تحتفل الولايات المتحدة وغيرها من دول الأمريكيتين وإسبانيا وإيطاليا اليوم بما يعرف بـ “يوم كولومبوس”، وهو ذكرى وصول كريستوفر كولومبوس للمرة الأولى إلى سواحل القارة الأمريكية، ويمثل اليوم الذكرى 526 للوصول الذي تسميه بعض المصادر بـ “الاكتشاف”.
انتشر الاحتفال بالذكرى بين سكان الأمريكتين (البيض تحديدًا) منذ القرن الثامن عشر بشكل غير رسمي، ومنذ القرن العشرين رسميًا.
ربما يمكن الحديث هنا عن أثر هذا اليوم على تاريخ العالم ككل من ناحية سياسية، إلا أن هذا الأمر أوضح من أن يستحق الحديث عنه، إذ لا شك أن ترتب قيام الولايات المتحدة وتحولها إلى القوة العظمى في العالم أمر لا يختلف عليه اثنان، كما أن هذه النشأة تأتي كجزء من عملية تغير سكاني وسياسي في الأمريكتين أدى لتشكل خريطة العالم كما نعرفها، أي عالم به دول بحجم أمريكا وكندا والمكسيك في أمريكا الشمالية؛ وعشرات الدول جنوبًا فيما نعرفه بأمريكا اللاتينية.
ولذلك فإن الحديث عن آثار أخرى لوصول كولومبوس إلى أمريكا تستحق لفت النظر إليها والحديث عنها، إذ إن كثير من هذه الآثار ذات صلة مباشرة بواقعنا اليومي؛ وكثير من تفاصيل حيواتنا التي قد نظن أنها كانت كذلك منذ قديم الأزل، وبالتالي إليكم بعض مما تحتوي عليه الظاهرة التاريخية المسماة بـ “أثر كولومبوس”، وهي ظاهرة تغير الطبيعة السكانية والاقتصادية وحتى الطبيعية للعالم ككل نتيجة لوصول كولومبوس إلى ما أسماه بـ “العالم الجديد”.
الطعام
يمكن هنا الحديث طويلًا عن كيف غير الوصول إلى الأمريكتين واقع العالم الغذائي والسكاني والاقتصادي، إذ عاد كولومبوس ومن تبعه من مستكشفي الأرض الجديدة محملين بكل ما وجدوه من غرائب الزرع والحيوان إلى أرض أوروبا، فيكفي أن نعرف أن محاصيل بأهمية البطاطا والذرة والطماطم لم يكن لها تواجد خارج الأمريكتين حتى هذه الفترة، وفي غضون 300 عام (حوالي عام 1840) تسبب نقص محصول البطاطا في قتل مليون شخص في المجاعة الأيرلندية الكبرى، كما تحولت الذرة إلى أهم محاصيل القارة الأفريقية في غضون عشرات السنوات من تقديم البرتغاليين إياها للقارة السمراء.
وفي الاتجاه المعاكس، يمكن لنا أن نرى قدر من كبير من الأسس الاقتصادية والغذائية للأمريكتين وقد حدثت بعد هذا اليوم، إذ يمكن الإشارة إلى أن محاصيل القهوة وقصب السكر (أهم المحاصيل الاقتصادية في أمريكا الجنوبية) ليست أصيلة على البرازيل أو كولومبيا أو كوبا، إذ أحضرها الإسبان والبرتغاليون من اليمن وبلاد فارس (على الترتيب) وقاموا بزراعتها في مستعمراتهم الأمريكية لمناسبة المناخ والتربة لذلك، كجزء من كسر احتكار الأراضي الإسلامية لها وتخفيض قيمتها السوقية، ويكفي الإشارة إلى أن البرازيل التي لا يمكن فصل القهوة كثيرًا عن اسمها لم تعرف القهوة قبل عام 1730م على يد البرتغاليين.
بينما أحضر كولومبوس بنفسه شتلات قصب السكر إلى هايتي وجمهورية الدومينيكان كما نعرفها اليوم، واليوم تبقى البرازيل أيضًا هي أكبر منتج في العالم لقصب السكر.
البشر، أو الجرم الأكبر في تاريخ أوروبا
يمكن الحديث في هذا الباب إلى ما لا نهاية، إذ إن التغير السكاني الذي حدث في السنوات التالية لوصول كولومبوس ليس له أي مثيل في تاريخ البشرية، ففي غضون مائة عام فقط من وصول كولومبوس إلى الأمريكتين؛ كان عدد من هاجر إليها من الأوروبيين 240 ألف شخص.
