بدأت رحلتي مع ماردين المدينة الواقعة في جنوب شرق الأناضول، ويبلغ عدد سكانها ما يقرب من ثمانمائة ألف نسمة طبقا لإحصائيات عام 2000، كانت تلك المدينة قديمًا مدينة سريانية ولكن السريان أصبحوا الآن أقلية بها وأغلب سكانها من الأكراد والأتراك والعرب، ومع ذلك فسترى الكتابات السريانية موجودة ببعض اليافطات المعلقة، حتى أنني وجدت يافطة التهنئة بالعيد مكتوب عليها بأربع لغات: التركية والكردية والسريانية والعربية مما لفت انتباهي، ويتواجد بمدينة ماردين مسيحيين مما يكون لك فرصة الالتقاء بمسيحيين أتراك، فمن المعروف أن عدد المسيحيين في تركيا قليل جدًا، وأنك قد تمكث مثلي في تركيا قرابة العامين، متجولاً في أنحائها شرقًا وغربًا، ولا تقابل من المسيحيين إلا القليل جدًا، وكانت مدينة ماردين من ضمن الأماكن التي وقعت فيها جزءًا من الحرب التي دارت بين الجيش التركي وحزب العمال الكردي في أوائل السبعينات إلى بداية الثمانينات.
ماردين مدينة تجمع العرب والترك والأكراد
كما ذكرت يوجد بالمدينة بعض العرب، ولكن العربية التي تُتحدث هناك مختلفة قليلة عن عربيتنا، فهي عربية بلهجة الماردلية والتي جربت أن أحدثهم بها هناك، وبالطبع يصعب عليك أحيانًا فهم ما يُقال مما جعلني أحيانًا أفضل الحديث بالتركية معهم لكي أتمكن من فهمهم، بل من العجيب أنه أثناء وجودي بأحد المطاعم هناك وجدت طاقم العمل يتحدث بالعربية والتركية والكردية في وقت واحد، فيسأله سؤالاً بالتركية قائلاً الرقم الذي قاله “أحد عشر” بالعربية، ومُكملا لحديثه بالتركية في مزيج فريد دُهشت له، وسألته بعد الانتهاء من طعامي عن هذا السر، فأخبرني أنهم يعرفون اللغات الثلاث لذلك يستخدمونها في المحادثة، وقد جربت هذا الشعور هنا بالطبع أثناء حديثي؛ فأنا أستخدم مع أصدقائي الأجانب الإنجليزية ومع ذلك فإننا نقوم باستخدام بعض الكلمات التركية التي اعتدنا استخدامها في وسط حديثنا بالإنجليزية، مثلا كلمة “يورت” أي السكن الطلابي، فإننا نستخدمها حتى مع العرب، لاعتياد لسانك على استخدام تلك المصطلحات وهكذا.
إقليم ماردين هو بالأصل إقليم سوري ولكنه ضُم إلى تركيا تبعًا لمعاهدة لوزان، وتشتهر مدينة ماردين ببيوتها الحجرية والذي أدى إلى تمويل الاتحاد الأوروبي لمشروعات تمويل العديد من المباني التاريخية بها، حيث كانت ماردين إحدى معاقل الدولة الأرتقية هي وديار بكر.
ولد بالمدينة شيخ الإسلام ابن تيمية وتقع فيها بلده حران، وقد استولى عليها التتار في حياته، وخرج منها هو وأهله وهو في السابعة من عمره.
ماردين تلك المدينة الأصيلة المخضرة ذات البانوراما التي لا مثيل لها، ذات البيوت المتدرجة على سفح الجبل، والتي عاش بها السومريون والحوريون، الأكاد، الميتنيون، الهيتيت، الأشوريين، الرومان، البيزنطيون، العرب، السلاجقة، الأرتقة، والعثمانيون.
طرق ومرتفعات ماردين
ترى في أحد أطرافها قلعة ماردين العظيمة المسماة بعش الصقر، تلك القلعة المتناسقة مع البيوت الحجرية المحيطة بها والتي يهيم في عشقها سكان مدينة ماردين حيث كانت هي المدينة التي تحمي المدينة كما يقولون دومًا، ولكني لا أعرف مدى قوة تلك القلعة حقًا في حماية تلك المدينة، بعد أن احتلها الكثير من الأقوام والإمبراطوريات واحدة تلو الأخرى، ولكن على كل حال في طرف المدينة الآخر السهول الممتدة الواسعة والتي تمثل تناسقًا رائعًا بين الطبيعة التي لم تتدخل بها يد الإنسان والتراث الذي يمثل الحكايات التي عاشتها تلك المدينة على مر القرون الفائتة.
