ترجمة وتحرير نون بوست
لطالما غذى الصراع القائم ما بين الرئيس عبد العزيز بوتفليقة ورأس جهاز المخابرات الجزائري الجنرال محمد مدين، فهم الجزائريين للسياسة المبهمة التي تنتهجها بلادهم، حيث كان يتوقع الحكماء بأن أي تغيير في ميزان القوى من شأنه أن يطلق العنان لصراع جزائري طويل الأمد.
ولكن على عكس التوقعات، ساد استقرار واضح ومحير منذ أوائل سبتمبر الجاري، رغم إقالة بوتفليقة بشكل مفاجئ لمحمد مدين، 75 عامًا، من منصبه كرئيس للمخابرات، الذي خدم به لأطول فترة في العالم، وذلك إثر انتخاب الرئيس الجزائري، 78 عامًا، لولاية رابعة في عام 2014، رغم عدم ظهوره إلى العلن منذ تعرضه لجلطة في دماغية قاسية في العام السابق.
“أنا لم أعد أفهم شيئًا عن الجزائر” اعترف أستاذ جامعي، بعد وقت قصير من رؤيته لسعيد بوتفليقة، شقيق الرئيس الجزائري ويده اليمنى القوية، وهو يقود سيارته على طول الطريق السريع بدون أي مرافقة.
رحيل مدين من المشهد الجزائري هو جزء من التغييرات العميقة والصامتة نسبيًا التي تشهدها الجزائر، مع حلول جيل جديد ببطء محل قدامى المحاربين المعمرين منذ حرب التحرير؛ فمنذ عام 2013، عمد بوتفليقة وقائد جيشه، أحمد قايد صالح، إلى إقالة نصف دزينة من الأشخاص المقربين لرئيس المخابرات السابق.
هل هو استيلاء على السلطة؟
فسّر البعض هذه الإجراءات باعتبارها ترتيبات تهدف للاستيلاء على السلطة، ولكن من الأفضل أن ننظر إليها على أنها محاولة لإضفاء الطابع المهني على القوات المسلحة، وتعزيز السيطرة المدنية على الحياة السياسية بشكل أكبر، والتعامل مع التهديدات الأمنية الجديدة التي تشهدها الجزائر منذ عام 2011.
التحديات الإقليمية تشهد اطرادًا هائلًا في منطقة شمال أفريقيا والساحل القريب من الجزائر، مع تنامي نفوذ الدولة الإسلامية ضمن صراعات ليبيا وتونس ومالي.
مدين، المعروف باسمه الحركي “توفيق”، أو باسمه الأكثر شهرة، رب الجزائر، كان يُنظر إليه على نطاق واسع باعتباره الرجل العارف والقوي الذي يدير جهاز مخابرات مبني على غرار جهاز المخابرات الروسية KGB، دائرة الاستعلام والأمن الجزائرية، اختصارًا “DRS”، وإبعاده عن منصبه، كان بمثابة رصاصة الرحمة التي أُطلقت على صراع السلطة المستمر منذ الحرب الأهلية الجزائرية في تسعينيات القرن الماضي، بين فصيل النظام الذي يلتف حول بوتفليقة، والفصيل الآخر الملتف حول مدين.
مدين والجنرالات الآخرين التابعين له، كانوا خلف إلغاء الانتخابات والانقلاب العسكري الذي حصل في عام 1992، والشخص الذي خلفه اليوم على رأس دائرة الاستعلام والأمن، يلائم عملية إعادة الهيكلة واسعة النطاق التي تجري على قدم وساق ضمن الدائرة، وتهدف إلى تجريدها من سلطاتها ضمن السياسة الداخلية والخارجية، وإعادة تركيز أعمالها على مهام التجسس ومكافحة التجسس.
انتخب بوتفليقة لأول مرة في عام 1999 من منصة المصالحة الوطنية، واعدًا بإعادة السياسة لحكمها المدني من خلال عبارته الشهيرة: “سوف لن أكون أبدًا ثلاثة أرباع رئيس”، في إشارة إلى قبضة الجيش المستحكمة على القيادة المدنية للبلاد خلال أغلب فترة التسعينيات.
