تسير الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط نحو مزيد من الأزمات المقلقة لمصالح الدول الإقليمية الكبرى، وهو ما يطرح ملف تحسين العلاقات بين هذه الدول، والحصول على مكاسب جيدة؛ من أهمها: استقرار الأنظمة وضمان مصالحها الحيوية.
ولعل هذه الورقة تسعى إلى كشف مستقبل العلاقة بين إيران ومصر، وهي العلاقة التي لم تحقق استقرارًا ملحوظًا في تاريخ القوتين الإقليميتين؛ فبعد الثورة الإيرانية سنة 1979، وهو العام الذي وقَّعت فيه مصر معاهدة السلام مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، بات التوتر عنوانًا للعلاقات بين البلدين التي لم تزد في حدتها ولم تؤل إلى الدفء والتقارب.
وما يبدو الآن هو أن شكل أولويات القوة الإيرانية الحالية وضرورات النظام المصري الحاكم قد تسمح بحدوث تطور في العلاقات بين البلدين، فإيران تستشعر دورًا إقليميًا فاعلًا، خصوصًا بعد إبرام الاتفاق النووي مع الغرب، ومن ثَم الذود عن مصالحها التي تحيط بحلفائها في سوريا ولبنان واليمن، أما مصر فاستقرار الوضع الداخلي أمنيًا واقتصاديًا يعد هاجسًا حقيقيًا قد يدفعها نحو العمل مع من يحقق لها ترميم المشاكل التي لم يجد لها النظام حلًا، حيث يمكن قراءة تلك التحركات المصرية في التقارب نحو روسيا، والصورة التي تظهر بها إيران وحلفاؤها في الآلة الإعلامية المصرية في شكل دولة آمنة الجانب.
وبناء عليه؛ ما هي إمكانية التقارب الإيراني المصري؟ وما أبرز التحديات أمام البلدين التي قد تعيق تحسين العلاقات وتسبب إبقاءها على سابق عهدها؟
دوافع التقارب
محاربة الإرهاب لعبة الجميع:
باتت إيران دولة ذات نفوذ إقليمي وحضور أقوى في المنطقة العربية، وهو ما يدفع بالمسؤولين الإيرانيين للتعبير عن ضرورة الوجود الإيراني في السعي نحو الاستقرار والسلام في المنطقة، فتصريح سفير إيران السابق في سلطنة عمان – حسب ما نقلته صحيفة اعتماد الإيرانية في 18 أغسطس – بقوله: “إن أمريكا تحتاج مساندة ومساعدة إيران في تحقيق آمال شعوب المنطقة وحل أوضاع الشرق الأوسط”، يأتي في ظل المخاوف المستمرة من قِبل منافسيها، خاصة دول الخليج، من تزايد السطوة الإيرانية والنفوذ الناعم في بقاع جديدة من الجسد العربي؛ لهذا تدرك إيران أن عليها الاستمرار في دعم مكاسبها السياسية في المنطقة، التي تحققت عبر حكومات موالية لها، ومنها النظام السوري الذي يعيش معضلة المواجهة وإمكانية السقوط، وهو ما يجعل إيران تلقي بكل ثقلها السياسي والعسكري في محاولة إبقاء بشار على رأس المؤسسة السياسية في سوريا، ولكي يبقى الحل السياسي الذي يعطي النظام السوري أمل البقاء قائمًا، وربما ممكنًا في المستقبل، كان من المهم دعم هذا الخيار من خلال التضخيم لخطر الإرهاب القائم في سوريا؛ عبر الدعم السياسي والعسكري من الحليف الروسي، ويعطينا هذا الترويج المستمر تفسيرًا للخطاب الذي يدلي به النظام المصري الحالي من أن حل الأزمة السورية لا يأتي إلا عبر الحل السياسي وإشراك رئيس النظام السوري بشار في طاولة المفاوضات ومواجهة الإرهاب في سوريا، وهو ما أكده السيسي لدى لقائه بعلي مملوك، رئيس مكتب الأمن القومي السوري، في القاهرة، الشهر الماضي؛ ما يحمل مؤشرًا على أن قبول دولة عربية كمصر بحل سياسي يبقي الأسد سيؤثر في مسار الملف السوري ويسبب ارتباكًا كبيرًا في الصف العربي المنادي برحيل بشار، ويمثل مكسبًا إيرانيًا ستحاول المحافظة عليه مستقبلًا.
