أم الدنيا
وقف الخلق ينظرون جميعًا … كيف أبني قواعد المجد وحدي
وبناةُ الأهرام في سالف الدهر … كفوني الكلام عن التحدي
لم أجد خيرًا من هذين البيتين لاستهل بهما حديثي عن مصر الحبيبة، وهما من قصيدة “مصر تتحدث عن نفسها” لشاعر النيل حافظ ابراهيم، والتي لطالما استمتعنا بسماعها مغناةً بصوت كوكب الشرق أم كلثوم، من ألحان الموسيقار الخالد رياض السنباطي، وكلهم من أبناء المحروسة المعطاءة، التي لا نكاد نذكر إنجازًا في ميادين العلوم والفنون والآداب وغيرها، إلا وكان لها قصب السبق فيه، وكيف لا وهي قبلة الأنظار وأم الدنيا منذ عهد الفراعنة الغابر!
وفي ميادين الرياضة لا يختلف الحال، فألعاب القوى عرفها الفراعنة ونظموا مسابقاتها وكرموا أبطالها قبل أن يسمع عنها الإغريق بقرون! وألعاب الكرات – ولا سيما كرة القدم – هم أول من اخترعها ووضع أسسها الأولية قبل أكثر من خمسة آلاف عام! والرسومات الموجودة على جدران المقابر والمعابد الفرعونية تشهد بذلك، وكذلك الكرات المصنوعة من الجلد أو القماش المحشو بألياف من النخيل وورق البردي، والتي وجدت بعثات التنقيب العديد منها مدفونًا في ثرى وادي النيل، كلها تعد دليلًا دامغًا على أن أرض الكنانة هم المهد الحقيقي لأغلب الألعاب الرياضية التي نراها اليوم.
أوليـات
تأسس الاتحاد المصري لكرة القدم عام 1921، وانضم إلى الفيفا عام 1923، بيد أن كرة القدم المنظمة بشكلها الحديث، مورست في أرض الكنانة قبل ذلك بكثير، فقد زاولها طلبة مصر منذ أواخر القرن التاسع عشر إبان الاحتلال البريطاني، قبل أن ينجحوا بتنظيم أول دوري خاص بالمدارس والجامعات عام 1914، وعلى إثره تم تشكيل أول منتخب مصري وطني لكرة القدم، حيث لعب مباراته الأولى ضد المنتخب البريطاني عام 1916 وخسرها بنتيجة 4-2، ولكن تلك المباراة اعتبرت غير رسمية، وكانت المباراة الرسمية الأولى أمام المنتخب الإيطالي عام 1920، ضمن فعاليات دورة الألعاب الأولمبية الصيفية التي استضافتها مدينة أنتويرب البلجيكية، وانتهت حينها بنتيجة 2-1 لصالح الطليان.
مصر في كؤوس العالم
لم تتأخر المشاركة المصرية الأولى في كأس العالم كثيرًا، فبعد ثلاث مشاركات متتالية في دورات الألعاب الأولمبية، آخرها عام 1928 في أمستردام حيث أحرز أحفاد الفراعنة المركز الرابع، قام الاتحاد الدولي بدعوة المنتخب المصري للمشاركة في ثاني نسخ بطولة كأس العالم، والتي استضافتها إيطاليا عام 1934، ليكونوا بذلك أول منتخب عربي وأفريقي يحظى بهذا الشرف، فلعب الفراعنة مباراتهم الوحيدة أمام منتخب المجر وخسروها بنتيجة 4-2، ليودعوا البطولة مبكرًا بحسب نظام البطولة الذي يقضي بخروج المغلوب مباشرةً.
ولم تسنح للمصريين فرصةٌ أخرى للتواجد في المحفل العالمي الكروي الأهم حتى مطلع التسعينيات، تارةً بسبب الانسحابات سياسية الطابع، وتارةً نتيجة قلة عدد المقاعد المخصصة للمنتخبات الأفريقية ضمن النهائيات العالمية، فكان مونديال إيطاليا عام 1990 شاهدًا على الظهور الثاني والأخير للفراعنة في كؤوس العالم، حيث وقعوا ضمن مجموعة نارية ضمتهم مع ثلاثة منتخبات أوروبية عريقة، فتعادلوا في مستهل مبارياتهم مع هولندا – بطلة أوروبا آنذاك – بهدف لهدف، وأعادوا الكرة بتعادلهم مع إيرلندا ولكن بدون أهداف، قبل أن يتلقوا خسارتهم الوحيدة بهدف يتيم أمام إنجلترا، ليودعوا البطولة من دورها الأول بعد أن قدموا أداءً استحقوا عليه الاحترام.
