بزغ في السنوات الأخيرة نجم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) باعتبارها التنظيم الجهادي الأقوى في العالم، بيد أن تنظيم القاعدة، الذي حظي بتلك المكانة لعقود، لا يبدو أنه سيستسلم بسهولة لغريمه الأكثر دموية وتطرفًا، فهو لا يزال يصارع من أجل نفوذه على حساب داعش في الشرق الأوسط وأفريقيا، وهو صراع اتضح بشكل كبير في الأشهر الأخيرة بشرق أفريقيا، حيث تكثف داعش جهودها لإقناع تنظيم الشباب الصومالي بإعلان الولاء لها، كما نجحت مع بوكو حرام في نيجيريا، وهو أمر لم تفلح فيه حتى الآن، إذ يظل الشباب حتى اليوم على ولائه للقاعدة.
بينما يزداد انجذاب المقاتلين الأصغر سنًا لداعش ومميزات الانضواء تحت لوائها، ويزداد شغف الدواعش بإعلان ولاية لهم في القرن الأفريقي، يبدو وأن ضغوطًا بدأت تُمارس لتحقيق ذلك الهدف، على سبيل المثال ما ظهر في تسجيل فيديو نشرته داعش في مطلع هذا العام، حيث تم تصوير مجموعة من الصوماليين التابعين لها وهم يشجعون شبابًا من الصومال على الانضمام لهم، كما نشرت ولاية سيناء التي انضمت حديثًا لداعش هي الأخرى تسجيلًا يحث تنظيم الشباب على تبديل ولائها لصالح داعش.
لم تذهب تلك الجهود دون ملاحظة تنظيم القاعدة، والتي تدخل زعيمها أيمن الظواهري بنفسه الشهر الماضي برسالة وجه فيها انتقاداته لداعش وتوسعاتها وعدم شرعية خلافتها المزعومة، وقال بأن زعيم التنظيم الشباب الصومالي، أحمد عبدي جودان، قد كتب له شاكيًا مما تفعله داعش وانتقد أساليبها. ما هي أسباب ذلك الموقف من تنظيم الشباب؟ هي أسباب أعقد في الحقيقة من علاقة وطيدة تجمع جودان والظواهري، وتتطلب النظر إلى تاريخ الشباب وتواجد القاعدة في الصومال بشكل عام.
بين الشباب والقاعدة
أعلن الشباب ولاءه لتنظيم القاعدة عام 2012، وذلك بعد وفاة أسامة بن لادن، وقد أتى إعلانها ذلك كتتويج لجهود القاعدة التي استمرت لثلاث سنوات لإقناع الشباب بالانضمام لشبكة تنظيماتها المسلحة على الأرض، والتي بدأت بشائرها حين نشر الشباب تسجيلًا لجودان يمدح فيه زعيم القاعدة آنذاك أسامة بن لادن، وكيف لا وقد تدرب جودان نفسه مع طالبان في أفغانستان في أواخر التسعينات، معتبرًا نفسه لذلك ابنًا من أبناء القاعدة بشكل مباشر.
في الحقيقة، تشير الخطابات التي تم الاستحواذ عليها من مقر إقامة بن لادن عام 2011، بأن جودان كان شديد الحماس للانضواء تحت لواء القاعدة بشكل رسمي، أكثر من حماس القاعدة نفسها بجذب الشباب، ففي عام 2010 كتب بن لادن رسالة إلى جودان ردًا على احتمالية اندماج التنظيمين، وقال بأنه من الأفضل أن يتم الإبقاء على الصلات بينهما تحت الطاولة قدر الإمكان لحمايته وحماية أنصاره في شرق أفريقيا من جذب أنظار البلدان الغربية، والتي قد يثيرها إعلان كهذا بالطبع.
للقاعدة إذن حضور قوي ومتجذر في الصومال وشرق أفريقيا لا يمكن أن يلغيه صعود داعش السريع عسكريًا وإعلاميًا، فعلى العكس من بعض المناطق التي لم تعمل بها القاعدة بدأب، مثل سيناء ربما أو نيجيريا، فإن جهودها في الصومال كانت موسعة، مما يفسر الولاء القوي لها من جانب تنظيم الشباب، وصعوبة الانضمام لقطار داعش فقط للحصول على الدعم من التنظيم الجهادي المثير للجدل والأقوى الآن، وحتى بعد أن قُتِل جودان في ضربة جوية أمريكية العام الماضي، ورأى البعض الفرصة مواتية لتبديل القِبلة نحو سوريا، أتى أحمد عمر، زعيم الشباب الجديد، ليؤكد على ولائه للقاعدة وللظواهري.