تتزامن دعوة السيسي بمواجهة الإرهاب في سوريا مع دعوة هي الأخرى مثلت دعمًا سياسيًا نحو تصديق مزاعم الإرهاب في مصر، حيث صرح مساعد وزير الخارجية الإيراني للشؤون العربية والأفريقية، حسين أمير عبد اللهيان، أن الجمهورية الإيرانية تعتبر أمن واستقرار مصر كأنه أمنها الخاص، كما تعتبر التطرف والإرهاب خطًا أحمر، وأضاف أن بلاده ترحب بتطور العلاقات مع مصر؛ لما لها من ثقل تاريخي وحضاري وسياسي في المنطقة، وتأتي هذه التصريحات في الوقت الذي تشعر فيه مصر بحاجة إلى الدعم السياسي الخارجي لإبقاء ملف الإرهاب كظاهرة عالمية تتحمل مصر جزءًا من مواجهتها.
الملف الاقتصادي
في بداية شهر سبتمبر كشف العضو المنتدب لبنك مصر إيران للتنمية، عن إعادة هيكلة محفظة الودائع لدى مصرفه من خلال إطلاق الشهادة الدولارية لجذب السيولة بالعملة الصعبة، وهو ما يمكّن البنك من الوصول إلى ودائع بحجم 10 مليارات جنيه نهاية العالم الحالي، ولهذا فإن حاجة كلا البلدين إلى انتعاش اقتصاديهما قد يدفعهما إلى رفع حجم التبادل التجاري، في الوقت الذي أكد فيه وزير النفط السابق الذي يرأس الحكومة المصرية الجديدة، قبل حوالي شهرين، في تصريحات لجريدة الأهرام أنه لا مانع من استيراد النفط الخام الإيراني، وأن مصر تأمل في إعادة تشغيل خط النفط سوميد الذي تعطل نتيجة الحظر الاقتصادي على إيران.
لذا تشهد إيران بعد خروجها من الحصار الذي فرض عليها قبل تسوية الملف النووي، فرصة حقيقية لنمو اقتصادي وانفتاح للسوق الإيرانية نحو الأسواق الإقليمية والعالمية، أما النظام المصري فلا يزال يتعثر في قضايا البطالة وارتفاع معدلات الفقر وضعف الاستثمار، ومن ثم فقد تجد إيران في الاقتصاد المصري مناخًا استثماريًا وسوقًا لنفطها الخام.
وبينما تتوالى دعوات مصر لتشجيع الرحلات السياحية الإيرانية لدعم اقتصادها، يبقى الوضع الأمني داخل مصر يمثل تخوفًا حقيقيًا في وجه السياحة الخارجية.