لكن ومع ذلك، عدد قليل من الجزائريين توقع قدوم هذه المرحلة من مراحل التغيير في الأجيال الحاكمة، كون البلاد معتادة بشكل عام على الالتزام باستمرارية المؤسسات البيروقراطية التي تدير المؤسسات السرية ضمن الدولة الشمال أفريقية.
الأزمة الاقتصادية
العديد من الجزائريين يخشون بأن انخفاض أسعار النفط سيجر بلادهم مباشرة نحو أزمة اقتصادية تشابه تلك التي عانت منها في أواخر ثمانينيات القرن المنصرم، ويقدر مسؤولون بأن البلاد يمكنها أن تستمر بنظام الإعانات والإنفاق الاجتماعي عند مستوياته الحالية لمدة سنتين على الأكثر من الآن، مما سيجلب مخاطر أعمال الشغب والاضطرابات الاجتماعية المكثفة عقب انتهاء تلك الفترة.
لذلك، وعلى الرغم من أن الانتقال يتم بسلاسة على مستوى الشارع، ولكن يمكننا ملاحظة وجود الكثير من الانفعالات في الخطاب العام، حيث صرح رئيس الوزراء الأسبق، سيد أحمد غزالي، أمام منتدى عام قبل أيام قليلة بقوله “أخشى الانهيار العام”، كما اتهم الجنرال المتقاعد، حسين بن حديد، شقيق الرئيس الحالي، سعيد، بشن حملة لتفتيت جميع مؤسسات الدولة بغية انفراده بالقيادة، فضلًا عن أن رئيس الوزراء السابق علي بن فليس، استغل الكثير من المناسبات لتوجيه أصابع الاتهام لما يسميه “فراغ السلطة”.
ولكن مع الهدوء الذي يعم البلاد، يبدو كبار المسؤولين الأمنيين والدبلوماسيين الأجانب متفائلين حول الوضع الحالي، وهم يفسرون هذه الانفعالات على أنها ناجمة عن عملية إعاد هيكلة جهاز الأمن الجزائري، وباعتبارها مجرد رسائل ضعيفة يبثها الجهاز الأمني صعب المراس والخارج عن السيطرة.
التطرف العنيف
القيادات الأمنية الجديدة في الجزائر لم تغد أصغر سنًا فحسب، بل أنها أصبحت أيضًا تتبع نظام ترقية جديد يقوم على أساس الخبرة في مكافحة التطرف العنيف، فمع وجود المتشددين الإسلاميين الذين يقاتلون على ثلاثة من الحدود الجزائرية، عين بوتفليقة الجنرال عثمان “بشير” طرطاق ليحل محل مدين.
طرطاق اكتسب سمعة جيدة باعتباره قائدًا ميدانيًا منضبطًا، وذلك من خلال نجاحاته في حملات مكافحة الإرهاب خلال حرب التسعينيات، ويبدو أنه في موقف ملائم وقوي لحماية الجزائر من خطر توسع الدولة الإسلامية في أفريقيا، ومن المتوقع أن يعزز موقف القيادة الجزائرية في منطقتي المغرب والساحل، وهي إحدى الأهداف الإستراتيجية الحالية لدولة الجزائر.
إذا استمر هذا الانتقال السلس بالقيادة دون وقوع حوادث مفاجئة، فالجزائر، وبحكم جغرافيتها وثروتها، قد تفي بقدرها لكي تكون مرتكزًا لاستقرار كل من المغرب والساحل؛ فالجزائر تعارض التدخلات الخارجية، تدعم السلامة الإقليمية، وتشجع على الحوار والتوافق مع الإسلاميين، كما أنها على استعداد للتعاون في عمليات مكافحة الإرهاب واجتثاثه، وسبق لها وأن لعبت بالفعل دورًا إيجابيًا في مالي وليبيا وتونس في الوقت الذي تشرذمت به العديد من الجهات الفاعلة الإقليمية أو شجعت على الصراع والاستقطاب.
أخيرًا، فإن مواصلة حلحلة الجزائر لشؤونها الداخلية بهدوء، ليس مجرد ضرورة محلية، بل إنها عملية تشتد الحاجة لها من قِبل دول الجوار، لتعول على الجزائر باعتبارها مرتكزًا صلبًا في الأوقات العصيبة.
المصدر: الجزيرة الإنجليزية