بدأت رحلتي بالوصول إلى مطار ماردين صباحًا، بعد رحلة صعبة أُصِبت فيها بشيء ما في أذني وعيني، لا أعلم سببها تحديدًا ولكنها سببت لي الكثير من الألم، ثم بدأ الألم يزول تدريجيًا ولكن لم ينته الصداع حتى بعد النزول من الطائرة، ركبت الميكروباص متجهًا أولاً إلى السكن الطلابي الذي سأمكث به حتى أستطيع التسجيل فيه مبكرًا لأتوجه بعدها إلى المدينة لأبدأ رحلتي، حيث كان السكن بعيد عن مركز المدينة، وبعد توجهي إلى السكن لم يكن الموظف المسؤول عن التسجيل موجودًا فأخبروني أنه يجب عليّ أن أتي بعد حوالى أربع ساعات لأتمكن من التسجيل؛ فقررت الذهاب إلى وسط المدينة أولاً ثم المجئ مجددًا هنا، وبالطبع ذهبت هنالك ووجدت محلة “حي” اللطيفية أجمل مما توقعته أن يكون، فذلك الشارع الممتلئ بالمباني التاريخية الحجرية حرك بداخلى شيئًا ما، تلك المباني التي تعيدك بالزمان إلى وقت إنشائها، كانت كفيلة بإدخال السعادة إليّ في أول رحلتي، بدأت التجول مارًا على جامع الشيخ تشابوك، وهو عبد الله أنيس الجهني رسول رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وبعدها بخطوات تجد جامع عبد اللطيف الذي أُنشئ عام 1371 والذي التقطت صورة بجانبه حيث أسسه أحد أجدادي قطعًا بلا شك.
بعد مكوثي قليلاً هنالك، اتجهت الى متحف ماردين الذي كان بالأصل مقرًا للبطريركية الكاثولكية السريانية والذي يستخدم الآن كمتحف للمدينة منذ عام 1995 والذي لم أستطع دخوله للأسف حيث كان مغلقًا بسبب الإصلاحات.
وفي الطريق وجدت مبنًا رائعًا يجمع بين أصالة الماضي متمثلة في العمارة الحجرية له واللمسة الحديثة بوضع النوافذ الخشبية ذات اللون الجذاب، لأكتشف بعد ذلك أنها مدرسة ابتدائية حكومية والتي أرفقت صورتها بالأسفل لأشارككم جمالها، هل لي أن أغبط هؤلاء الأطفال الذين يدرسون بتلك المدرسة؟
إحدى المدارس الابتدائية في ماردين
وفي طريقي ذهبت إلى المدرسة الزنجيرية وجامع الشهيدية وبدأ المطر فدخلت إلى الجامع محتميًا منه، ملتقطًا أنفاسي، قبل أن أتجه في طريق طويل جدًا إلى مدرسة القاسمية التي أُسست في القرن الخامس عشر، والتي بها بفنائها حوض مائي صغير يلقي به بعض الزوار العملات المعدنية للتبرك مما أصابني بالضيق نوعًا ما، وباختصار ماردين مدينة زاخرة بالتاريخ بلا شك، ولكي لا أطيل عليكم، فأنصحكم بالبحث عن تاريخ تلك المدينة العريقة، فستجدون بلا شك الكثير من المعلومات القيمة أثناء بحثكم هذا.
من المواقف الطريفة التي لا يمكن أن أنساها في رحلتي لماردين هو أول مرة أستخدم بها “الأوتوستوب” بتركيا، بل وبحياتي أيضًا، الأوتوستوب هو القيام بإيقاف سيارة من على الطريق لتقوم بإيصالك مجانًا معها في طريقها، وحيث ذكرت من قبل كان سكني بعيدًا عن مركز المدينة، وكان الوقت متأخرًا إلى حد ما ولم أجد باصًا بسهولة ينقلني إلى المركز، فأردت تجربة الأوتوستوب فقمت بايقاف سيارة نقل ضخمة الحجم اصطحبني معه صاحبها إلى المركز، وسألني السؤال المعتاد “نيريلسن” أي من أي أنت؟ وبعد الإجابة بأنني من مصر، بدأت الأسئلة المعتادة عن الأحداث السياسية في مصر، والوضع العام، إلى آخر تلك الحوارات التي مللت منها لكثرتها، لدرجة أنني أفكر حاليًا بالقيام بتسجيل صوتي على هاتفي الجوال مجيبًا عن كل الأسئلة المتكررة التي سيسألها من يعرف أنني مصري والقيام بتشغيلها له عند بدء الأسئلة، وبعد انتهاء فقرة الأسئلة، شكرته على اصطحابه لي، وأنزلني قبل المركز بقليل، لأستقل عربة أخرى تتجه بي مباشرة إلى اللطيفية.
كباب تركيا الشهير