مواجهة تركيا هدف موحد
أصبحت تركيا تشكل عائقًا كبيرًا أمام أبرز القضايا التي تحملها كل من إيران ومصر في الوقت الراهن، ذلك أن تركيا تمثل ركنًا رئيسًا في الفريق المنادي برحيل الأسد في سوريا، وهو ما يجعل في حدوثه خطرًا داهمًا على مصالح إيران وحليفها الإستراتيجي في المنطقة، وبينما ترمي بكامل قوتها للحيلولة دون سقوطه، فإن تركيا تختلف وبشدة مع هذا الطرح الإيراني، فلا مكان للأسد في مستقبل سوريا من وجهة نظرها، ومن المؤكد أن النظام المصري هو بدوره لا يرى تركيا ورئيسها أردوغان سوى أعداء ومتآمرين ضد مصالح الشعب المصري، فالرئيس التركي أعلن وقوفه ضد انقلاب الجنرال السيسي قبل عامين، موجهًا بشكل دائم رسائل تبدو غاضبة، ومشددًا على ضرورة عودة الشرعية المنتخبة، بالإضافة إلى أن عددًا من قيادات جماعة الإخوان في مصر قد استقرت في تركيا وأسست مؤسسات مدنية إعلامية شكلت مع الوقت صداعًا مزمنًا لسلطة السيسي، وهو ما يجعل النظام في مصر يترقب الفرصة التي يرد من خلالها على الحكومة في تركيا، وهذا ما برز في حوار السياسيين المصريين مع علي مملوك خلال زيارته لمصر؛ من أن مصر وسوريا تواجهان عدوًا مشتركًا يتمثل في جماعة الإخوان المسلمين، وضمنًا تركيا التي تشكل خطرًا على مصر أكثر مما تشكله على سوريا، على حد قول وكالة فارس الإيرانية التي نشرت هذا الخبر.
ويبدو أن طرح الحل السياسي الذي يجعل الأسد طرفًا في معادلة حل الأزمة السورية كما يراه الإيرانيون وتتقاسم الدفاع عنه مع روسيا، قد يغري وبشدة الطرف المصري؛ لكون هذا الخيار يمثل ضغطًا سياسيًا على تركيا المتضررة من استمرار نظام بشار الأسد.
التحديات
عاصفة الحزم وبرهان الموقف المصري
جاءت مواجهة السعودية للانقلاب الحوثي أولى المحاولات العربية المباشرة في وجه التمدد الإيراني، هذا التمدد الذي تحول إلى عدو يهدد استقرار عدد من الحكومات العربية، ومنها على وجه الخصوص دول الخليج العربي.
فالسعودية التي بادلت إيران التفوق السياسي في المنطقة عبر القوة الاقتصادية والجغرافيا الإستراتيجية والنفوذ السياسي، باتت المواجهة والصراع بينها وبين إيران حقيقة مفروضة في اليمن وسوريا سياسيًا وعسكريًا، لذلك ومنذ انطلاق عملية عاصفة الحزم في اليمن جاهدت السعودية لجمع الشتات العربي وتوحيد الجبهة السياسية ضد الحوثي ومن خلفه إيران، كي تتحقق أهداف الحملة العسكرية، التي تمهد لقوة عربية لصد الطغيان الإيراني في المنطقة.
ومن هنا، فالعلاقة المصرية السعودية بعد انقلاب السيسي عبرت عن موقف سعودي داعم للنظام الحاكم في مصر اقتصاديًا وسياسيًا، حيث تؤكد التقارير أن الدعم السعودي لحكم السيسي تجاوز عشرات المليارات من الدولارات، وهو ما جعل لغة الامتنان المصرية لدول الخليج الداعمة تظهر في أكثر من خطاب للجنرال السيسي، إلا أن وضعًا متذبذبًا يظهر من خلال تصريحات مسؤولين مصريين متعاطفة مع الحكومة في السعودية، ولغة الإعلام المصري المناقضة لذلك، فمنذ انقلاب الجنرال السيسي وحالة السخط والتهجم وكيل التهم على النظام في المملكة لم تتوقف إعلاميًا، كان آخرها ما كتبه رئيس تحرير جريدة الأهرام في مقال له في الحادي عشر من سبتمبر الماضي، حيث وصف المبادرة التي تطالب بتنحية بشار بالخبيثة، تعليقًا على زيارة الملك سلمان الأخيرة لأمريكا، وهو ما يؤكد أن النظام الحالي في مصر، عبر التطاول الإعلامي المستمر على المملكة وسياستها، يسعى بلا شك لإرضاء أطراف مناهضة للحكومة في السعودية؛ في محاولته الحفاظ على خطوط اتصال مع أطراف إقليمية متعددة عبر تجييش الإعلام تارة، والتعبير بلغة دبلوماسية هادئة ومسالمة تارة أخرى.
