كيف ترى التقديرات الأكاديمية الانتفاضة الثالثة؟

على التوازي مع اندلاع واستعار الغضب الشعبي في فلسطين واستمرار عمليات المقاومة الشعبية ضد الاحتلال الإسرائيلي، يبدو أن الجهد الأكاديمي العربي لفهم الوضع في فلسطين آخذ أيضًا في النمو، ويتبلور هذا الجهد تحديدًا في تقدير للموقف قام المعهد العربي للأبحاث ودراسة السياسات بالدوحة (تحت إدارة الدكتور عزمي بشارة) بنشره؛ وتبع هذا تقدير آخر قامت دائرة سليمان للدراسات الاستعمارية والتحرر المعرفي بنشره.
وتم نشر تقدير دائرة سليمان الحلبي بعد يومين من نشر تقدير المركز العربي، وهو في واقع
الأمر يمكن وصفه أيضًا برد أكاديمي/ ثوري على تقدير المركز. وبينما ينطلق التقديران من اندلاع المواجهات في القدس والضفة؛ إلا أن الطريق المسلوك لتحليل الواقع وطرح التوصيات يختلف تمامًا في الحالتين.
يمكن وصف تقدير المركز العربي (والذي امتاز بضآلة الحجم نسبيًا) بكونه تحليل مباشر ومختصر للواقع السياسي تحديدًا، إذ ينطلق التحليل من زعم أساسي وهو: “انسداد الأفق السياسي في فلسطين”، ويندرج هذا التحليل أكاديميًا تحت بند التحليلات البراغماتية، ومعنى الكلمة هنا يختلف عن المتعارف عليه ليعني تحليلًا يعترف بموقعه داخل الواقع ولا يحاول تخطيه.
يبدأ التقدير بالتأكيد على واقع الانقسام السياسي في فلسطين بين السلطتين في الضفة وغزة؛ فبالرغم من توقيع اتفاقية المصالحة عام 2014 لم تتبلور هذه الاتفاقية في الواقع بأي شكل، كما أن التزام السلطة الفلسطينية الحالية بالاتفاقات المتعددة مع الجانب الإسرائيلي (والتي لا يتم تنفيذها من الجانب الإسرائيلي أصلًا) يمنع السلطة من اتخاذ أي خطوات وتصعيدات خارجها.
إذ تتلاقي مصالح السلطة في الضفة بشكل مباشر مع استمرار العلاقة الحالية مع حكومة الاحتلال، كما أن ممارسة السلطة الفلسطينية للنيابة والتنسيق الأمنيين مع الاحتلال توضح قيمة دور الوساطة الذي تلعبه السلطة في الحفاظ عليها واستمرارها، وبالتالي يخلص التقرير إلى أن دعم السلطة لانتفاضة حقيقية ثالثة هو شيء غير محتمل بغض النظر عن بعض “التصعيد الكلامي”
كما أشار التقدير إلى أن جزء كبير من أصل المشكلة هو ما أطلق عليه الكاتب “انفلات المستوطنين”، ويقصد بذلك اعتداءات المستوطنين المستمرة على الفلسطينيين وممتلكاتهم وحتى المسجد الأقصى، وردًا على هذا كانت ما أطلق عليه الكاتب أيضًا “المقاومة الفردية” أو مصطلح “الذئاب المنفردة” وفقًا لدراسات الأمن القومي الإسرائيلية، وهو الذي أكدت طريقة كتابة التقدير على كونه فعل “فردي”؛ وأنه يحدث خارج إطار سيطرة السلطة الفلسطينية.
وقد حصر التقدير مسارات الحركة الممكنة في حالة توسع الهبة لتشمل فلسطين ككل خيارين لا ثالث لهما: وهو تبني السلطة الفلسطينية للهبة ودعمها لها في محاولة للوصول لموقف تفاوضي أفضل كما حدث عام 2000، أو عدم تبنيها حفاظًا على الوضع القائم ومصالح السلطة مع إسرائيل.
أما في حالة عدم توسع الهبة فإنها سيتبعها حالة من القمع من قِبل الذراع الأمني للسلطة وقوات الاحتلال، وغالبًا سيتبع ذلك قدر من استمرار “الأعمال الفردية” في صورتها الحالية.
تقدير دائرة سليمان الحلبي
يأتي تقدير الدائرة حاملًا قدرًا كبيرًا من الرد على تقدير المركز، ويتضح فيه رفض كبير لعدد من النقاط المطروحة، وأول هذه النقاط هو مفهوم انسداد الأفق السياسي في فلسطين، إذ لا ترى الدائرة في أشكال المقاومة الجديدة ردًا على انسداد، وإنما تحور في أفعال وأشكال المقاومة بما يناسب واقع موجود على الأرض، ويستدل على ذلك أن الاحتلال كان ومازال حريصًا على عدم سد أفق الممارسات السياسية بتوفير مساحات ما للعمل السياسي، كوسيلة لامتصاص ردود الفعل ذات الأشكال المختلفة والأكثر واقعية.
كما يؤكد التقدير على عدم إمكانية الحديث عن السلطة الفلسطينية ككلية واحدة، وإنما أجنحة كجناحي عباس ودحلان، وأن واقع الصراع بين هذه الأجنحة يتبلور في سياسات تتراوح بين المتاجرة شفهيًا بالمقاومة (عباس)، أو العمل على تقويض أسسها الاجتماعية رغبة في الحصول على ثقة الاحتلال في دور الوساطة القذرة.
كما رفضت الدائرة الحديث عن عمليات الطعن وما يشابهها كـ “عمليات فردية” بشكل قطعي، إذ ترى أنها تحور جديد لممارسة المقاومة، وأنها تأتي كجزء أصيل من سياق اجتماعي رافض لوجود الاحتلال.
ويظهر هذا في تقرير واضح ومفصل للدائرة ينم عن فهم للممارسات والسياسات الاجتماعية والعمرانية للاحتلال داخل فلسطين، وتستدل الدائرة بذلك على كون هذه العمليات تطور وتغير في شكل المقاومة بما يناسب الواقع، وهو فهم قصر جدًا في تقدير المركز العربي.
كما تحدثت الدائرة عن موقع قطاع غزة من الصراع الحادث، وهو الحديث الذي غاب تمامًا عن تقدير المركز، إذ ترى الدائرة غزة حبيسة لواقع إستراتيجي ودولي ناتج عن حصارها أولًا، وعن كونها مساحة معزولة تمثل نقطة حدودية مع العدو لا نقطة اختلاط كالقدس وأراضي 48.
وأنهت الدائرة تقديرها مشيرة إلى أن احتمالية نشوء انتفاضة شعبية شاملة في مثل هذه الظروف هي احتمالية ضئيلة للغاية، إلا أن هذا ليس شيئًا سيئًا في حد ذاته، وإنما فرصة كبيرة لتطوير واستمرار المواجهة مع كل من الاحتلال وعملائه في السلطة.
وأتبعت ذلك بتوصية رئيسية هي الحفاظ على أفقية ولامركزية الحراك، لأن مثل هذا الشكل يسمح بتوسع أكبر وتغلغل مجتمعي، وهذا التغلغل مفيد جدًا فيما وصفته الدائرة بالمعركة الأساسية، وهي معركة تجذير الرفض للوضع السياسي القائم وتحالف السلطة مع الاحتلال ونقل المقاومة من الأدبيات والمخيلة الشعبية لنطاق الممارسات اليومية.