودى بحياة ثلاثة جنود من خيرة مقاتلي الوحدة، على حد تعبيره.
ويشير “ي” إلى إقالة قائد الوحدة في حينها من منصبه في أعقاب الإخفاق الكبير في القبض على أبو هنود أولا والمسؤولية عن مقتل الجنود ثانيًا في عملية وصفت بالأفشل في تاريخ الوحدة.
رغم كل ما يقوم الاحتلال الإسرائيلي ورغم استخدامه أشد أسلحته فتكًا وهو “وحدة المستعربين” إلا أن انتفاضة الشعب الفلسطيني ماضية في طريقها، ورغم أن اكتشاف هؤلاء المستعربين أمر شديد الصعوبة؛ حيث إن لديهم هويات فلسطينية مزيفة، ويستخدمون السيارات العربية، ويجيدون الحديث باللهجة الفلسطيني، إلا أن الشباب الفلسطيني قد اتخذ قراره بنصرة المسجد الأقصى وتحرير أرضه من دنس العدو المحتل، وكما علمنا التاريخ فالأرض تقاتل دائمًا مع أصحابها.