كل ذلك يشير إلى أن التقارب الإيراني المصري قد يصطدم بعقبة الرافضين والمتضررين من النفوذ الإيراني، وفي مقدمتهم المملكة التي تواصل دعمها للنظام المصري، ففي السادس من شهر سبتمبر نشرت صحيفة المصري اليوم خبر مساعدات سعودية جديدة لمصر قدرت بثلاثة مليارات دولار، وعليه؛ فالمملكة تعتبر مصر طرفًا مهمًا في معادلة المواجهة ضد الأخطار المحتملة في المنطقة.
القضية الفلسطينية ودعم المقاومة
مع ما تمثله القضية الفلسطينية من أثر على مصر الجارة، وعلى إيران التي تزعم تبنيها خطًا إستراتيجيًا داعمًا للمقاومة الفلسطينية، إلا أن الملف الفلسطيني يزداد أهمية للجانبين، فمصر الحالية حققت حالة من الرضا الواسع داخل الكيان الصهيوني عبر انتهاجها حربًا ضروسًا ضد تيار الإسلام السياسي المتمثل في جماعة الإخوان المسلمين، فتم إسقاط الرئيس مرسي، وفرقت الجماعة بين السجون والمنفى، حتى أن الأمر استمر ليطال المقاومة في غزة وحماس، إذ اتهمت الحركة بالإرهاب ودعم عمليات ضد الجيش المصري، إلى جانب الحصار المشدد على القطاع، ومع استمرار إيران في خيارها الداعم للمقاومة، والتلويح دائمًا بعدائها لإسرائيل، تركز مصر على شيطنة المقاومة ومحاولة النيل منها، وهو ما يجعل القضية الفلسطينية حاضرة أمام أي تغير في العلاقات المصرية الإيرانية.
مستقبل العلاقات
عند الحديث عن تغير في العلاقات بين إيران ومصر بعد فترة طويلة من الفتور والتوتر، يفرض الحذر نفسه حول التحرك نحو إقامة علاقات جديدة بين البلدين، لكن ما يبدو هو أن إيران مع خروجها من العزلة الدولية بعد الاتفاق النووي، ستمضي نحو مزيد من التحرك الدبلوماسي والسياسي في المنطقة خدمة لأهدافها، وكذلك مصر التي قد تسعى لفك الخناق الداخلي من المشاكل المستمرة عبر علاقات جديدة مع قوى فاعلة إقليميًا.
وما يمكن أن نطرحه لمستقبل العلاقات بين البلدين كالتالي:
السيناريو الأول:
سيناريو التقارب الذي يستمر فيه التواصل، وتظهر فيه تصريحات الطمأنة من كلا الجانبين، وقد يصاحب ذلك مزيدًا من الزيارات ينتج عنها تعاون اقتصادي واتجاه نحو مقاربة في المواقف السياسية، خاصة فيما يتعلق بالوضع في سوريا ومكافحة الإرهاب والموقف من تيار الإسلام السياسي، وهو ما قد يدفع دول الخليج المناهضة للمشروع الإيراني لمحاولة احتواء النظام الحاكم في مصر من جديد، ومن ثم يستطيع النظام المصري أن يلعب على وتر الاقتراب والابتعاد من الندين؛ الخليج وإيران، والحصول على أكبر المكاسب من جراء هذه اللعبة.
السيناريو الثاني:
وهو سيناريو عدم التقارب ووقوف النظام المصري إلى جانب الصف العربي الرافض لسياسات طهران، والابتعاد عن المواجهة وإشهار العداء بين البلدين، والاكتفاء ربما بخيط من العلاقات التجارية فقط، كما هو الحال مع بعض دول المنطقة، ومن ثم ستحرص السعودية على وجه الخصوص على السعي لإقامة عزلة سياسية بين إيران والدول العربية التي لم تتخذ موقفًا واضحًا مستنكرًا لسياسات إيران في المنطقة.
المصدر: مركز صناعة الفكر للدراسات والأبحاث