لم يكن متوقعًا من الدولة التي نادت بترجيح كفة التسوية السياسية أن تتورط عسكريًا وبشكل مباشر وعلني في سوريا تحت أي مسمى سواء الدعم الصريح للنظام السوري أو ضد الدولة الإسلامية بهذا الشكل الذي سيترتب عنه استمرار العمليات العسكرية مدة طويلة قدرها بعض الخبراء بالأشهر قبل أن تتضح نتائجها في الميدان.
لكن يبدو أن حالة الفراغ التي خلقها التراجع الأمريكي على مستوى الأزمة السورية كان دافعًا لتتقدم روسيا مظهرة نفسها كقوة كبرى قادرة على تغيير التوازنات والمعادلات السياسية، هذا إضافة إلى ظروف أخرى تتعلق بشكل أساسي بتعديل مستوى النفوذ الإيراني بعد إبرامها الاتفاق النووي مع الغرب، كما من المتوقع أن يؤدي الدور الجديد الذي تلعبه روسيا في سوريا إلى تحسين موقعها التفاوضي في عدد من الملفات مثل العقوبات الدولية المفروضة عليها.
هذا إضافة إلى الاهتمام الروسي بالحفاظ على الجيش النظامي السوري والمؤسسات متماسكة كونها تستند على نخب ستحفظ المصالح الروسية وترعاها، حيث إن روسيا اصبحت مدركة أن التقهقر الذي بات يعاني منه النظام سيؤثر بشكل مباشر على وضع المؤسسات السيادية، حيث يعد سيناريو التفكك والانحلال هو الأسوأ بالنسبة لروسيا في حين لو ثبت أنه لا يمكن الحفاظ على الوحدة الترابية لسوريا فستعمل على التكيف مع وضع بناء دويلة قادرة على البقاء في منطقة نفوذ النظام أين يوجد حلفاؤه على الساحل.
وقد كان هذا الموضوع هو الخلفية للاتفاق والتنسيق الروسي الإسرائيلي، فإسرائيل أيضًا تخشى من انهيار النظام بمجمله وليس رحيل الأسد فقط، الذي إن حدث سيؤدي إلى حالة من الفوضى ستنعكس سلبًا على الوضع الإسرائيلي، كل هذه الأمور التي تم عرضها تكاد تكون موضع اتفاق بين المحللين والمهتمين بالأزمة السورية، لكن الأمر الذي يلاقي ردود فعل مختلفة هو الموقف من التدخل الروسي.
حيث نجد أربع فئات رئيسية متعاطفة مع التدخل الروسي لأسباب مختلفة سواء التأييد للنظام الأسدي ومحور الممانعة، أو التأييد انطلاقًا من الاعتبارات الطائفية، أو خريجو مدرسة الحرب الباردة الذين يرون أن بوتين ذا شخصية قوية سيعيد لروسيا رونقها ومكانتها، وهناك المعجبون بهذا الموقف القوي لروسيا بشكله البراغماتي دون أدلجة أو تحميل الموقف أكثر مما يحتمل، في الوقت الذي توجد فيه فئات تعارض التدخل، لكن سأهتم هنا بمناقشة آراء المؤيدين وحججهم في ذلك.
دحض حجج هؤلاء من الناحية السياسية سيكون أمرًا صعبًا؛ فروسيا استردت زمام المبادرة واتخذت قرارًا من الممكن أن تكون تكلفته عالية وحجم المخاطرة به مرتفع بما يوحي بجسارة، وهي بالفعل حركة رابحة من قِبل روسيا بسبب التوقيت الذي يعاني فيه الغرب من انقسام حاد تجاه ما يحدث في روسيا، إذا اطلعنا على المواقف الأوروبية سيتضح تمامًا حجم التباين من دولة إلى أخرى، إضافة إلى التردد الأمريكي وحالة التخبط الداخلي بسبب صراع المؤسسات؛ فما بين وزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي يمكن أن نلاحظ أنه لا يوجد اتفاق حول ما يجب أن تقوم به الولايات المتحدة الأمريكية لحل المعضلة السورية.