فراعنة القارة السمراء
لأبناء المحروسة سدة الريادة والسيادة على المستوى القاري، فهم أصحاب الرقم القياسي في عدد مرات الفوز بكأس الأمم الأفريقية برصيد سبع بطولات، كما أنهم الرواد على صعيد عدد مرات المشاركة في النهائيات برصيد 22 مشاركة، فضلًا عن يدهم الطولى في تأسيس الاتحاد الأفريقي عام 1957، وهو نفس العام الذي شهد تنظيم النسخة الأولى من كأس الأمم الأفريقية التي استضافتها السودان، وشارك فيها منتخبا إثيوبيا وجنوب أفريقيا إلى جانب الشقيقين المصري والسوداني، وقد حمل الفراعنة لقب تلك النسخة بفوزهم على إثيوبيا برباعية نظيفة.
وشهدت الفترة بين عامي 1959 و1970 أربع مشاركات للمنتخب المصري في النهائيات الأفريقية تحت اسم “منتخب الجمهورية العربية المتحدة”، فحققوا لقب البطولة الثانية التي أقيمت على أرضهم عام 1959، بعد فوزهم الحاسم على أشقائهم السودانيين بنتيجة 3-2، وبلغوا نهائي البطولة الثالثة عام 1962، ولكنهم هزموا أمام المنتخب الإثيوبي بنتيجة 4-2، قبل أن يحرزوا المركز الثالث مرتين عامي 1963 و1970.
وتابعوا مشوار التألق حقبة السبعينات والثمانينات، فحققوا المركز الثالث مجددًا في نسخة عام 1974، والمركز الرابع ثلاث مرات أعوام 1976، 1980، و1984، قبل أن يستعيدوا لقبهم الغائب منذ الخمسينات، بتتويجهم ببطولة عام 1986 على أرضهم، بعد الفوز في النهائي على المنتخب الكاميروني بفارق ركلات الترجيح.
وبعد سلسلة من الإخفاقات في البطولات الخمس التالية، عاد الفراعنة للانقضاض على لقب البطولة الأفريقية للمرة الرابعة في تاريخهم، وذلك بتتويجهم بنسخة عام 1998 التي استضافتها بوركينا فاسو، بعد الفوز في النهائي على منتخب جنوب أفريقيا بهدفين نظيفين.
وجاء عام 2006 مبشرًا ببداية العصر الذهبي لمنتخب الفراعنة، الذي حصدوا خلاله ثلاثيةً أفريقيةً نادرةً أدخلتهم التاريخ من أوسع أبوابه، بدءًا ببطولة عام 2006 على أرضهم، والتي حققوا لقبها على حساب ساحل العاج في النهائي بفارق ركلات الترجيح، ومرورًا ببطولة عام 2008 في غانا، والتي تفوقوا في نهائيها على خصمهم الكاميروني العنيد بهدف نظيف، وختامًا ببطولة عام 2010 التي استضافتها أنغولا، وحقق المصريون لقبها بفوزهم في النهائي على نظرائهم الغانيين بهدف ثمين، ليصلوا إلى تتويجهم القاري السابع، ويستحقوا لقب فراعنة القارة السمراء وملوكها.
إشراقاتٌ أخرى
تحفل خزائن المنتخب المصري بالعديد من البطولات والألقاب الإضافية، كذهبية مسابقة كرة القدم في دورة الألعاب الأفريقية التي أقيمت عام 1987 في كينيا، وذهبية دورة ألعاب البحر المتوسط لعام 1955، ولقب وصيف كأس الأمم الأفروأسيوية مرتين عامي 1988 و2007، فضلًا عن إحرازهم المركز الرابع مرتين في مسابقة كرة القدم ضمن دورات الألعاب الأولمبية الصيفية، وذلك عامي 1928 في هولندا و1964 في طوكيو.
كما تتضمن سجلات منتخب الفراعنة مشاركتين في كأس القارات كممثل للقارة الأفريقية، عامي 1999 في المكسيك و2009 في جنوب أفريقيا، حيث ودعوا البطولتين من الدور الأول، ولكن مع تركهم بصمةً لا تنسى في البطولة الثانية، بفوزهم على منتخب إيطاليا – بطل العالم حينها – بهدف محمد حمص الشهير.
وعلى الصعيد العربي يمتلك المنتخب المصري رصيدًا طيبًا، قوامه لقب واحد في كأس العرب عام 1992، إضافةً إلى أربع ميداليات ذهبية في مسابقة كرة القدم ضمن دورات الألعاب العربية، وذلك أعوام 1953، 1965، 1992، و2007.
أجيالٌ من ذهب
إذا نظرنا إلى الأجيال التي تعاقبت على تمثيل المنتخب المصري عبر تاريخه، نجد أنه من النادر أن تخلو حقبةٌ ما من المواهب الرائعة والأسماء الخالدة في بال كل مصري، بدءًا بالكابتن أحمد حجازي الذي يعزى إليه الفضل في تشكيل أول منتخب مصري رسمي مطلع العشرينيات، ومرورًا بعبد الرحمن فوزي صاحب هدفي المنتخب على المجر في كأس العالم عام 1934، ومعه الكابتن محمد لطيف الذي عرفناه حكمًا دوليًا ثم معلقًا رياضيًا أمتع الملايين.