وعلى التوازي مع هذا كانت الإبادات المقصودة وغير المقصودة للسكان الأصليين، وإذا غضضنا النظر عن عمليات القتل وإسقاط الدول التي قام بها المستعمرون الأوروبيين، فإن مجرد وصولهم كان يمثل خطرًا بيولوجيًا ضخمًا للغاية على حيوات السكان الأصليين، إذ كان المستعمرون يحملون في أجسادهم ومتعلقاتهم الكثير من الجراثيم والطفيليات والأمراض التي سبق وضربت بالعالم القديم، إلا أن هذا كان كفيلًا بإكسابهم مناعة ضدها، مناعة لم تتوافر عند السكان الأصليين الذين تعرضوا لهذه الأمراض للمرة الأولى، وتشير بعض الدراسات إلى أن التعداد السكاني للسكان الأصليين في الأمريكتين قد انخفض بنسبة 95% بحلول عام 1618 نتيجة أمراض كالجدري والتيفود، ولا يخفى على أحد أن المستعمرين لم يبذلوا أي نوع من الجهود لمكافحة تفشي المرض في السكان الأصليين.
وتلى هذا بفترة قصيرة بدء الاستثمار الأوروبي في الإنتاج الزراعي في الأرض الجديدة، وتطلب هذا وفرة في الأيدي العاملة لم تكن ممكنة بالنسبة إلى أوروبا، ليبدأ جرم آخر من أكبر جرائم الاستعمار الأوروبي ضد شعوب المستعمرات؛ وهو تجارة العبيد عبر المحيط الأطلنطي، كان السبق للبرتغاليين ذوي المستعمرات بطول الساحل الغربي لأفريقيا، وتم جلب العبيد الأفارقة لأول مرة لتشغيل مزارع القصب البرتغالية في البرازيل، ثم تبعتهم الإمبراطورية البريطانية لتصبح أكبر تاجر بشر في التاريخ، وتصبح اقتصادات مدن كليفربول مبنية بشكل رئيسي على تجارة العبيد.
يصل تعداد العبيد الذين تم نقلهم إلى العالم الجديد إلى 12 مليون شخص، ويعتقد أن نسبة الفاقد من الشحنة الواحدة للعبيد كان قرابة 50%، أي أن هناك قرابة 12 مليون أفريقي آخر قد قضوا في الطريق وتم إلقاءهم بالبحر.
الإمبراطوريات ورنين الفضة
من المعلومات الطريفة أن الفضة كانت هي المعدن الأثمن والأغلى قبل وصول الأوروبيين إلى الأمريكتين، وقد سمح توافر الفضة بشكل كبير في المناجم الأمريكية في توفير سيل منهمر من الأموال لكل من إسبانيا والبرتغال بمجرد وصولهم إلى الأرض الجديدة، وقد اتسمت السنوات الأولى للاكتشاف بصفة تفريغ الأرض من الثروات بأكفأ شكل ممكن، فتم جمع كل قدر من الممكن من الذهب والفضة وإرسالهم إلى القارة العجوز، مما سمح بتوافر نقد كثير يسمح بتوسيع قدرة ممالك أوروبا على التجارة مع الحضارة الأكثر تقدمًا ثقافيًا واقتصاديًا في هذا الوقت؛ الصين.
كانت السفن الإسبانية والبرتغالية تصل إلى الصين عبر طريق الرجاء الصالح غير محملة بشيء سوى المال، وتعود حاملة كل ما تنتجه الصين من مختلف المنتجات كالحرير والخزف، حتى أن البذخ الذي تم إغراق السوق الصيني بالفضة الأمريكية به أدى إلى حالة جنونية من التضخم وانخفاض قيمة الفضة ما زالت مستمرة حتى اليوم؛ إذ أصبح الذهب أثمن منها بكثير.
وقد أدت التجارة المتزايدة مع الصين إلى نقل الخبرة والثقافة الصينية بشكل أكفأ لأوروبا، مما سمح للأوروبيين باستخدامها بشكل أكثر كفاءة في بناء حضارتهم الخاصة، وبالتوازي مع هذا بدأت عقلية التعامل مع الأراضي المكتشفة حديثًا في التغير من عقلية مغارة علي بابا إلى عقلية الاستثمار بعيد المدى، أدرك الأوروبيون أن أراضي المستعمرات ومناخها والتقدم التكنولوجي يسمح لهم بإنتاج أي شيء كانوا يستوردونه في السابق، وقد كان، بل وبدأت المستعمرات بالتصدير إلى المصدرين السابقين كالصين تحت تهديد السلاح، ولا مثال أوضح على هذا من حروب الأفيون مع الصين، في هذه اللحظة تحديدًا انقلب الميزان التجاري بين الصين وأوروبا، والذي كان في صالح أوروبا منذ فجر التاريخ، وبدأ النظام العالمي الذي نعرفه اليوم في التحقق كواقع على الأرض.