إضافة إلى عدم قدرة الغرب الغاضب من التدخل الروسي على القيام بأي إجراء من شأنه إيقاف روسيا عما تفعله خاصة في ظل تذرعها بأن تدخلها يهدف لقتال الدولة الإسلامية، سوى التنديد والإدانة، كما أن العائد من الواضح سيكون لصالح روسيا وحلفائها، السؤال المطروح هنا هو ماذا عن الموقف الأخلاقي وماذا عن المدنيين ضحايا الحروب الذين يسقطون مع امتداد عمر الصراع؟ هل يمكننا إهمال أن التدخل الروسي المباشر من أهم آثاره أنه سيؤدي إلى تعقيد الصراع وإطالة أمده، وربما إلى تفتيت سوريا.
وقد يرى البعض أن روسيا تقوم بالدفاع عن مصالحها وهو ما تقوم به الدول الكبرى الأخرى، ومن ثم فالأمر هنا في حدود المقبول، لكن من قال إن ما تقوم به الدول الأخرى من تدخل خارجي أمر مستساغ، خاصة بالنسبة لأولئك الذين لم يؤيدوا الضربة الأمريكية ضد النظام السوري بعد استخدامه للأسلحة الكيميائية في الغوطة، كيف ينقلب الموقف مع روسيا اليوم، ولا يمكن أن يبرر هذا الموقف بحجة أن التدخل إلى جانب النظام “شرعي” في حين أن التدخل ضده غير ذلك، فالتدخل مع أي طرف متورط في حرب أهلية بشكل مباشر يعتبر مشاركة في هذه الحرب وتوسيعًا لنطاقها عندما يكون هذا التدخل خارج الأطر المؤسسية الدولية.
الأسوأ من التبرير هو وضع غطاء مقدس لحرب طاحنة يُقضى فيها على الأبرياء، فقد انتشر في مواقع التواصل الاجتماعي ضمن الطائفة الشيعية من يدلل على أن بوتين من سلالة محارب نصراني قاتل مع الحسين في كربلاء ضد جيش يزيد سنة 61 للهجرة، وهو ما يزيد من تعميق البعد الطائفي للصراع في سوريا أكثر وأكثر، فبعد التدخل الإيراني لا تزال المحنة قائمة؛ فهناك من يعتبر أن الحرب هي حرب طائفية بين الشيعة والسنة، فأنصار الجماعات المتطرفة مثل القاعدة والدولة الإسلامية أصبحوا يسمون أنفسهم “أسود السنة” وخطابهم الطائفي ازداد حدة بعد التدخل الروسي ومن المتوقع أن يزداد عدد المنضمين إليهم بعد الترويج لدعاية أن ما يحدث حرب مقدسة.
الأمر الآخر يتعلق بتجاهل من كان يحسب بتعاطفه مع محور الممانعة فكرة التنسيق الروسي الإسرائيلي، وكأنها لم تحدث، أليس هذا الأمر مؤشرًا سيئًا للغاية على دولة كانت تحسب من المتعاطفين مع الحقوق الفلسطينية أن تمد يدها نحو إسرائيل لا إلى أي دولة أخرى، إذ يبدو أن ذلك شديد الدلالة فالتنسيق تم مع دول إقليمية: أولاً إسرائيل ثم إيران، في حين أن العرب لا محل لهم من الإعراب في الأزمة السورية في نظر روسيا.
يبقى في الأخير ورثة عقلية الحرب الباردة الذين لا يدركون أن روسيا تغيرت والعالم تغير، فروسيا اليوم لا تسعى إلى إزاحة الغرب بل تعمل على التفاوض معه، كما أن روسيا لم تعد حامية المبادئ الاشتراكية التي كانت تمنحها أرضية أخلاقية؛ ففي الزمن الذي مضى كانت تروج لنفسها على أساس أنها دولة ثورية، أما في هذه الفترة فهي دولة مجردة من الأيدولوجيا كل ما تملكه هو صناعة الأسلحة التي أصبحت تؤثر على اتجاهات سياساتها الخارجية.
في الواقع روسيا التي كانت تنأى بنفسها عن الصراعات، كانت أفضل حالاً منها الآن.