إغراءات داعش
على الرغم من تلك العلاقة القوية بين الطرفين، يبدو بجلاء أن داعش تمثل تحديًا في قدرتها على جذب تنظيم الشباب يومًا ما، لا سيما وأن توسعاتها السريعة بدأت تؤثر بالفعل في توسيع شعبياتها لدى أعضاء الشباب الأصغر سنًا، والذين فاتتهم ربما سنوات العمل عن قُرب مع القاعدة، وقد لا يولون الولاء لها اهتمامًا في المستقبل مع صعودهم كجيل ثاني في قيادة التنظيم، أضف لذلك أن القاعدة الآن تعاني من ضعف شديد لا يتيح لها أن تقدم الكثير للشباب، والذي يعاني هو الآخر من التراجع أمام القوات الصومالية وقوات الاتحاد الأفريقي.
المقاتلون الأجانب تحديدًا، والذين يحملون فكرة الجهاد العالمي دون الالتفات لتعقيدات الأوضاع المحلية، هم العامل الأبرز في الضغط على تنظيم الشباب من داخله ليركب موجة داعش، فهُم لا يبالون كثيرًا بما قدمته القاعدة، كما أن أفكارهم “العالمية” تعطيهم اهتمامًا مبالغًا فيه بمعارك سوريا والعراق والتضامن معها، على العكس من قيادات الشباب الصومالية التي تحسب خطواتها آخذة في الاعتبار أولًا الوضع الصومالي ثم الإقليمي بشرق أفريقيا عامة، وهو ما يفسر اعتقال تنظيم الشباب لخمسة من هؤلاء الأجانب المنضمين له حديثًا، والذين ثارت شكوك حول ولائهم لداعش.
في الواقع، لا يبدو أن قمع المعترضين على ولاء الشباب للقاعدة أمر جديد، فقد أحدث بالفعل مشاكل داخلية بين أجنحة التنظيم المختلفة والقبائل التي تشكل عاموده الفقري في السابق، وهي مشاكل ظهرت للنور عام 2013، حين قام خصوم جودان من التنظيم، بما فيهم مختار روبو أحد الأعضاء المؤسسين له، بانتقاد قيادته علنًا ومعاملته القاسية للصوماليين كجزء من تطبيق الشريعة في الأراضي التي يسيطر عليها، وهي انتقادات عادة ما قوبلت بالتهديد أو القتل من جانب شرطة “أمنية” التابعة للتنظيم، والتي يضبط بها التنظيم صفوف الشباب.
شباب “الشباب”
المقاتلون الصغار والأجانب ليسوا فقط من يعترض على الارتباط بالقاعدة الضعيفة، بل “سوق الجهاديين” بشكل عام في شرق أفريقيا، والذي طالما كان الشباب وجهته الأولى، قد بدأ يصرف النظر عنه لصالح السفر لسوريا والعراق حيث نجم الخلافة الصاعد، والمعركة الأهم في العالم الإسلامي بأسره كما يعتقد كثيرون، فماكينة جلب الجهاديين الدعوية والإعلامية التي يملكها تنظيم الشباب منذ سنوات أصبحت أضعف الآن في كينيا تحديدًا، حيث يجذب إعلام داعش الأقوى مسلمي الطبقات الوسطى هناك ويخطفهم من دعاية الشباب.
أشهر من حوّل ولاءه للدواعش هو الداعية الجهادي المعروف في كينيا حسين حسن، والذي أيد الشباب في الصومال حتى وقت قريب، ولكنه يحث مريديه الآن على التوجه إلى صفوف داعش، كما قال في رسالة صوتية مسجلة مؤخرًا، ليتجاوزوا على حد قوله “إمارة الشباب الصغيرة،” ويقبلوا بأبي بكر البغدادي كأمير للمؤمنين، وهو نمط سيستمر ليُضعِف القواعد الجديدة لتنظيم الشباب طالما بقيت داعش بتلك القوة، وحتى يتمكن تنظيم القاعدة من استعادة وزنه السابق.
مع مرور الوقت، قد يزداد التعاطف مع داعش بشكل لا تتمكن معه شرطة “أمنية” التابعة لتنظيم الشباب من قمعه، وبالنظر لخسائر الشباب المتزايدة في الصومال، قد تغمر تلك الموجة التنظيم في وقت ليس ببعيد ما لم يبحث الشباب عن إستراتيجية جديدة لترسيخ مكاسبه وتوسيعها، بدعم القاعدة أو بدونه، عدا ذلك فإن انشقاق مجموعات “شبابية” عنه سيكون أمرًا حتميًا، وقد يؤدي لظهور ولاية لداعش في الصومال، وهي مهمة قد تكون ضربة قاضية لوجود القاعدة في أفريقيا كلها، والتي تُعَد الصومال ركيزة أساسية له.
هذا المقال منقول بتصرّف من فورين أفيرز