ومن بعدهم تطالعنا أسماء جيل الخمسينات والستينات الذي تألق في كؤوس أمم أفريقيا، كرفعت الفناجيلي، طه إسماعيل، رفعت عطية، ومحمد دياب العطار، الشهير بـ “ديبا”، الذي دك الشباك الإثيوبية برباعية تاريخية في نهائي أول بطولة أفريقية، إضافةً إلى الكابتن محمود الجوهري، الذي أصبح مدرب المنتخب في التسعينات.
وفي حقبة السبعينات تألقت أسماءٌ كعلي أبو جريشة، حسن الشاذلي، طه البصري، وثعلب الكرة المصرية حمادة إمام، إضافةً إلى نجم الكرة المصرية محمود الخطيب الذي استمر في عطاءاته حتى الثمانينات، وتوج بجائزة أفضل لاعب أفريقي لعام 1983، وبرز أيضًا في أواخر الثمانينات ومطلع التسعينات نجومٌ آخرون كطاهر أبو زيد، جمال عبد الحميد، إسماعيل يوسف، أحمد الكاس، علاء ميهوب، أشرف قاسم، والحارسين ثابت البطل وأحمد شوبير، إضافةً إلى مجدي عبد الغني صاحب هدف مصر الوحيد في كأس العالم عام 1990.
ومن نجوم التسعينات الذين استمروا في عطاءاتهم حتى مطلع الألفية الجديدة، يبرز اسم حسام حسن هداف مصر التاريخي برصيد 69 هدفًا، وتوأمه إبراهيم حسن، والمدافعين الصلبين هاني رمزي وهادي خشبة، وثعلب الكرة المصرية الصغير حازم إمام، والحارس نادر السيد، إضافةً إلى الجناح الرائع أحمد حسن، صاحب الرقم القياسي في عدد المشاركات مع المنتخب برصيد 184 مباراة، وأحد أعمدة الجيل الذهبي الذي أحرز الثلاثية الأفريقية الخالدة أواخر العقد الأول من الألفية الجديدة، ذلك الجيل الذي قاده بكل اقتدار المدرب حسن شحاتة، وضم نجومًا رائعين نذكر منهم: الحارس الممتاز عصام الحضري، والمدافعون: عبد الظاهر السقا، وائل جمعة، سيد معوض، وأحمد فتحي، ولاعبو الوسط: هاني السعيد، حسني عبد ربه، محمد شوقي، وفيلسوف الكرة المصرية المبدع محمد أبو تريكة، والمهاجمون: عمرو زكي، عماد متعب، أحمد حسام ميدو، محمد زيدان، ومحمد ناجي جدو صاحب هدف الفوز الثمين على غانا في نهائي أمم أفريقيا عام 2010.
حاضرٌ لا يلبي الطموح
مثل إنجاز عام 2010 الأفريقي خط نهاية نجاحات منتخب الفراعنة على جميع الصعد، فقد كان الفشل حليفهم بالخروج من مرحلة التصفيات في النسخ الثلاث التالية من كأس أمم أفريقيا أعوام: 2012، 2013، 2015، وهي نفس النتيجة التي حصدها أبناء النيل في جميع مشاركاتهم في تصفيات كؤوس العالم التي أقيمت منذ عام 1994 وحتى الآن، وآخرها في تصفيات مونديال البرازيل الأخير، التي ودعوها من المرحلة النهائية إثر خسارتهم أمام غانا بعد مباراتين فاصلتين.
والغريب في الأمر أن صفوف المنتخب خلال السنوات الخمس الأخيرة لا تعاني من أي شح في الأسماء والمواهب، فالكثير من نجوم الجيل الذهبي لايزالون في أوج عطائهم، إضافةً إلى بزوغ جيل جديد من المواهب الممتازة، منهم من ينشط في القارة الأوروبية كمحمد صلاح، محمد النني، ومحمود حسن تريزيغيه، ومنهم من يتألق في الدوري المحلي وخاصة في صفوف الكبيرين الأهلي والزمالك، كباسم مرسي، عمرو جمال، رامي ربيعة، عمر جابر، محمود كهربا، والحارس شريف إكرامي، وغيرهم من أبناء مصر الحبيبة، التي عودتنا على النهوض بعد كل كبوة، ففي نهوضها نهوض للأمة العربية، وفي تراجعها ووهنها وهنٌ للعرب والشرق الأوسط بأكمله، كما قال الشاعر متحدثًا بلسان مصر:
أنا إن قدر الإله مماتي … لا ترى الشرق يرفع الرأس بعدي